من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية
TT

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

من التاريخ: الدروس التكاملية من التجربة الأوروبية

إذا كان مشروع الاتحاد الأوروبي قد تطور من مجرد حلم رومانسي مبنى على القومية المسيحية منذ قرون ممتدة إلى بناء راسخ على أساس التكامل، بل والتوحّد، فإن هناك كثيرًا من النظريات التي فسرت النجاح الباهر لهذا المشروع التكاملي بين دول لا تمتلك بالضرورة القواسم المشتركة، مثل اللغة أو القومية أو حتى الوحدة المذهبية في الدين، مثل العالم العربي، على سبيل المثال لا الحصر. ولعل أهم ما يميز هذه النظريات هي أنها بُنيت كلها تقريبًا على الدراسة العملية أو التجريبية لتطور الاتحاد الأوروبي من دول متناحرة إلى وحدة تقرب الكونفدرالية اليوم. وثمة من يرى أن محاولة فهم هذا النجاح مرتبط بفهم هذه النظريات المتعمقة التي توفر لنا غطاءً فكريًا ونوعًا من خريطة الطريق لنجاح عمليات التكامل، خصوصًا أنها تدرّس مثالاً لدول خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة اقتصاديًا وسياسيًا، وفي حالة عداء تاريخي بين بعض دولها.
وفي هذا الإطار فإن المفكر الأميركي إرنست هاس يعد من أوائل الذين حاولوا شرح نظريات التكامل بصفة عامة وعرّفها بأنها «عملية سعي الفاعلين السياسيين من قوميات مختلفة لتحريك ولائهم وطموحاتهم وتوقعاتهم وسلوكهم السياسي تجاه مركز جديد تتطلب مؤسساته سيادة تعلو على سيادة الدولة التي ينتمون إليها». وتابع: «ويكون الهدف من وراء هذه العملية التوصل إلى ما يطلق عليه في علم العلاقات الدولية (صيغة المكسب المشترك) Win - Win Situation الذي ليس بمقدور الدولة بالضرورة أن تحصل عليه بالعمل الفردي. ويرى أصحاب هذه النظرية أن الدولة يكون لها مصلحة في خلق علاقات تعاون تبدأ غالبًا بما سموه بالـLow Politics، أي في المجالات التي لا تمثل أولوية سياسية عليا بين الدول المتكاملة، حتى لا تصطدم العملية التكاملية بعوائق السياسات العليا للدولة. كما يميز هذا التعاون امتداده إلى المجالات التي لا تستطيع الدولة بمفردها تحقيق المكاسب القصوى فيها، وبالتالي تحاول مجموعة من الدول التركيز على المواضيع ذات الأهداف المشتركة وسط عالم يوصف بأنه فوضوي الطابع.
لقد فسّرت النظرية التبادلية الوظيفية Functionalism ما حدث في الاتحاد الأوروبي على أساس ثلاث مراحل:
1- تخطي النخب السياسية والاقتصادية الواعية أهمية تنفيذ هذا المشروع، العداوات التقليدية وتركيزها على النظرة المستقبلية بعيدًا عن الحساسيات والتوترات السائدة. ووضعها نصب عينيها المكاسب المحتملة، وأولها فرض السلام والمكاسب الاقتصادية والتجارية والاستثمارية وغيرها. وهو ما يؤدي بدوره إلى عملية تواصل بين النخب متشابهة التفكير في الدول المختلفة بغية تطوير مفهوم التعاون تمهيدًا لبداية طريق التكامل.
2- التسييس التدريجي Gradual Politicization للفاعلين السياسيين، وهذه المرحلة مرتبطة بالتأثير على المؤثرين القادرين على اتخاذ القرارات.
3- الانتقال من مجال إلى مجال أو الـRamification - Spill Over، أي أن يؤدي النجاح المشترك للتكامل في مجال إلى تكامل في مجالات أخرى لتحقيق الفائدة المشتركة وهلم جرًا. وهو ما يؤدي في النهاية إلى الوصول لمرحلة التكامل، ثم التوحد بدرجاته المتفاوتة سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو إداريًا، وهو ما يستتبع بالضرورة خلق كيانات فوق الدولة تدير هذا النوع من التكامل، وتكون الدول راضية عن تسليم جزء من سيادتها إلى هذا الكيان الجديد.
ولقد وضعت النظريات الأحدث خريطة طريق أو شروطًا مستقاة من تجربة الاتحاد الأوروبي لنجاح عملية التكامل بين الدول المعنية، نورد منها أهم الخطى التالية:
أولاً: أهمية وجود نوع من المساواة الاقتصادية بين الدول الراغبة في التكامل. وهو ما يعني ضمنيًا أن تكون هذه الدول معتنقة التوجهات الاقتصادية نفسها، وعلى رأسها الرأسمالية والسوق الحر وغيرها من القيم الاقتصادية المشتركة، إضافة إلى نوع من التوازن الاقتصادي، حتى وإن اختلفت أحجامها وقدراتها.
