الانتخابات الفلسطينية المعلقة

ضغوط إقليمية ومشكلات سياسية وقانونية وسيادية توقف أول تجربة متفق عليها منذ 10 سنوات

الانتخابات الفلسطينية المعلقة
TT

الانتخابات الفلسطينية المعلقة

الانتخابات الفلسطينية المعلقة

لم يخيب قرار المحكمة العليا الفلسطينية، بوقف الانتخابات المحلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، التي كانت مقررة يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، توقعات كثيرين لم يصدّقوا أصلاً أنها ستجرى. وظلوا على مدار أسابيع طويلة يجاهرون في الشوارع والمجالس ومواقع التواصل الاجتماعي، وحتى في الوكالات الإخبارية المحلية، بقناعاتهم أن هذه الانتخابات «ستلغى». ولقد كان هؤلاء، على الأقل، يؤمنون أكثر من غيرهم أن قوة الانقسام الكبير متعمقة إلى حد لن يسمح للديمقراطية أن تنتصر، كما في مرات سابقة، وأن إجراء الانتخابات سيعمق هذا الانقسام أكثر وأكثر، مثلما أن إلغاءها سيعمقه كذلك. وهذا ما كان. وبعد أسابيع طويلة وصعبة وقاسية، أظهرت أفضل ما عند البعض وأسوأ ما عند البعض الآخر، في حرب تشكيل القوائم، لطمت محكمة العدل العليا الجميع، بقرار وقف هذه الانتخابات لأسباب بدت أنها «إجرائية»، لكنها كانت في حقيقة الأمر أكثر من ذلك، فهي سياسية وفصائلية وإقليمية وقانونية وسيادية.
ومع أن هذه الانتخابات انتخابات مجالس محلية «بحتة»، أي أنها تخص بلديات خدماتية ومجالس قروية، لكن أهميتها تكمن في أنها كانت ستكون «بروفة» لفحص شعبية الفصيلين الأكبر، فتح وحماس، في أول «مكاسرة» مباشرة لهما منذ عام 2006، كما أنها كانت تمثل لدى كثيرين أول «بارقة أمل» عملية لمغادرة الانقسام، باعتبارها خطوة أولى تمهد لإجراء انتخابات عامة لاحقة، تحدد الحزب الحاكم في كرسي الرئاسة والمجلس التشريعي الفلسطيني، وبالتالي، الحزب الذي سيحكم البلاد والعباد.
اختصر الرئيس الفلسطيني محمود عباس مسألة الانتخابات المحلية برمتها، حين قال قبل أيام قليلة فقط من إعلان إلغاء الانتخابات: «صحيح أن هذه الانتخابات خدمية، لكن لها طابعًا سياسيًا، لذلك يجب علينا أن نذهب لنمارس حقنا وننتخب من يمثلنا لكي نصل إلى قرار وطني يقول نعم لفلسطين التي توحدنا. والانتخابات ستكون إشارة للجميع بأن الشعب الفلسطيني يقرر بإرادته من يمثله من دون تدخلات». وأضاف عباس: «لنتكلم كفلسطينيين بعيدا عن كل التدخلات الخارجية لتحقيق أهدافنا في الحرية والاستقلال، لتكون لنا علاقات طيبة مع كل دول العالم، لكن من دون أي تدخل في شؤوننا الداخلية التي يجب أن تحترم، كما نحن نحترم الشؤون الداخلية لكل الدول».
لكن رياح الواقع لم تجرِ بما تشتهي سفن الرئيس.
أيام قليلة فقط زادت الضغوط الخارجية العربية لإلغاء العملية برمتها. ورفع محامون قضايا لمحكمة العدل العليا ضد الانتخابات لأنها لن تجرى في القدس، ولأن مرجعيتها القضائية في غزة ستكون في محاكم تابعة لحماس، وهي نفس المحاكم التي لا يعترف بها القضاء الفلسطيني، وأسقطت على الأقل 5 قوائم لحركة فتح في 5 بلديات بقطاع غزة. وساعات قليلة فقط قبل اتخاذ قرار العدل العليا، بدت الحرب على الأبواب بين فتح وحماس مع اشتعال المعركة الكلامية حول «الانتهاكات» و«العربدة» و«إفشال الانتخابات».
