من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية
TT

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

إذا كان مشروع الاتحاد الأوروبي قد تطور من مجرد حلم رومانسي مبنى على القومية المسيحية منذ قرون ممتدة إلى بناء راسخ على أساس التكامل، بل والتوحّد، فإن هناك كثيرًا من النظريات التي فسرت النجاح الباهر لهذا المشروع التكاملي بين دول لا تمتلك بالضرورة القواسم المشتركة، مثل اللغة أو القومية أو حتى الوحدة المذهبية في الدين، مثل العالم العربي، على سبيل المثال لا الحصر. ولعل أهم ما يميز هذه النظريات هي أنها بُنيت كلها تقريبًا على الدراسة العملية أو التجريبية لتطور الاتحاد الأوروبي من دول متناحرة إلى وحدة تقرب الكونفدرالية اليوم. وثمة من يرى أن محاولة فهم هذا النجاح مرتبط بفهم هذه النظريات المتعمقة التي توفر لنا غطاءً فكريًا ونوعًا من خريطة الطريق لنجاح عمليات التكامل، خصوصًا أنها تدرّس مثالاً لدول خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة اقتصاديًا وسياسيًا، وفي حالة عداء تاريخي بين بعض دولها.
وفي هذا الإطار فإن المفكر الأميركي إرنست هاس يعد من أوائل الذين حاولوا شرح نظريات التكامل بصفة عامة وعرّفها بأنها «عملية سعي الفاعلين السياسيين من قوميات مختلفة لتحريك ولائهم وطموحاتهم وتوقعاتهم وسلوكهم السياسي تجاه مركز جديد تتطلب مؤسساته سيادة تعلو على سيادة الدولة التي ينتمون إليها». وتابع: «ويكون الهدف من وراء هذه العملية التوصل إلى ما يطلق عليه في علم العلاقات الدولية (صيغة المكسب المشترك) Win - Win Situation الذي ليس بمقدور الدولة بالضرورة أن تحصل عليه بالعمل الفردي. ويرى أصحاب هذه النظرية أن الدولة يكون لها مصلحة في خلق علاقات تعاون تبدأ غالبًا بما سموه بالـLow Politics، أي في المجالات التي لا تمثل أولوية سياسية عليا بين الدول المتكاملة، حتى لا تصطدم العملية التكاملية بعوائق السياسات العليا للدولة. كما يميز هذا التعاون امتداده إلى المجالات التي لا تستطيع الدولة بمفردها تحقيق المكاسب القصوى فيها، وبالتالي تحاول مجموعة من الدول التركيز على المواضيع ذات الأهداف المشتركة وسط عالم يوصف بأنه فوضوي الطابع.
لقد فسّرت النظرية التبادلية الوظيفية Functionalism ما حدث في الاتحاد الأوروبي على أساس ثلاث مراحل:
1- تخطي النخب السياسية والاقتصادية الواعية أهمية تنفيذ هذا المشروع، العداوات التقليدية وتركيزها على النظرة المستقبلية بعيدًا عن الحساسيات والتوترات السائدة. ووضعها نصب عينيها المكاسب المحتملة، وأولها فرض السلام والمكاسب الاقتصادية والتجارية والاستثمارية وغيرها. وهو ما يؤدي بدوره إلى عملية تواصل بين النخب متشابهة التفكير في الدول المختلفة بغية تطوير مفهوم التعاون تمهيدًا لبداية طريق التكامل.
2- التسييس التدريجي Gradual Politicization للفاعلين السياسيين، وهذه المرحلة مرتبطة بالتأثير على المؤثرين القادرين على اتخاذ القرارات.
3- الانتقال من مجال إلى مجال أو الـRamification - Spill Over، أي أن يؤدي النجاح المشترك للتكامل في مجال إلى تكامل في مجالات أخرى لتحقيق الفائدة المشتركة وهلم جرًا. وهو ما يؤدي في النهاية إلى الوصول لمرحلة التكامل، ثم التوحد بدرجاته المتفاوتة سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو إداريًا، وهو ما يستتبع بالضرورة خلق كيانات فوق الدولة تدير هذا النوع من التكامل، وتكون الدول راضية عن تسليم جزء من سيادتها إلى هذا الكيان الجديد.
ولقد وضعت النظريات الأحدث خريطة طريق أو شروطًا مستقاة من تجربة الاتحاد الأوروبي لنجاح عملية التكامل بين الدول المعنية، نورد منها أهم الخطى التالية:
أولاً: أهمية وجود نوع من المساواة الاقتصادية بين الدول الراغبة في التكامل. وهو ما يعني ضمنيًا أن تكون هذه الدول معتنقة التوجهات الاقتصادية نفسها، وعلى رأسها الرأسمالية والسوق الحر وغيرها من القيم الاقتصادية المشتركة، إضافة إلى نوع من التوازن الاقتصادي، حتى وإن اختلفت أحجامها وقدراتها.
