الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»

يذهبون للقتال في سوريا سرا.. وتشيع جثامينهم في العراق علنا.. وبغداد تغض الطرف

الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»
TT

الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»

الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»

تغير الواقع الميداني في العاصمة السورية وريفها، لصالح القوات الحكومية، منذ وصول دفعات من مقاتلين ميليشيات عراقية مثل «الفضل أبو العباس»، وعصائب الحق.. وغيرها، للمشاركة في القتال إلى جانب القوات النظامية، بل صارت درعا واقية لنظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وإذا كانت مشاركة حزب الله اللبناني تتركز في المناطق الحدودية مع لبنان، كما يقول ناشطون سوريون لـ«الشرق الأوسط»، أبرزها القصير بريف حمص الجنوبي، وريف دمشق الشمالي، مع مشاركة محدودة في مناطق الغوطة الشرقية وبعض الأحياء المحيطة بالسيدة زينب، فإن المقاتلين العراقيين يشكلون عصب المقاتلين الأجانب مع النظام في جنوب دمشق.
ومن الصعب تحديد عدد العراقيين المشاركين في القتال، نظرا لأن الوجود العراقي في مناطق جنوب دمشق يعود إلى عام 2001. ويقول مصدر معارض في جنوب العاصمة لـ«الشرق الأوسط» إن أعداد المقاتلين العراقيين التقديرية «ترتكز أساسا على مصادر عراقية، حيث يرسل المقاتلون العراقيون بهدف الدفاع عن المواقع الدينية الشيعية، أبرزها مقام السيدة زينب في جنوب العاصمة»، لكن تلك الأعداد التي تقدر بستة آلاف مقاتل على الأقل «ليست دقيقة، لأن العراقيين الموجودين في سوريا والذين يقاتلون إلى جانب النظام لا يخضعون لتلك الإحصاءات».

تستقطب منطقة السيدة زينب في ريف دمشق أكبر أعداد للعراقيين الشيعة الذين نزحوا من العراق في الفترة الممتدة من 2001 و2004، هربا من التدابير التي اتخذها نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين بحقهم قبل الغزو، وارتفعت أعدادهم بشكل قياسي في عام 2003 مع موجات النزوح بعد غزو العراق في عام 2003. ويقول ناشطون سوريون إن أعدادا كبيرة من العراقيين «حولت الشوارع المحيطة بمنطقة السيدة زينب إلى أحياء عراقية صرفة، وبقيت حتى بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011».
وظهرت نتائج مشاركة العراقيين في القتال، في خريف عام 2012، بعد وصول الاشتباكات إلى ريف دمشق الجنوبي بين القوات النظامية وقوات المعارضة.
وفي أول إجراء اتخذه المقاتلون العراقيون، اندفعوا إلى مقام السيدة زينب، وحاولوا إنشاء منطقة أمنية تعزله عن مواقع سيطرة المعارضة في الحسنية والذيابية جنوبا، وطريق المطار شمالا. وتقول مصادر عراقية في سوريا إن الدفعة الأولى التي تكفلت حماية المقام بلغ تعدادها 600 مقاتل، و«ظهرت بعد كتابة شعارات مذهبية على حائط مقام السيدة زينب، أبرزها (سترحلين مع النظام)»، وهو ما تنفيه المعارضة، قائلة إن «اختلاق هذه الذريعة هدف إلى تبرير تدخلهم للقتال إلى جانب النظام، وحشد تأييد الشيعة في العراق، واستقطاب المزيد من المقاتلين».
وتجاوز الميدان السوري هذه الذرائع في الوقت الراهن، علما بأن مصادر المعارضة تؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن المهام الأساسية للعراقيين، الوافدين منهم والمقيمين في السيدة زينب، «تتركز في المناطق المحيطة بالمقامات الدينية قبل أن تتوسع». ويقول مصدر بارز من مجلس قيادة الثورة في ريف دمشق، إن العراقيين «يقاتلون بشكل أساس في منطقة السيدة زينب، وفي محيط مقام سكينة بنت علي في داريا، الذي تسيطر عليه المعارضة، فضلا عن شحنهم للقتال في قريتين شيعيتين بريف حلب، هما نبل والزهراء، منذ شهر أغسطس (آب) الماضي، بعد تضييق الحصار على البلدتين اللتين تضمان أكثر من أربعين ألف شيعي».
