من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية
TT

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

إذا كان مشروع الاتحاد الأوروبي قد تطور من مجرد حلم رومانسي مبنى على القومية المسيحية منذ قرون ممتدة إلى بناء راسخ على أساس التكامل، بل والتوحّد، فإن هناك كثيرًا من النظريات التي فسرت النجاح الباهر لهذا المشروع التكاملي بين دول لا تمتلك بالضرورة القواسم المشتركة، مثل اللغة أو القومية أو حتى الوحدة المذهبية في الدين، مثل العالم العربي، على سبيل المثال لا الحصر. ولعل أهم ما يميز هذه النظريات هي أنها بُنيت كلها تقريبًا على الدراسة العملية أو التجريبية لتطور الاتحاد الأوروبي من دول متناحرة إلى وحدة تقرب الكونفدرالية اليوم. وثمة من يرى أن محاولة فهم هذا النجاح مرتبط بفهم هذه النظريات المتعمقة التي توفر لنا غطاءً فكريًا ونوعًا من خريطة الطريق لنجاح عمليات التكامل، خصوصًا أنها تدرّس مثالاً لدول خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة اقتصاديًا وسياسيًا، وفي حالة عداء تاريخي بين بعض دولها.
وفي هذا الإطار فإن المفكر الأميركي إرنست هاس يعد من أوائل الذين حاولوا شرح نظريات التكامل بصفة عامة وعرّفها بأنها «عملية سعي الفاعلين السياسيين من قوميات مختلفة لتحريك ولائهم وطموحاتهم وتوقعاتهم وسلوكهم السياسي تجاه مركز جديد تتطلب مؤسساته سيادة تعلو على سيادة الدولة التي ينتمون إليها». وتابع: «ويكون الهدف من وراء هذه العملية التوصل إلى ما يطلق عليه في علم العلاقات الدولية (صيغة المكسب المشترك) Win - Win Situation الذي ليس بمقدور الدولة بالضرورة أن تحصل عليه بالعمل الفردي. ويرى أصحاب هذه النظرية أن الدولة يكون لها مصلحة في خلق علاقات تعاون تبدأ غالبًا بما سموه بالـLow Politics، أي في المجالات التي لا تمثل أولوية سياسية عليا بين الدول المتكاملة، حتى لا تصطدم العملية التكاملية بعوائق السياسات العليا للدولة. كما يميز هذا التعاون امتداده إلى المجالات التي لا تستطيع الدولة بمفردها تحقيق المكاسب القصوى فيها، وبالتالي تحاول مجموعة من الدول التركيز على المواضيع ذات الأهداف المشتركة وسط عالم يوصف بأنه فوضوي الطابع.
لقد فسّرت النظرية التبادلية الوظيفية Functionalism ما حدث في الاتحاد الأوروبي على أساس ثلاث مراحل:
1- تخطي النخب السياسية والاقتصادية الواعية أهمية تنفيذ هذا المشروع، العداوات التقليدية وتركيزها على النظرة المستقبلية بعيدًا عن الحساسيات والتوترات السائدة. ووضعها نصب عينيها المكاسب المحتملة، وأولها فرض السلام والمكاسب الاقتصادية والتجارية والاستثمارية وغيرها. وهو ما يؤدي بدوره إلى عملية تواصل بين النخب متشابهة التفكير في الدول المختلفة بغية تطوير مفهوم التعاون تمهيدًا لبداية طريق التكامل.
2- التسييس التدريجي Gradual Politicization للفاعلين السياسيين، وهذه المرحلة مرتبطة بالتأثير على المؤثرين القادرين على اتخاذ القرارات.
3- الانتقال من مجال إلى مجال أو الـRamification - Spill Over، أي أن يؤدي النجاح المشترك للتكامل في مجال إلى تكامل في مجالات أخرى لتحقيق الفائدة المشتركة وهلم جرًا. وهو ما يؤدي في النهاية إلى الوصول لمرحلة التكامل، ثم التوحد بدرجاته المتفاوتة سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو إداريًا، وهو ما يستتبع بالضرورة خلق كيانات فوق الدولة تدير هذا النوع من التكامل، وتكون الدول راضية عن تسليم جزء من سيادتها إلى هذا الكيان الجديد.
ولقد وضعت النظريات الأحدث خريطة طريق أو شروطًا مستقاة من تجربة الاتحاد الأوروبي لنجاح عملية التكامل بين الدول المعنية، نورد منها أهم الخطى التالية:
أولاً: أهمية وجود نوع من المساواة الاقتصادية بين الدول الراغبة في التكامل. وهو ما يعني ضمنيًا أن تكون هذه الدول معتنقة التوجهات الاقتصادية نفسها، وعلى رأسها الرأسمالية والسوق الحر وغيرها من القيم الاقتصادية المشتركة، إضافة إلى نوع من التوازن الاقتصادي، حتى وإن اختلفت أحجامها وقدراتها.