* مسوغات قرار متوقع
من دون مقدمات كثيرة، أصدرت محكمة العدل العليا، الخميس الماضي، قرارها بوقف إجراء الانتخابات المحلية إلى موعد غير محدد، بسبب «استكمال النظر في قضية» رفعها المحامي نائل الحوح، يطالب فيها بوقف الانتخابات، بسبب عدم إجرائها في مدينة القدس المحتلة. وعقدت المحكمة الخميس الماضي جلسة للنظر في الدعوى المرفوعة، وقررت عقد جلسة ثانية للنظر في القضية بتاريخ 21 سبتمبر (أيلول) الجاري. وجاء في قرار هيئة المحكمة، برئاسة القاضي هشام الحتو: «بالتدقيق والمداولة قانونا، والاستماع إلى أقوال وكيل المستدعين في جلسة علنية تمهيدية علنية، والاطلاع على البيّنات المقدمة في الطلب حول وقف تنفيذ القرارات المطعون فيها، فإن المحكمة تجد من خلال ما يدور حاليا بخصوص العملية الانتخابية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحرمان مدينة القدس وضواحيها من حق المواطنين في الانتخابات، وحول قانونية القرارات التي ستصدر في قطاع غزة حول الاعتراضات المقدمة من المرشحين المستدعين، الأمر الذي يؤثر في النتيجة الانتخابية، وبما أن الأصل أن تتم الانتخابات في جميع أرجاء الوطن، بما في ذلك القدس وضواحيها، وأن يكون لكل مواطن الحرية الكاملة في الاختيار والترشح والانتخاب والاعتراض، وبما أن هناك مناطق لا تتمتع بالاعتراف القضائي والقانوني نتيجة الظروف الواقعية التي يعيشون فيها بعد الاعتراف بالقضاء وتشكيل المحاكم، وخوفا من إصدار قرارات قضائية تكون موضع جدل ونقاش، وحفاظا على السلم الأهلي والمصلحة العامة، وقانونية انتخاب المرشحين، الأمر الذي نرى معه في ظل هذه الظروف، وما يحيط بها من آثار على آراء المواطنين، وبما أن القرار الإداري لا يمكن تجزئته، فإننا نقرر، وعملا بأحكام المادتين 286 و287 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية رقم 2 لسنة 2001، دعوة المستدعى ضدهم لبيان الأسباب الموجبة لإصدار القرار المطعون فيه، أو المانعة من إلغائه حتى إذا كانوا يعارضون في إصدار قرار قطعي عليهم تقديم لائحة جوابية خلال 15 يوما من تاريخ تبليغهم لائحة الدعوى، ووقف قرار مجلس الوزراء رقم (03-108-17-م. و-ر.ح) لعام 2016 بإجراء الانتخابات، مؤقتا، لحين البت في الدعوى، على أن يتقدم المستدعون بكفالة عدلية قدرها مائة ألف دينار أردني تتضمن للمستدعى ضدهم أي عطل وضرر قد يلحق بهم، وتعيين جلسة ليوم الأربعاء 21-9-2016 لنظر الدعوى».
