الغابون.. إرث بونغو

صراع سياسي في بلد تعددي تفاقمه الحساسيات الشخصية

الغابون.. إرث بونغو
TT

الغابون.. إرث بونغو

الغابون.. إرث بونغو

استقلت الغابون عن فرنسا عام 1960. إلا أنها ظلت دومًا الحديقة الخلفية للأنظمة الحاكمة في فرنسا، خاصة بعد اكتشاف مخزون نفطي هائل قبالة سواحل المستعمرة السابقة. وجاء نفط الغابون ليحل محل النفط الجزائري الذي خرج عام 1962 من قبضة الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول الساعي نحو جعل فرنسا قوة عظمى، وهو أمر ما كان ليتحقق من دون سد حاجياتها من الطاقة.
وفعلاً، استفادت الغابون طيلة العقود الماضية من دعم فرنسي كبير، لتضمن بذلك أكبر قدر ممكن من الاستقرار في محيط إقليمي مضطرب. فالقوات الفرنسية لم تتأخر في التدخل لإفشال أول انقلاب عسكري عام 1964 وقع ضد أول رئيس للبلاد ليون مبا. كذلك ضمنت باريس انتقال السلطة بشكل سلس عام 1967 بعد وفاة مبا إلى الرئيس السابق عمر بونغو، ولم يكن خافيًا على أحد أن علي بونغو هو مرشح فرنسا في الانتخابات الرئاسية التي أجريت بعد وفاة والده عمر بونغو عام 2009.
ولكن الغابون التي تدخل الموت مرتين لإحداث التغيير الرئاسي فيها، تقف اليوم عند نقطة حاسمة من تاريخها السياسي، فهنالك رجلان تربيا في حضن نظام الرئيس السابق الراحل عمر بونغو، يعلن كل منهما فوزه بالانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم السبت 27 أغسطس (آب) الماضي. وبينما يراهن علي بونغو، الرئيس الفائز بولاية جديدة، على قوة القانون والأمن، لا يتردد زعيم المعارضة جان بينغ في الاستناد إلى الشارع. أما فرنسا فقد أعلنت على لسان وزير خارجيتها أنها لن تنحاز لأي من الرجلين، فيما يبدو أن الصراع على إرث الراحل عمر بونغو سيهز واحدًا من أكثر البلدان الأفريقية استقرارًا.
انتشرت الحواجز الأمنية في شوارع ليبريفيل، عاصمة دولة الغابون. جنود يتحركون بحذر في الساعات الأولى من الصباح، وسيارات الشرطة تجوب بعض الأحياء، فيما ينشغل عدد من المواطنين بالبحث عن مواصلات بدت حركتها ضعيفة منذ الانتخابات التي أدخلت البلاد في موجة من العنف. تحولت بعض الشوارع إلى ساحة معركة بين عناصر الأمن ومئات الشباب الغاضبين، كانوا يرفضون إعادة انتخاب الرئيس علي بونغو لولاية رئاسية ثانية مدتها سبع سنوات، ستمد عمر حكم عائلته لأكثر من نصف قرن.
حالة من الانقسام تعيشها البلاد منذ أسابيع، ما بين الرئيس المنتهية ولايته علي بونغو (57 سنة)، وزعيم المعارضة جان بينغ (73 سنة)، بعدما تنافسا في حملة انتخابية شرسة غلب عليها الصراع الشخصي وغابت عنها البرامج الانتخابية، وتخللتها أعمال عنف واتهامات للحكومة بالانحياز للرئيس المنتهية ولايته.
استبق مرشح المعارضة الأحداث وأعلن فوزه بالانتخابات قبل أن تعلن النتائج النهائية، إذ قال أمام أنصاره مساء الأحد 28 أغسطس (آب) الماضي «لقد فزت بالانتخابات وأنتظر من علي بونغو أن يتصل بي للتهنئة». ولكن هذا الاتصال لم يتحقق لأن بونغو أعلن النصر هو الآخر يوم الأربعاء الموالي؛ وهكذا عاشت البلاد عدة ساعات منقسمة ما بين «رئيسين»، يضغط كل منهما على اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، فقد بدا واضحًا أن النتيجة التي ستعلنها – مهما كانت – ستدخل البلاد في أزمة حقيقية.
وبعد أيام من الترقب الحذر أعلنت اللجنة فوز بونغو بنسبة 49.80 في المائة من الأصوات، مقابل 48.23 في المائة لمرشح المعارضة، أي أن الفارق بين الرجلين لا يزيد على 5594 صوتًا فقط. ومن ثم، أشعلت هذه النتائج الشارع في الغابون، حيث خرج مئات الشبان الغاضبين ووضعوا الحواجز على الشوارع الكبيرة، كما أحرقوا مبنى البرلمان في العاصمة. وأسفرت الصدامات بين الأمن والمحتجين – حسب تقارير غير رسمية – عن سقوط سبعة قتلى ومئات المعتقلين. وتعيد هذه الأحداث إلى أذهان الغابونيين ما شهدته بلادهم من صدامات عنيفة عام 2009 بعد انتخاب علي بونغو.