ثانيًا: أهمية إيجاد نوع من القناعة بالمساواة في توزيع الفوائد المنتظرة من التكامل بين الدول، فالدولة لن تقبل الدخول في مشروع تكاملي، طالما استشعرت وجود توزيع غير متوازن للمكاسب المتوقعة. وهنا لا يكون البعد الاقتصادي وحده، ولكن الصفقة المتكافئة التي يقبلها ساسة الدول المعنية حتى لا تفقد الدولة الحافز للدخول في المشروع من الأساس.
ثالثًا: أهمية وضع رؤية منخفضة التكلفة لعملية التكامل بين الدول. فإذا ما ارتفعت تكلفة التكامل، ولو لأسباب سياسية، ستفقد على المدى الطويل العائد الاقتصادي لاستمرارها، ومن ثم ضرورة العمل على خفض هذه التكلفة كمًا وكيفًا.
رابعًا: أهمية زيادة حجم التبادلات بين الدول، سواء السياسية أو التجارية أو حركة رأس المال أو الاتصالات أو الأفراد.. إلخ. وهو ما يكون سببًا في توسيع انتقال التعاون من مجال إلى آخر أو حركة الـOver Spill أو يكون نتيجة له وفقًا لكل مجال، وهذه كانت أهم الشروط لنجاح العملية التكاملية داخل الاتحاد الأوروبي.
خامسًا: أهمية الإمداد السياسي والآيديولوجي لهذا للمشروع التكاملي الذي كان شرطًا أساسيًا لنجاح المشروع الأوروبي. ذلك أن الفكرة أو التحرك السياسي وحده لا يكون كافيًا، لأن الأمر يحتاج إلى نشر ما يمكن وصفه بالعقيدة التكاملية على مستوى الساسة والشعب لضمان استمرارية المشروع حتى لا تتعرض شرعيته للتشكيك والفشل من ناحية أو لهبوط العزيمة السياسية لدى النخب والمواطنين على حد سواء للمضي قدما من ناحية أخرى.
سادسًا: ضرورة بناء التحالفات الداخلية في الدول حول مواضيع بعينها من أجل الدفع بالمشروع، فدون التحالفات لن تنجح عملية التكامل من الأساس. وارتباطًا بهذا الأمر فإن النجاح يتطلب أيضًا ما سمي بالـElite Socialization أو التجانس بين النخب، خصوصًا بين البيروقراطيات القائمة على المجالات المختلفة للتكامل، وهو ما يحتاج معه أيضًا إلى عملية انخراط منظمات المجتمع المدني، بالأخص بين الدول المختلفة لتخلق الروابط عبر الدولية المطلوبة لدفع عملية التكامل.
سابعًا: ضرورة العمل على خلق هوية آيديولوجية مشتركة لهذا المشروع مقبولة لدى كل الأطراف، وهو ما يتطلب نوعًا النسق المتتالية لشرح الهدف لجعله هدفًا مشتركًا لكل دولة وشعبها.
ثامنًا: ضرورة وضع آليات لتسوية الخلافات وتقريب المصالح المتناقضة بين الدول. وهذا التكامل دونه لأن الفكرة الأساسية هي اصطدام المصالح، حيث تسعى كل دولة لمحاولة تعظيم الفائدة، وهذا شيء طبيعي، ومن ثم أهمية توفيق هذه المصالح كخطوة أولى يعقبها عملية تسوية الخلافات بشكل مفيد لكل الأطراف، حتى لا تنفر دولة من الانخراط في مشروع التكامل.
تاسعًا: وارتباطًا بما سبق، فإن الأمر يحتاج إلى صياغة معادلات تضمن أن يكون خيار التكامل دائمًا أفضل من خيار الانفصال، وهو ما يتطلب نوعًا من المرونة والنظرة الإجمالية للمكاسب التي ستحصل عليها الدول المتكاملة.
عاشرًا: ضرورة بناء مواقف موحَّدة للدول المتكاملة مقابل العالم الخارجي، فهذا الأمر يساعد بشكل كبير على خلق الهوية الداخلية الموحّدة للدول المتكاملة، ويضع غطاءً لمصالح الدول في التعامل مع العالم الخارجي.
كل هذه الشروط المستقاة من التجربة الأوروبية تضع نصب أعيننا مكونات نجاح مشروع الاتحاد الأوروبي اليوم. وهي كما نرى تتضمن أبعادًا عملية وآيديولوجية وسياسية واقتصادية لا غنى عنها على الإطلاق لنجاح العملية التكاملية. وبالتالي، فإن نجاح التجارب التكاملية لا يتأتي بالقواعد التقليدية المرتبطة بالتركيز على وحدة الكيان أو المصير أو اللغة أو الديانة. ذلك أن كل هذه عوامل مساعدة تدفع نحو التكامل بين الدول، ولكنها لا تضمن له النجاح في أغلب الأحيان، فالنجاح يرتبط في الأساس بعمليات ممنهجة وآليات تعتمد على المبادئ السابقة الذكر، وليس باللغة والدين وحدهما يبنى صرح التكامل والوحدة.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.