وفورا قالت لجنة الانتخابات المركزية، إنها تلقت قرار محكمة العدل العليا في رام الله، وأعلنت بناء عليه أنها أوقفت جميع إجراءاتها المتعلقة بالانتخابات المحلية بشكل فوري، بعدما عملت اللجنة على مدى أكثر من شهرين لإيجاد بيئة صالحة للانتخابات. وقالت لجنة الانتخابات: «إنها إذ تحترم قرار محكمة العدل العليا، فإنها تأمل ألا يطول الوقت حتى تتمكن من استئناف العملية وإجراء الانتخابات، وتعود الديمقراطية إلى فلسطين، عودة يفتخر بها الشعب الفلسطيني أينما كان». ومثل لجنة الانتخابات فعلت الحكومة الفلسطينية المسؤولة عن إجراء الانتخابات، وقالت إنها تحترم قرار المحكمة الفلسطينية. وقال وزير الحكم المحلي حسين الأعرج، إن وزارته ستلتزم بشكل تام بقرار المحكمة العليا بوقف إجراء الانتخابات المحلية. وأكد الأعرج أن الهيئات المحلية المستقيلة، ستستمر كهيئات تسيير أعمال. لكن ذلك لم يكن مقبولا عند الفصيل الكبير حماس وآخرين كذلك.
* تبادل اتهامات متصاعد
فورا بعد صدور القرار، هاجمت حركة حماس قرار المحكمة مؤكدة رفضها للقرار. إذ قال سامي أبو زهري، الناطق باسم حماس، إن «قرار المحكمة العليا في رام الله هو قرار مسيس جاء لإنقاذ حركة فتح بعد سقوط قوائمها في عدد من المواقع الانتخابية»، مضيفا أنه «قرار مرفوض». كذلك عدّت الكتلة البرلمانية لحركة حماس قرار المحكمة العليا بوقف إجراء انتخابات البلديات، هروبا لحركة فتح من المشهد السياسي الانتخابي. لكن فتح ردت بالقول إن حماس هي التي أفشلت الانتخابات. وارتكزت فتح إلى قرارات القضاء التابع لحماس في غزة، الذي كان قد أسقط قبل قرار محكمة العدل العليا، عدة قوائم انتخابية تابعة لحركة فتح هناك، وهو ما وصفته الحركة بمجزرة ترتكب بحق قوائمها. وقال فايز أبو عيطة، المتحدث باسم حركة فتح، إن «حماس أفشلت وعطلت الانتخابات لأنها ذهبت إلى محاكم تابعة لها بطعون واهية». وكانت محكمة بداية خان يونس قررت إلغاء 5 قوائم تابعة لفتح، لمخالفتها القانون وعدم استيفاء الشروط اللازمة.
وقال أبو عيطة: «إن قوائم فتح تتعرض لمجزرة في محاكم حماس، ونحن لم نتوجه إلى محاكم حماس في غزة؛ لأننا كنا نعرف النتيجة سلفا»، مضيفا: «الغرض الأساسي من هذه الطعون والأحكام هو إفشال الانتخابات وإعفاء حركة حماس من هذا الاستحقاق الديمقراطي». ووصف أبو عيطة قرار العدل العليا «بالحل الأمثل لمواجهة غطرسة محاكم حماس التي تعمل على إفشال الانتخابات من خلال القبول بطعون غير بريئة، هدفها إسقاط قوائم فتح، وليس إسقاط أشخاص مرشحين من خلال تلك القوائم».
وهذه الحرب الكلامية لا يتوقع أن تتوقف خلال أيام وأسابيع على صعد مختلفة، بيانات وناطقين وناشطين ومواقع إخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي.
* إلى متى؟
لا أحد يملك إجابة حول الوقت الذي يمكن فيه الاتفاق مجددًا على انتخابات جديدة، وخصوصا أن فشل هذه الانتخابات، التي كانت ستجرى للمرة الأولى بمشاركة حماس منذ سيطرت على قطاع غزة في 2007، أظهر تعقيدات الوضع محليًا وإقليميًا.
ومنذ 2007 لم تجر في الأراضي الفلسطيني أي انتخابات رئاسية أو تشريعية بسبب الانقسام، وفشلت 3 محاولات لإجراء انتخابات محلية كذلك قبل أن تنجح بشكل جزئي ومبتور في عام 2012، عندما أجريت في الضفة الغربية فقط من دون مشاركة حماس التي اشترطت آنذاك التوصل إلى اتفاق مصالحة قبل إجراء الانتخابات المحلية، وقالت إن الانتخابات المحلية هي ثمرة للمصالحة وليس العكس.