* «جزيرة استقرار»
كثيرًا ما وصفت الغابون بأنها «جزيرة استقرار»، رغم كونها تقع في منطقة ملتهبة بالحروب، وذلك ما تعيده فلورنس بيرنولت، أستاذة التاريخ الأفريقي في الجامعات الأميركية، إلى اليد الفرنسية الحاضرة بقوة. وتقول الباحثة «منذ استقلالها، لم تغادر الغابون فلك القوة الاستعمارية السابقة، هناك علاقات اقتصادية متينة جدًا، وحضور عسكري فرنسي داخل الأراضي الغابونية».
وعلى غرار الكثير من المستعمرات الفرنسية في غرب ووسط أفريقيا، حصلت الغابون على استقلالها بشكل تدريجي، وسلّمتها فرنسا لنخبة تضمن ولاءها المطلق، حتى أن الرئيس ليون مبا الذي حكم البلاد سبع سنوات بعد الاستقلال، كان محاطًا بمستشارين فرنسيين يتولون تسيير البلاد ووضع أسس الدولة الحديثة، ولكن في الحقيقة كان هؤلاء المستشارون مرتبطين بشكل مباشر مع الخلية المكلّفة بالشؤون الأفريقية في قصر الإليزيه.
وحقًا أظهر الرئيس ليون مبا خلال فترة حكمه ولاء مطلقًا لفرنسا. إذ كان يرى فيها الضامن لاستمرار حكمه، خاصة بعد انقلاب 1964 الذي أفشلته القوات الفرنسية. بيد أن مبا في المقابل بدا ضعيف الشخصية وعاجزًا على مواجهة الأزمات، وما كان ذلك الرجل القادر على أن يُحكم قبضته على البلد ويضرب بيد من حديد. هذه الصفة كانت متوافرة في أحد الشباب العاملين في القصر، يدعى ألبير بيرنار بونغو، الذي سرعان ما رصدته أعين المستشارين الفرنسيين في القصر فبدأت الأبواب تفتح أمامه.
* عصر بونغو
برز نجم الشاب الواعد في الفترة التي أمضاها مبا يتلقى العلاج في فرنسا. بل إن الرئيس بإشارة من مستشاريه الفرنسيين استحدث منصب نائب رئيس الجمهورية وعيّن فيه الشاب بونغو، في مسرحية مثلت فصولاً في سفارة الغابون بباريس، بينما كانت صحة الرئيس لا تسمح بالعودة إلى الغابون؛ ولاحقًا توفي مبا وأصبح بونغو رئيسًا للبلاد.
ولم يخيّب بونغو ظن المستشارين الفرنسيين، فقد أحكم قبضته بسرعة على بلده الصغير، وخدمته في ذلك الاكتشافات النفطية الهائلة، وما أعقبها من نهضة اقتصادية سريعة. كذلك فإنه إبان حكمه رفع شعار الوحدة الوطنية، الذي تصفه الباحثة بيرنولت بقولها «استطاع بونغو طيلة حكمه أن يحيط نفسه بفريق يضم ممثلين لمعظم الفئات الاجتماعية والعرقية المتفرقة في البلد، كما نجح دائمًا في إقناع معارضيه بالتعاون والتفاهم».
وتشرح بينولت «يتحدر بونغو من قبيلة التيكي (أو الباتيكي) Teke التي تعد أقلية في الغابون، وذلك ما ساعده في إدارة التنوع الثقافي والتمايز العرقي داخل بلد بالكاد يتجاوز عدد سكانه مليونا ونصف المليون نسمة، ويتكلمون أكثر من خمسين لهجة محلية. إن نظام المحاصصة الذي اعتمده كان يطمئن ويريح الغابونيين، سواء كانوا موالين أو معارضين لحكمه».
بعدها، اعتنق ألبير بيرنار بونغو الإسلام، وغيّر اسمه ليصبح عمر بونغو، واتسعت دائرة نفوذه لتصل إلى الكثير من البلدان الأفريقية. وفي هذه الأثناء، كان تأثيره كبيرًا في الساحة السياسية الفرنسية، حيث اشتهر بمتابعته لأدق التفاصيل فيها، وحرصه على بناء علاقات صداقة قوية مع الشخصيات التي يرى أنها ستلعب أدوارًا مهمة في دوائر الحكم الفرنسي. بل إن عدة تقارير أشارت إلى تمويلات كانت تخرج من خزائنه لتصل إلى جيوب كثرة من هؤلاء السياسيين الذين أصبح فيما بعد من بينهم رؤساء ووزراء. وتحدثت شخصيات فرنسية عن وزراء عيّنهم بونغو وآخرين أقالهم من الحكومات الفرنسية؛ وهو ما بات يسميه بعض الإعلاميين الفرنسيين بأنه «استعمار غابوني» خطط له عمر بونغو وموّله بعائدات النفط الهائلة.
وحسب الباحثة بيرنولت، أجبرت وفاة عمر بونغو عام 2009 فرنسا على الوقوف مع ابنه علي. وتشرح «كانت فرنسا تحاول تفادي انهيار إمبراطورية بونغو بشكل مفاجئ وغير مخطّط له، ما قد يؤدي لخروج أسرار من تحت ركام إمبراطورية عاصرت عدة أنظمة فرنسية، وكانت تلعب دورًا محوريًا في السياسات الفرنسية في أفريقيا».
