رحلة الحج.. من صورة الكلمة إلى كلمة الصورة

رحالة قدموا وصفًا دقيقًا للديار المقدسة ومصورون التقطوا تفاصيلها

باب السلام في المسجد النبوي 1904 - صورة للبيت الحرام 1904 ({الشرق الأوسط}) - صورة التقطها محمد أفندي تظهر فقراء من الحجاج وأهل المدينة بانتظار الحصول على طعام - صورة التقطها أفندي عام 1904 لباحة المسجد النبوي
باب السلام في المسجد النبوي 1904 - صورة للبيت الحرام 1904 ({الشرق الأوسط}) - صورة التقطها محمد أفندي تظهر فقراء من الحجاج وأهل المدينة بانتظار الحصول على طعام - صورة التقطها أفندي عام 1904 لباحة المسجد النبوي
TT

رحلة الحج.. من صورة الكلمة إلى كلمة الصورة

باب السلام في المسجد النبوي 1904 - صورة للبيت الحرام 1904 ({الشرق الأوسط}) - صورة التقطها محمد أفندي تظهر فقراء من الحجاج وأهل المدينة بانتظار الحصول على طعام - صورة التقطها أفندي عام 1904 لباحة المسجد النبوي
باب السلام في المسجد النبوي 1904 - صورة للبيت الحرام 1904 ({الشرق الأوسط}) - صورة التقطها محمد أفندي تظهر فقراء من الحجاج وأهل المدينة بانتظار الحصول على طعام - صورة التقطها أفندي عام 1904 لباحة المسجد النبوي