وكانت آخر انتخابات قد أجريت بشكل مشترك بين الضفة وغزة، في عامي 2004 و2005، على 3 مراحل، ثم أعلنت السلطة أنها تريد إجراء الانتخابات 3 مرات عامي 2010 و2011 من دون أن تجريها فعلا. ويتوقع أن يعلن عباس لاحقا قرارا رئاسيا بشأن الانتخابات الحالية المعلقة.
* الأسباب غير المعلنة
بغض النظر عما أعلنته العدل العليا، وما يرى كثيرون أنه متعلق بعدم رغبة فتح وحماس أصلاً خوض التجربة، ثمة أسباب كثيرة أخرى غير معلنة. ويقول الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري: «قرار إلغاء الانتخابات سيئ لكنه متوقع.. ابتدأنا برفض فتح إجراء الانتخابات ووصلنا إلى أن حماس ندمت على الموافقة عليها، وانتهينا إلى وضع أن فتح وحماس تخشيان منها، وأصبحت كفة التأجيل ترجح أكثر وأكثر، وخصوصا بعد ضغط الرباعية العربية لإلغائها. والسؤال أصبح كيف؟ ومَن سيتحمل المسؤولية عن هذا القرار؟ أخذت محكمة العدل العليا القرار ولكن لو لم تتخذه يمكن أن نشهد ما هو أعظم.. فلن تسمح حماس بفوز فتح وخصوصًا في غزة، ولن تسمح فتح بفوز حماس وخصوصًا في الضفة. الانتخابات من دون وفاق وطني وتحت الاحتلال وفي ظل الانقسام قفزة بالمجهول». ويضيف: «على الرغم من أن فتح وحماس تنفيان أنهما سعتا إلى تجنب الانتخابات، فإن كثيرين يصدقون أنهما في ظل إسقاط قوائم كثيرة للأولى في غزة، وفشل الثانية في تشكيل قوائم منافسة في الضفة، كانتا على الأقل يأملان بنهاية مماثلة».
هذه أسباب قد يتفق عليها البعض أو يعارضها، لكن الضغوط العربية التي أشار إليها المصري لا يعرف عنها الشارع كثيرا. وتقول مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، إن «أسبابًا متداخلة تقف وراء إلغاء الانتخابات، ولا يمكن إرجاع الأمر لسبب بعينه»، مستطردة: «من بينها الضغوط العربية من أجل مصالحة داخلية في فتح تضمن عودة محمد دحلان، ومن ثم مصالحة مع حماس قبل إجراء أي انتخابات... إضافة إلى ضغوط داخلية من أجل عدم تعميق الانقسام كما يعتد مسؤولون».
* دحلان.. الضغوط
وتركز جهات عربية في ضغطها على عباس إلى ضرورة أن تكون فتح قوية وجاهزة للمواجهة الديمقراطية، وبالتالي تحقيق الفوز في الانتخابات المحلية، والأكثر أهمية لاحقًا التشريعية والرئاسية. أما عباس فلا يرى أبدًا أن فتح ضعيفة بغياب دحلان أو قوية بوجوده. ولا يزال عباس يرفض عودة دحلان، لكنه كذلك لا يريد خسارة «الأشقاء» العرب. ولم يكن تسريب مقطع فيديو لعباس وهو يقول: «فكّونا من العواصم» من دون أن يسميها، عبثيا أو بالصدفة، لكنه مدروس إلى حد كبير في رسالة واضحة: «سنلم الشمل وفق ما نراه وليس ما تراه العواصم».