ثانيًا: أهمية إيجاد نوع من القناعة بالمساواة في توزيع الفوائد المنتظرة من التكامل بين الدول، فالدولة لن تقبل الدخول في مشروع تكاملي، طالما استشعرت وجود توزيع غير متوازن للمكاسب المتوقعة. وهنا لا يكون البعد الاقتصادي وحده، ولكن الصفقة المتكافئة التي يقبلها ساسة الدول المعنية حتى لا تفقد الدولة الحافز للدخول في المشروع من الأساس.
ثالثًا: أهمية وضع رؤية منخفضة التكلفة لعملية التكامل بين الدول. فإذا ما ارتفعت تكلفة التكامل، ولو لأسباب سياسية، ستفقد على المدى الطويل العائد الاقتصادي لاستمرارها، ومن ثم ضرورة العمل على خفض هذه التكلفة كمًا وكيفًا.
رابعًا: أهمية زيادة حجم التبادلات بين الدول، سواء السياسية أو التجارية أو حركة رأس المال أو الاتصالات أو الأفراد.. إلخ. وهو ما يكون سببًا في توسيع انتقال التعاون من مجال إلى آخر أو حركة الـOver Spill أو يكون نتيجة له وفقًا لكل مجال، وهذه كانت أهم الشروط لنجاح العملية التكاملية داخل الاتحاد الأوروبي.
خامسًا: أهمية الإمداد السياسي والآيديولوجي لهذا للمشروع التكاملي الذي كان شرطًا أساسيًا لنجاح المشروع الأوروبي. ذلك أن الفكرة أو التحرك السياسي وحده لا يكون كافيًا، لأن الأمر يحتاج إلى نشر ما يمكن وصفه بالعقيدة التكاملية على مستوى الساسة والشعب لضمان استمرارية المشروع حتى لا تتعرض شرعيته للتشكيك والفشل من ناحية أو لهبوط العزيمة السياسية لدى النخب والمواطنين على حد سواء للمضي قدما من ناحية أخرى.
سادسًا: ضرورة بناء التحالفات الداخلية في الدول حول مواضيع بعينها من أجل الدفع بالمشروع، فدون التحالفات لن تنجح عملية التكامل من الأساس. وارتباطًا بهذا الأمر فإن النجاح يتطلب أيضًا ما سمي بالـElite Socialization أو التجانس بين النخب، خصوصًا بين البيروقراطيات القائمة على المجالات المختلفة للتكامل، وهو ما يحتاج معه أيضًا إلى عملية انخراط منظمات المجتمع المدني، بالأخص بين الدول المختلفة لتخلق الروابط عبر الدولية المطلوبة لدفع عملية التكامل.
سابعًا: ضرورة العمل على خلق هوية آيديولوجية مشتركة لهذا المشروع مقبولة لدى كل الأطراف، وهو ما يتطلب نوعًا النسق المتتالية لشرح الهدف لجعله هدفًا مشتركًا لكل دولة وشعبها.
ثامنًا: ضرورة وضع آليات لتسوية الخلافات وتقريب المصالح المتناقضة بين الدول. وهذا التكامل دونه لأن الفكرة الأساسية هي اصطدام المصالح، حيث تسعى كل دولة لمحاولة تعظيم الفائدة، وهذا شيء طبيعي، ومن ثم أهمية توفيق هذه المصالح كخطوة أولى يعقبها عملية تسوية الخلافات بشكل مفيد لكل الأطراف، حتى لا تنفر دولة من الانخراط في مشروع التكامل.
تاسعًا: وارتباطًا بما سبق، فإن الأمر يحتاج إلى صياغة معادلات تضمن أن يكون خيار التكامل دائمًا أفضل من خيار الانفصال، وهو ما يتطلب نوعًا من المرونة والنظرة الإجمالية للمكاسب التي ستحصل عليها الدول المتكاملة.
عاشرًا: ضرورة بناء مواقف موحَّدة للدول المتكاملة مقابل العالم الخارجي، فهذا الأمر يساعد بشكل كبير على خلق الهوية الداخلية الموحّدة للدول المتكاملة، ويضع غطاءً لمصالح الدول في التعامل مع العالم الخارجي.
كل هذه الشروط المستقاة من التجربة الأوروبية تضع نصب أعيننا مكونات نجاح مشروع الاتحاد الأوروبي اليوم. وهي كما نرى تتضمن أبعادًا عملية وآيديولوجية وسياسية واقتصادية لا غنى عنها على الإطلاق لنجاح العملية التكاملية. وبالتالي، فإن نجاح التجارب التكاملية لا يتأتي بالقواعد التقليدية المرتبطة بالتركيز على وحدة الكيان أو المصير أو اللغة أو الديانة. ذلك أن كل هذه عوامل مساعدة تدفع نحو التكامل بين الدول، ولكنها لا تضمن له النجاح في أغلب الأحيان، فالنجاح يرتبط في الأساس بعمليات ممنهجة وآليات تعتمد على المبادئ السابقة الذكر، وليس باللغة والدين وحدهما يبنى صرح التكامل والوحدة.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.