رغم أن رحلة الحج إلى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، كانت تستهوي عشرات المستشرقين الذين قطع بعضهم الفيافي والقفار وخاض البحار من أجل تدوين وتوثيق رحلة الحج المحفوفة لديهم بالأسرار والألغاز، فإن أشهر الصور الفوتوغرافية التي وثقت مناسك الحج، والطبيعة السكانية للمدينتين المقدستين التقطها مصورون عرب تمرسوا في حمل واستخدام الكاميرا في وقت مبكر.
منذ القرن السادس عشر الميلادي كان الرحالة المستشرقون يقصدون بوسائل مختلفة الوصول إلى الحجاز وخاصة في موسم الحج، وسجل مستشرقون من إيطاليا وبريطانيا وهولندا والبرتغال رحلاتهم للجزيرة العربية برًا أو بحرًا، وتسجيل وصفي دقيق لرحلة الحجاج إلى الديار المقدسة، مع تدوين انطباعاتهم عن السكان المحليين والمهن الوظيفية، وطقوس الحج، والمخاطر المحدقة بالحجاج خلال رحلتهم. لكن أغلب تلك الكتابات لم تضف جديدًا للذاكرة الوثائقية عما كتبه الرحالة العرب والمسلمون منذ الرحالة الفارسي ناصر خسرو شاه عام 442 هجرية، وهي الرحلة الأقدم في هذا المجال، مرورا برحلة ابن جبير الأندلسي (حج عام 578 هجرية من غرناطة إلى جدة)، وابن بطوطة (رحلته إلى الحج كانت عام 726هـ)، وعبد القادر الجزائري (عام 1241هـ - 1825م).
من بين كتب الرحلات يأتي كتاب (الحج إلى مكة المكرمة) الذي طبعته مكتبة الملك عبد العزيز تحت عنوان (ياباني في مكة)، ويصف مؤلفه تاكيشي سوزوكي الذي أصبح يعرف فيما بعد باسمه الجديد الحاج محمد صالح، تفاصيل رحلته إلى مكة المكرمة في العام 1938 حيث قصدها بالباخرة من مرفأ كوبة في اليابان، وانتقل إلى مصر مرورًا بقناة السويس على باخرة مصرية، ثم صوب وجهه نحو السعودية لأداء مناسك الحج والإحرام.
لكنّ، بعد أن كان الرحالة يعتمدون على التوثيق بالكتابة والوصف، حلّت الكاميرا منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر في مقدمة أدوات التوثيق لرحلة الحج، وامتازت الصور التي التقطت خلال تلك الفترة بأنها التقطت صورة وصفية للأماكن المقدسة، وللطبيعة الجغرافية والسكانية للمدينتين، وكذلك للمشاعر المقدسة، وأصبحت تلك الصور شاهدة على الحياة الدينية والاجتماعية في الحجاز، والعقبات التي تعترض قوافل الحجاج.
ومثلما يكتب الرحالة، فإن المصورين حرصوا على التقاط صور توثق حركة الحجاج من ديارهم عبر الطرق البرية أو البحرية، ومواقيت الحج، ثم دخولهم في قوافل يركبون الإبل أو مشاة إلى مكة، ووصولهم إلى البيت الحرام مرورًا بأزقة ترابية تحيطها منازل من طبقة أو طبقتين، في حين يزدحم السكان في تقديم الخدمات أو بيع المنتجات للحجاج، ثم تصوير لأبواب الحرم المكي التي يلج منها الحجاج، وصولاً للكعبة المشرفة وصحن الطواف ومقام إبراهيم وبئر زمزم. وكذلك صور حركة الحجاج نحو مشعر منى وصعيد عرفات حيث الكثبان الرملية تظهر القوافل وكأنها في صحراء جرداء. ومن تلك الصور ما يتعلق بحالة السكان في المدينة المنورة التي كان الفقراء يكثرون فيها، وتظهر إحدى الصور عشرات الأطفال والنساء ينتظرون الحصول على معونات غذائية من زعماء الحجيج.
وتعود أقدم الصور القديمة لمكة المكرمة والمدينة المنورة، للعام 1880 حين التقط ضابط مصري رفيع يدعى محمد صادق بك، مئات الصور خلال ثلاث رحلات قام بها للديار المقدسة، بين عامي 1860 و1880. ونشرها عبر أربعة مؤلفات، ويوجد المئات من هذه الصور في مكتبة الملك عبد العزيز.
كما قام طبيب عراقي هو عبد الغفار البغدادي بالتقاط مجموعة من الصور خلال أدائه الحج عام 1885، الذي التقى هناك المستشرق الهولندي سنوك هرجرونجي (1857 - 1936) حيث كان يقوم برحلة للجزيرة العربية بهدف توثيق مناسك الحج، وفي مكة تعرف على البغدادي حيث عملا على توثيق رحلة الحج ومخيمات الحجيج والحياة العامة في مكة والمشاعر المقدسة عبر كاميرا بدائية.
بعض هذه الصور ظهرت قبل ست سنوات في معرض للصور النادرة أقيم في دبي بالتعاون بين جامعة ليدن ومعرض الربع الخالي، حيث خضت الصور للترميم في هولندا. عمل هرجرونجي على جمع وتوثيق تلك الصور التي التقطها البغدادي، وهي تكشف جانبا مهمًا من الحياة العامة في مكة المكرمة في القرن التاسع عشر، حيث تظهر الصور نساء لا يغطين وجوههن، ورجالا ونساء يدخنون الشيشة، كما تظهر مسيرة الحجيج في رحلة أداء المناسك، إلا أنها تبرز الجانب الروحي في فريضة الحج ومكانته في نفوس المسلمين.
بين عامي 1904 و1908 قام المصور المصري محمد علي أفندي السعودي برحلة إلى مكة التقط خلالها مئات الصور وثّقت رحلة الحج وقدمت صورًا قديمة لمواكب الحجيج والمشاعر المقدسة في منى وعرفات التي كانت عبارة عن مناطق أودية تترامى بين سلسلة جبال تفصل منى عن مكة وصحراء تضم عرفات ومزدلفة، في حين كانت المنازل ملاصقة بالبيت الحرام..
المصور أفندي قدم إلى مكة من مصر التي كانت تحت الإدارة العثمانية، وقد عاش إبان التحولات الهامة التي مرت بها مصر بداية القرن العشرين، وشهدت تلك المرحلة ضعف سيطرة الإمبراطورية العثمانية، ونشأة حركة الأتراك الشباب في تركيا، وتزامنت رحلته مع تشييد سكة الحجاز الحديدية التي امتدت من دمشق إلى المدينة المنورة، والتي غيرت طرق الحج المعتادة بعد ذلك.
اشتغل فريد قيومجي كحيل وهو باحث متخصص في أدب الرحلات، والصحافي روبرت غراهام، بجمع تلك الصور وتوثيقها في كتاب حمل عنوان: «مصِور في الحج» صدر عن مشروع «كلمة» التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
ويُعد الكتاب أحد أهم كتب التوثيق المصور لرحلة الحج باستخدام الكاميرا والصورة، وقدم المصور محمد علي أفندي السعودي، برحلتي حج ضمن حاشية أمير الحج الرسمية الممثلة في قافلة الحجاج المصرية التي تصاحب «المحمل» أو «كسوة الكعبة». وعند عودته، سلم السعودي نتائج رحلته للشيخ محمد عبده، وخاطبه واصفا إياه بمفتي الديار المصرية، قائلا: «أقدم لك، بناء على طلبك، ما استطعت كتابته بقلم الرصاص في هذه المرحلة، وسأزودك بما تبقى من معلومات بعد الانتهاء من كتابي الذي يتحدث عن رحلة الحج ووصف الحجاز، بإذن الله».
إلى جانب الصورة، دخل الفيلم السينمائي والوثائقي متأخرًا في تسجيل رحلة الحج، بينها فيلم (الطريق إلى مكة) المقتبس من كتاب بنفس العنوان للمستشرق النمساوي ليوبولد فايس الذي أصبح معروفًا باسمه الجديد: محمد أسد، حيث تحّول كتابه (الطريق إلى مكة) إلى فيلم سينمائي نفذه المخرج النمساوي جورج ميتش، وهو يرصد سيرة محمد أسد وقصة إسلامه ورحلته إلى مكة.
فيلم آخر هو «الرحلة إلى مكة» يتخذ من رحلة ابن بطوطة في القرن الرابع عشر موضوعًا له، يحكي الفيلم في 45 دقيقة رحلة ابن بطوطة من بلدته طنجة في المغرب وعبر الصحراء على امتداد آلاف الأميال إلى مكة لأداء الحج، كما يتطرق الفيلم للمخاطر والصعاب التي تعرض لها ابن بطوطة خلال رحلته الطويلة التي أخذته إلى القاهرة ومن ثم التوجه إلى دمشق ليصحب الركب المسافر إلى الحجاز ويمزج الفيلم بين الصورة التي كان عليها الحج في الماضي وتلك التي يبدو عليها الآن، وقد أنتج الفيلم بالتعاون بين مؤسسات سعودية ثقافية وخاصة، ويتناول رحلة ابن بطوطة المثيرة التي نقلته من مدينته الأصلية طنجة شمالي المغرب إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ما بين 1325 و1326 ميلادية، والصعاب التي اكتنفت رحلته في طريقه لأداء الحج عبر 3 آلاف ميل قطعها.
ويحفل الفيلم بلقطات لصور جوية من طائرة هليكوبتر حلقت على ارتفاع 200 قدم للكعبة المشرفة خلال موسم الحج في ديسمبر (كانون الأول) 2007. ولعب دور ابن بطوطة الممثل شمس الدين زينون، كما شارك الممثلون حسام جانسي ونديم صوالحة ونبيل الوهابي في الفيلم وهو من إخراج بروس نيبور.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)