وبدأت فتح إجراءات يمكن وصفها بإجراءات لم الشمل فعلا، لكنها أيضا لسد الأبواب في الوقت نفسه. وعقدت محكمة الحركة جلسات من أجل بحث عودة المفصولين في خطوة يتوقع أن تنتج عنها إعادة البعض، ورفض إعادة البعض الآخر من دون أن يشمل ذلك دحلان. وتريد فتح بحسب المصادر إغلاق هذا الملف بإجراءات أخرى قانونية. وأعلن أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، اللواء جبريل الرجوب، إنه سيعقد اجتماعًا موسعًا للحركة برئاسة عباس، بعد عودته من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية الشهر الجاري، وسيشارك في هذا الاجتماع أعضاء اللجنة المركزية وأعضاء المجلسين الثوري والاستشاري وأمناء سر أقاليم حركة فتح. وأضاف الرجوب أن الاجتماع سيبحث سبل مواجهة التحديات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وإقرار آليات عمل تنظيمية لعقد المؤتمر السابع للحركة قبل نهاية العام الجاري، مع تحديد الزمان والمكان، وذلك في إطار تجديد الشرعيات. ويفترض أن يفرز المؤتمر السابع لجنة مركزية جديدة للحركة ومجلسا ثوريا كذلك. فإذا نجحت الضغوط قد يكون من بينهم دحلان، وإذا فشلت فلن يكون لوقت طويل. لكن يبدو من السخف اختزال المسألة بمصالحة فتحاوية فتحاوية أو فتحاوية حمساوية، إذ أعلن قبل ذلك عن سلسلة مصالحات وسلسلة قرارات بالانتخابات وفشلت كلها.
ثمة انقسام كما يحلو للبعض أن يصفه في العقول والقلوب يؤذي الحالة الفلسطينية كلها ويمنعها من التقدم. وهنا يعلق الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم: «الانتخابات المحلية تعرينا أكثر، وتكشف هشاشة مناعتنا الوطنية وانقسامنا العميق. ومع مجزرة الطعون لقوائم فتح وما سبقها من تهديد ووعيد وإرهاب للناس في الضفة، ماذا كنتم تنتظرون؟ وخلال عقد من الزمن والنظام السياسي الفلسطيني وعلى رأسه القيادة قاموا بحسن نية أحيانا وبتنبلة أحيانا كثيرة بتجريف الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية. تراجع على جميع المستويات وغياب الحريات ومنظومة القيم والتكافل بين الناس وكسر روح الشعب والمقاومة الوطنية الجامعة. هناك هجوم عربي قبل أن يكون إسرائيلي، ولا نزال ننتظر وندافع عن أنفسنا بتبرير أقوالنا وأفعالنا. الحكمة تقتضي العودة لروح الشعب وترميم ما قام به النظام السياسي من تجريف لحياتنا، هي فرصة جديدة كي نقول لأنفسنا وللجميع إننا نستطيع مواجهة وصاية العرب قبل العجم ومواجهة فرض سياسة الإذعان والإملاءات، قبل أن تحرق الفوضى ما تبقى منا».
* لكن ماذا لو أجريت الانتخابات؟
هل كانت ستضمن فعلا فوزا واضحا لأحد الفصيلين الأكبر فتح وحماس؟ وهل ساهمت سطوة العائلات في إفقاد هذه الانتخابات الحمى اللازمة؟
مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية «المرصد» يقول إن أكثر من 860 قائمة ترشحت لتلك الانتخابات مقابل 670 قائمة في انتخابات عام 2012. ويشير إلى أن الواقع الميداني فرض على كل الأطراف من اليسار واليمين والمستقلين التنافس على مجالس في بعض الهيئات الانتخابية والتحالف في هيئات أخرى، وكان هذا جلي في قوائم المستقلين، إضافة إلى قوائم الائتلاف (تحالفات حزبية)، كما في قوائم التحالف الديمقراطي، ما يعني صعوبة إعلان طرف من الأطراف اكتساح نتائج الانتخابات المحلية، علما بأن هناك 182 قائمة أغلبها لفتح ستفوز بالتزكية (136 فتح، و23 قائمة مستقلة، و22 ائتلاف بين أكثر من حزب، وقائمة واحدة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين). وحسب المرصد «فإن العائلات طغت بالأهمية والحضور في الانتخابات المحلية بصورة كبيرة، وجرى التقسيم بالغالب على أساس الانتماء العائلي حتى في القوائم الحزبية. وفي كثير من المناطق شكلت العائلات قوائمها الخاصة، وهذا سبب آخر لعدم القدرة على تسويق منتصر واحد من قبل الأطراف السياسية».