ويعد «لواء أبو الفضل العباس» أبرز الميليشيات التي تقاتل هناك. وكان اللواء ظهر على الساحة السورية مع حلول شتاء عام 2012 وفي منطقة السيدة زينب المتاخمة للعاصمة دمشق في شكل فرقة عسكرية عالية التنظيم والتدريب، متمتعة بتسليح حديث ونوعي على مستوى الأفراد مما يجعلها شديدة الفعالية في حرب المدن والشوارع. فضلا عن ذلك، يتمتع اللواء بهيكلية وقيادة عسكرية واضحة، وهو على تنسيق تام مع ماكينة الجيش السوري النظامي.
غالبية المقاتلين في صفوف اللواء هم من العراقيين وينتمون إلى فصائل شيعية مقاتلة في بلادهم مثل «عصائب أهل الحق» و«جيش المهدي». ومع أن هناك ألوية أخرى مثل «ذو الفقار» و«عمار بن ياسر» و«كتائب سيد الشهداء» و«أسد الله الغالب»، إلا أن «لواء أبو الفضل العباس» هو الأكثر تأثيرا. وبالنسبة للحكومة العراقية فإنها أعلنت مرارا أن أحداث سوريا سوف تؤثر على العراق بشكل مباشر، معلنة في الوقت نفسه تمسكها بسياسة عدم التدخل في سوريا، وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد ومع المعارضة. لكن قوى غربية اتهمت بغداد بغض الطرف عن مساعدات خارجية للأسد، منها استخدام طائرات إيرانية في المجال الجوي العراقي لنقل أسلحة إلى سوريا. لكن بغداد تنفي تلك الاتهامات وتنفي السماح لمقاتلين شيعة بالسفر إلى سوريا بحرية أو تقديم أي دعم لهم.
واستطاع المقاتلون العراقيون، ويتصدرهم «لواء أبو الفضل العباس»، من تحقيق انتصار للنظام في الأحياء المحيطة بالسيدة زينب، وأهمها الذيابية والحسنية في الخريف الماضي، قبل انتقالهم للقتال على محاور الاشتباكات المتواصلة حتى هذا الوقت في ببيلا، والحجر الأسود، ومخيم اليرموك، وسبينه، بالإضافة إلى تمددهم شرقا، بهدف عزل طريق المطار الأكثر توترا عن مناطق نفوذهم في السيدة زينب.
وقالت مصادر المعارضة الأسبوع الماضي إن المقاتلين العراقيين كانوا رأس حربة القتال في شبعا على طريق المطار، حيث قضى منهم ما يزيد على 12 مقاتلا أثناء محاولتهم صد هجوم نفذته جبهة النصرة وكتائب إسلامية أخرى في المنطقة. إضافة إلى ذلك، تشير المصادر إلى أن العراقيين شاركوا بفعالية في الهجوم على المليحة في الغوطة الشرقية، شمال العاصمة السورية.
وينظر معارضون إلى مشاركة العراقيين على أنها «محاولة من النظام لسد النقص في عدد مقاتليه والمخلص الذي ينتشر على مساحة واسعة من القتال في سائر أنحاء البلاد»، مشيرين إلى أن النظام «يستخدمهم كمرتزقة في حربه ضد المعارضة، ويتنقل بهم في أرجاء دمشق وريفها ويستخدمون كمقاتلين في الواجهة، وكحرس في الخطوط الخلفية».
وفي حلب، يتصدر هؤلاء محاور القتال على أطراف نبل والزهراء، بسبب نقص الكثير في القوات النظامية التي تقاتل في المنطقة. ويقول ناشطون إن النظام «يستطيع تجنيدهم عقائديا، من خلال زجهم في محاور قتال يوجد فيها الشيعة، لأنه لا يستطيع تجنيدهم للقتال إلى جانبه من غير خلفية عقائدية». ويشير هؤلاء إلى أن «كل فصيل أجنبي يقاتل إلى جانب النظام له دوره الذي يحثه على القتال، فإذا كان العراقيون يقاتلون في مناطق يوجد فيها الشيعة على نطاق واسع، فإن حزب الله يحشد للقتال في المناطق الحدودية بذريعة تأمينها».
ولا تتبنى السلطات العراقية أي طرف شيعي يقاتل أو يدعم جهة معينة في الحرب الدائرة في سوريا منذ نحو ثلاث سنوات، وتكرر نفيها السماح بإرسال مقاتلين إلى هناك حتى تحت ذريعة الدفاع عن الأماكن الشيعية المقدسة، وفي مقدمتها مقام السيدة زينب. لكن الواقع أن بعض الميليشيات الشيعية، بينها «حركة حزب الله» و«عصائب أهل الحق»، لا ترى «مانعا شرعيا» في التوجه إلى هناك ما دامت المهمة تنحصر في الدفاع عن المراقد الشيعية، خصوصا بعد «نبش» قبر الصحابي عدي بن حجر من قبل تنظيم القاعدة هناك، والسيرة على مقام سكينة في داريا، وهي مقامات بأغلبها ساهمت السلطات الإيرانية في بنائها وتسليط الأضواء عليها، كما ينظم الشيعة الإيرانية رحلات دينية إليها.