ثانيًا: أهمية إيجاد نوع من القناعة بالمساواة في توزيع الفوائد المنتظرة من التكامل بين الدول، فالدولة لن تقبل الدخول في مشروع تكاملي، طالما استشعرت وجود توزيع غير متوازن للمكاسب المتوقعة. وهنا لا يكون البعد الاقتصادي وحده، ولكن الصفقة المتكافئة التي يقبلها ساسة الدول المعنية حتى لا تفقد الدولة الحافز للدخول في المشروع من الأساس.
ثالثًا: أهمية وضع رؤية منخفضة التكلفة لعملية التكامل بين الدول. فإذا ما ارتفعت تكلفة التكامل، ولو لأسباب سياسية، ستفقد على المدى الطويل العائد الاقتصادي لاستمرارها، ومن ثم ضرورة العمل على خفض هذه التكلفة كمًا وكيفًا.
رابعًا: أهمية زيادة حجم التبادلات بين الدول، سواء السياسية أو التجارية أو حركة رأس المال أو الاتصالات أو الأفراد.. إلخ. وهو ما يكون سببًا في توسيع انتقال التعاون من مجال إلى آخر أو حركة الـOver Spill أو يكون نتيجة له وفقًا لكل مجال، وهذه كانت أهم الشروط لنجاح العملية التكاملية داخل الاتحاد الأوروبي.
خامسًا: أهمية الإمداد السياسي والآيديولوجي لهذا للمشروع التكاملي الذي كان شرطًا أساسيًا لنجاح المشروع الأوروبي. ذلك أن الفكرة أو التحرك السياسي وحده لا يكون كافيًا، لأن الأمر يحتاج إلى نشر ما يمكن وصفه بالعقيدة التكاملية على مستوى الساسة والشعب لضمان استمرارية المشروع حتى لا تتعرض شرعيته للتشكيك والفشل من ناحية أو لهبوط العزيمة السياسية لدى النخب والمواطنين على حد سواء للمضي قدما من ناحية أخرى.
سادسًا: ضرورة بناء التحالفات الداخلية في الدول حول مواضيع بعينها من أجل الدفع بالمشروع، فدون التحالفات لن تنجح عملية التكامل من الأساس. وارتباطًا بهذا الأمر فإن النجاح يتطلب أيضًا ما سمي بالـElite Socialization أو التجانس بين النخب، خصوصًا بين البيروقراطيات القائمة على المجالات المختلفة للتكامل، وهو ما يحتاج معه أيضًا إلى عملية انخراط منظمات المجتمع المدني، بالأخص بين الدول المختلفة لتخلق الروابط عبر الدولية المطلوبة لدفع عملية التكامل.
سابعًا: ضرورة العمل على خلق هوية آيديولوجية مشتركة لهذا المشروع مقبولة لدى كل الأطراف، وهو ما يتطلب نوعًا النسق المتتالية لشرح الهدف لجعله هدفًا مشتركًا لكل دولة وشعبها.
ثامنًا: ضرورة وضع آليات لتسوية الخلافات وتقريب المصالح المتناقضة بين الدول. وهذا التكامل دونه لأن الفكرة الأساسية هي اصطدام المصالح، حيث تسعى كل دولة لمحاولة تعظيم الفائدة، وهذا شيء طبيعي، ومن ثم أهمية توفيق هذه المصالح كخطوة أولى يعقبها عملية تسوية الخلافات بشكل مفيد لكل الأطراف، حتى لا تنفر دولة من الانخراط في مشروع التكامل.
تاسعًا: وارتباطًا بما سبق، فإن الأمر يحتاج إلى صياغة معادلات تضمن أن يكون خيار التكامل دائمًا أفضل من خيار الانفصال، وهو ما يتطلب نوعًا من المرونة والنظرة الإجمالية للمكاسب التي ستحصل عليها الدول المتكاملة.
عاشرًا: ضرورة بناء مواقف موحَّدة للدول المتكاملة مقابل العالم الخارجي، فهذا الأمر يساعد بشكل كبير على خلق الهوية الداخلية الموحّدة للدول المتكاملة، ويضع غطاءً لمصالح الدول في التعامل مع العالم الخارجي.
كل هذه الشروط المستقاة من التجربة الأوروبية تضع نصب أعيننا مكونات نجاح مشروع الاتحاد الأوروبي اليوم. وهي كما نرى تتضمن أبعادًا عملية وآيديولوجية وسياسية واقتصادية لا غنى عنها على الإطلاق لنجاح العملية التكاملية. وبالتالي، فإن نجاح التجارب التكاملية لا يتأتي بالقواعد التقليدية المرتبطة بالتركيز على وحدة الكيان أو المصير أو اللغة أو الديانة. ذلك أن كل هذه عوامل مساعدة تدفع نحو التكامل بين الدول، ولكنها لا تضمن له النجاح في أغلب الأحيان، فالنجاح يرتبط في الأساس بعمليات ممنهجة وآليات تعتمد على المبادئ السابقة الذكر، وليس باللغة والدين وحدهما يبنى صرح التكامل والوحدة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.