* طرائف الانتخابات
على الرغم من وجود أكثر من 860 قائمة انتخابية متنافسة، فإن رئاسة هذه القوائم كانت حكرًا على الرجال بنسبة 99.1 في المائة مقابل 0.9 في المائة للنساء، وهذا قاسم مشترك لكل القوائم المتنافسة (التحالف الديمقراطي وفتح والائتلاف والمستقلون). ولقد تعالت الانتقادات على إخفاء صور وأسماء النساء في بعض المواقع من القوائم الانتخابية، لكن ما يضاف إلى ذلك هو التمثيل المتدني للنساء. ويمكن القول إن ما ضمن وجود النساء في كثير من القوائم الحزبية والعائلية هو نظام «الكوتا» (الحصص) الخاصة بتمثيل النساء، مقابل إخفاق برامج التمكين السياسي للنساء، حيث قبلت أيضًا النساء بالمواقع المخصصة لهن ضمن «الكوتا»، وفي أكثر من 70 في المائة من القوائم لم يزد عدد النساء عن مرشحتين فقط.
* مسلسل طويل.. ومستمر
أجريت أول انتخابات عامة في فلسطين في عام 1996، لانتخاب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية وأعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني. أما الانتخابات الرئاسية الثانية فعقدت في 25 يناير (كانون الثاني) 2005، في حين أجريت الانتخابات التشريعية الثانية بتاريخ 9 يناير 2006 طبقا لقانون رقم 9 لعام 2005، تحت إشراف لجنة الانتخابات المركزية. وفيما يخص الانتخابات المحلية الأولى، فإنها أجريت على عدة مراحل تحت إشراف اللجنة العليا للانتخابات المحلية التي يرأسها وزير الحكم المحلي، وقامت بتنفيذ 4 مراحل من الانتخابات المحلية بين عامي 2004 و2005. وفيما بعد نقلت صلاحيات تنظيم الانتخابات المحلية إلى لجنة الانتخابات المركزية، ودعي إلى الانتخابات المحلية الثانية خلال 2010 و2011، إلا أنها أجلت لسنتين على التوالي.
وفي 10 يوليو (تموز) 2012، أصدر مجلس الوزراء قرارًا لإجراء الانتخابات المحلية في كل محافظات الضفة الغربية بتاريخ 20 أكتوبر 2012. وشارك في هذه الانتخابات 272 هيئة محلية من أصل 353. ولذلك أصدر مجلس الوزراء قرارًا آخر لاستكمال العملية الانتخابية بانتخابات تكميلية عقدت في 22 ديسمبر (كانون الأول) 2012، وشارك فيها 81 هيئة محلية، وبطبيعة الحال لم تجر في غزة.
وفي يونيو (حزيران) الماضي، أصدر مجلس الوزراء قرارًا يدعو لإجراء انتخابات لجميع مجالس الهيئات المحلية في يوم واحد، بحيث يكون الاقتراع يوم 8 أكتوبر 2016. ومثل إعلانات أخرى كثيرة لن تجرى هذه الانتخابات في موعدها. وفي مرات كثيرة أخرى أعلن عن الاتفاق عن انتخابات رئاسية وتشريعية خلال فترة محددة، ومثل كل مرة وكل شيء آخر يعلن عنه الطرفان، لم تنفذ.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».