وعلى الرغم من تكرار النفي الرسمي العراقي بشأن إرسال مقاتلين من العراق يقاتلون إلى جانب نظام الأسد في الحرب الدائرة منذ نحو ثلاث سنوات فإن جهات عراقية غير رسمية تعترف إما بتشجيع من يذهب إلى هناك بحجة الدفاع عن المراقد الشيعية المقدسة، وإما أنها ترى أنه جزء من تكليف شرعي لا يحتاج إلى موافقة الحكومات.
النفي العراقي الرسمي جاء على لسان وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري أكثر من مرة، كما جاء على لسان وزارة الداخلية لأكثر من مرة أيضا. الحقائق على الأرض تشير إلى أن هناك مواطنين عراقيين قد يذهبون سرا إلى سوريا سواء من تلقاء أنفسهم أو بترتيب وربما بتشجيع من جهات معينة، لكنهم حين يقضون في المعارك فإن عودتهم إلى العراق لا تكون علنية فقط، بل كثيرا ما تجرى لهم مراسم تشييع كبيرة يلعلع فيها الرصاص وترفع الكثير من اللافتات السوداء في شوارع المدن التي ينتمون إليها، وغالبا ما تكون من المحافظات الوسطى والجنوبية ذات الغالبية الشيعية، وكثيرا ما يشارك في مراسم التشييع مسؤولون في الحكومات المحلية أو في الأحزاب الشيعية التي تقود السلطة حاليا في العراق.
الجهات الشيعية التي كثيرا ما يشار إليها على أنها هي من ترسل أو تغض الطرف عن إرسال مقاتلين شيعة يتولون حراسة مرقد السيدة زينب جنوب مدينة دمشق هي جيش المهدي التابع للتيار الصدري والمجلس الأعلى الإسلامي وعصائب أهل الحق وحزب الله - النهضة الإسلامية وكتائب حزب الله العراقي، والأخيرة تعتبر امتدادا للواء أبو الفضل العباس.
التباين في وجهات النظر والمواقف التي يجري التعبير عنها غالبا ما تمثل تباعدا بين مواقف مختلف الأطراف بما في ذلك التي تؤيد إرسال مقاتلين شيعة إلى سوريا، لكن ليس تحت أي غطاء رسمي. فلجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي وعلى لسان العضو فيها حامد المطلك ترى أن «العراق دخل طرفا في الأزمة السورية بطريقة لم تكن موفقة». ويقول المطلك في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «الحكومة العراقية التي كانت كثيرا ما تتهم النظام السوري بأنه هو من يقف خلف الإرهابيين الذين كانوا يتسللون إلى العراق من الأراضي السورية فإنها اليوم تكيل بمكيالين عندما تدافع عن النظام في سوريا وتغض النظر عن مشاركة عراقيين في القتال هناك بينما هي تعيب على الآخرين فعل ذلك». ويرى المطلك أن «الأزمة السورية تركت تأثيراتها السلبية على مجمل الأوضاع في العراق، وذلك لجهة كون الحدود سائبة بين البلدين، حيث يخرج منها المقاتلون إلى هناك تحت فتاوى الجهاد، وتدخل منها المجاميع المسلحة والإرهابية»، معتبرا إن «ذلك يجري كله بترتيب إيراني واضح».
ما يبدو مسكوتا عنه لم يعد كذلك إلى حد كبير، ففي تصريح تلفازي له مؤخرا أعلن نائب رئيس كتلة المواطن البرلمانية التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي عبد الحسين عبطان أن «قتال بعض الشباب الشيعة في سوريا ليس خروجا على قانون الدولة». وأضاف عبطان أنه «إذا كانت الدولة السورية غير قادرة على حماية مرقد السيدة زينب فإن هناك متطوعين من الشيعة للدفاع عن كل مرقد ومكان مقدس في العالم»، مشيرا إلى أن «الحرب لم تعد اليوم بين النظام السوري وبعض الإرهابيين كالجيش الحر». وأضاف عبطان أن «قتال بعض الشباب الشيعة في سوريا لا يعتبر خروجا على قانون الدولة، لأنهم لا يقاتلون أحدا»، لافتا إلى أن «أولئك الشباب يحمون المراقد لأن ذلك جزء من واجبنا».
هذا الموقف يعد تطورا على الموقف العام الذي غالبا ما يكون غير واضح المعالم لدى بعض القيادات السياسية الشيعية، لا سيما التيار الصدري، ومن خلال «جيش المهدي» رغم صدور أوامر بتجميده من قبل زعيمه مقتدى الصدر. ففي الوقت الذي كشف فيه أبو عبد الله المتحدث باسم حزب الله - النهضة الإسلامية الذي يتزعمه واثق البطاط الذي أعلن عن تشكيل جيش أطلق عليه «جيش المختار» في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الأوامر صدرت بتجميد عملية إرسال مقاتلين تابعين للحزب إلى سوريا في الوقت الحاضر»، فإن التيار الصدري أعلن نفيه أن يكون قد قام بإرسال مقاتلين من جيش المهدي إلى هناك. أبو عبد الله أضاف أن «الأوامر بالتجميد صدرت من الأمين العام واثق البطاط لقناعته أن ما يجري في سوريا هو شأن سوري ولا يجب التدخل فيه». المفارقة أن حزب الله - النهضة الإسلامية كان يرسل مقاتلين طبقا لما أكده المتحدث باسمه أبو عبد الله، لكنه توقف دون إيضاح المزيد من الأسباب في الوقت الحاضر، لكن أمين عام كتلة الأحرار الصدرية ضياء الأسدي سبق له أن نفى أن يكون التيار الصدري قد أرسل مقاتلين من جيش المهدي إلى سوريا. وفي مؤتمر صحافي كان قد عقده في مقر الهيئة السياسية للتيار الصدري أكد الأسدي أن «الكلام عن إرسال عناصر من جيش المهدي إلى سوريا تجنٍّ وتهويل، لذلك ننفي الأمر جملة وتفصيلا»، مؤكدا أن «مهام جيش المهدي داخل العراق وليس خارجه». وأضاف الأسدي أن «المعارضة السورية قد تريد أن تصرح بما تريد، لكن الواقع غير ذلك وزعيم التيار مقتدى الصدر نفى ذلك مرارا، وهو ضد التدخل في شؤون الغير». غير أن الموقف الأكثر وضوحا من بين كل مواقف الحركات والأحزاب الشيعية في العراق هو ما عبرت عنه كتائب عصائب أهل الحق التي يتزعمها قيس الخزعلي الذي كان أحد قادة التيار الصدري المقربين من مقتدى الصدر قبل أن ينشق عنه عام 2006، ويشكل هذه الحركة التي يعدها الصدر بأنها قريبة اليوم من ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي. الناطق الرسمي باسم العصائب أحمد الكناني أكد في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «العصائب سبق لها أن أعلنت موقفا رسميا من هذا الأمر قوامه أن الدفاع عن المقدسات الإسلامية واجب على كل مسلم سواء كان سنيا أم شيعيا»، مشيرا إلى أن «الاعتداء على المقدسات الشيعية قد يثير فتنة طائفية خشية أن تكون هناك ردود فعل حيال ذلك مثلما حصل في العراق عام 2006 عندما جرى تدمير مرقدي الإمامين العسكريين، حيث أدى الأمر إلى صراع طائفي، ولذلك فإننا نحاول تجنيب المنطقة هذا الصراع من خلال الدفاع عن مرقد السيدة زينب حتى لا تحصل ردود فعل غير محسوبة في حال تعرض المرقد لاعتداء». ونفى الكناني أن «يكون أي من مقاتلي الحركة يقاتل إلى جانب قوات النظام في سوريا، بل مهمتها تنحصر في الدفاع عن الأماكن المقدسة». وبشأن ما إذا كانت الحركة تبنى ذلك رسميا أو تغض النظر عمن يقوم بذلك قال إن «الحركة تضم مقلدين لعدة مراجع وليست مرجعا واحدا، وبالتالي فإن هناك مراجع شيعة كبارا أفتوا بالدفاع عن المقدسات الشيعية، وهذا يعني أن مقلديهم لدينا يذهبون، وهناك مراجع لم تصدر مثل هذه الفتاوى، وبالتالي لا أحد يذهب»، معتبرا أن «التكليف الشرعي للفرد وليس الموقف السياسي هو من يحدد الذهاب من عدمه». وردا على سؤال بشأن ما إذا كانت هناك حقوق شرعية للمقاتلين الذين يقتلون هناك قال إن «لدينا مؤسسة للشهداء، ولكن موضوع المقاتلين الذين يقضون في سوريا لم يدرج بعد في سياق عملها لأننا لسنا من يتولى ذلك بشكل رسمي، ولكن هناك جهات ومنظمات مجتمع مدني هي من تتولى مساعدة ذوي هؤلاء في حال حصل لهم شيء هناك».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.