* القطيعة مع الماضي
خرج علي بونغو منتصرًا من انتخابات رئاسية نظمت بعد أشهر قليلة من وفاة والده، وبدت رغبته واضحة في شق طريق غير الذي سلكه أبوه، وأن يعلن القطيعة مع العهد القديم. غير أنه سرعان ما اصطدم بالزعامات التقليدية والشخصيات السياسية، التي كان يمنحها والده امتيازات خاصة ليضمن ولاءها. وفي هذا السياق يقول الصحافي المتخصص في الشأن الأفريقي جورج دوغيلي «كانت رغبته كبيرة في القطيعة مع حكم والده، فرفض علي بونغو الاستسلام للراغبين في الاحتفاظ بامتيازاتهم. لكن هذا الأمر أثار غضب الرفاق السابقين، فاستقالوا من الحزب الحاكم واحدًا تلو الآخر، قبل أن يلتحقوا بصفوف المعارضة».
من جهة أخرى تقول حسب الباحثة الأميركية بيرنولت إن بونغو بمجرد وصوله إلى الحكم «تخلى عن نظام والده القائم على التوازن والمزج بين مختلف الأعراق والفئات الاجتماعية، ليختار فريقًا صغيرًا من الذين يثق فيهم؛ وهكذا ضعف التوازن الجهوي والسياسي». ولكن في المقابل، ركز بونغو الابن على الاقتصاد والاستثمار، وأعلن مشروع «الغابون الناهض» الذي قال عنه إنه سيغير وجه البلاد في المدى القريب، لتخلص إلى القول: إنه «من الواضح أن سبع سنوات من الحكم لم تكن كافية ليقنع علي بونغو مواطني بلاده».
* بوادر الأزمة
وهكذا، خلال السنوات الأخيرة شهدت الغابون الكثير من الغليان السياسي، وتعرض علي بونغو لهجمات كثيرة تستهدف إضعاف حكمه، بدأت بانقسامات داخل الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم، وانتهت بالتشكيك في أصوله، بالإضافة إلى حرب كلامية شرسة أنهكت قوى النظام.
وهنا يقول دوغيلي «لم يدخر خصوم علي بونغو أي جهد لمنعه من الترشح للانتخابات؛ حتى أنهم شككوا في نسبه، ورفعوا دعوى قضائية أمام محكمة فرنسية. إلا أن هذه الهجمات التي كانت تقوم على حرب كلامية عنيفة، انتهت بالفشل حين صادقت المحكمة على وثيقة ميلاد علي بونغو».
ولكن اللافت أن الأزمة السياسية التي عاشت الغابون بوادرها في السنوات الأخيرة، تأتي أيضا في فترة ضعف وتشرذم للمعارضة التقليدية، خاصة بعد وفاة بيير مامبودو (2011) وآندريه مبا أوبامي (2015)، وهما شخصيتان من أبرز زعامات المعارضة الراديكالية. غياب هاتين الشخصيتين خلق ظروف التأزم داخل الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم، وفق ما يشير إليه دوغيلي، قبل أن يضيف: «لقد هيأ ضعف المعارضة بعد وفاة قادتها، ظروف التأزم داخل الحزب الحاكم، خاصة بعد الخلاف القوي بين الرئيس علي بونغو والقيادات التقليدية للحزب».
ومن ثم، حدثت موجة انسحابات واسعة من الحزب الحاكم، وكان أغلب المنسحبين زعامات تقليدية تعتقد أنها لم تجد المكانة التي تستحق مع الرئيس علي بونغو، فظهرت معارضة جديدة هي في الحقيقة جزء من النظام مغاضب للرئيس. وكانت هذه المعارضة الجديدة تراهن على أن علي بونغو لن يكمل ولايته الرئاسية الأولى، ويتكلمون في أنشطتهم السياسية عن «انقلاب عسكري وشيك» أو «تمرّد شعبي على الأبواب».
في هذه الأجواء المتأزمة ظهر جان بينغ، الذي قدم نفسه كمعارض شرس لنظام بونغو، فتلقفته المعارضة بسرعة لأنه يملك مؤهلات تجعل منه ندًا مناسبًا للرئيس. فهو ابن تاجر صيني وسيدة تتحدر من قبيلة الأومبووي بجنوب الكاميرون (المجاورة للغابون)، وسبق أن شغل منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس الراحل عمر بونغو الذي كان قد وقف خلفه عام 2008 حتى أصبح الأمين العام لمفوضية الاتحاد الأفريقي. إلا أن بينغ غادر المفوضية عام 2012 وهو يتهم حكومة بلاده بالتخلي عنه والتقاعس عن دعمه، فتفجر الخلاف الشخصي بينه والرئيس. وهذا الخلاف تطور إلى قطيعة تامة عام 2014. مع أن بينغ سبق له الزواج من باسكالين ابنة عمر بونغو وأخت علي بونغو، وهي أم ولديه. وبالنظر إلى مسار العلاقة ما بين الرجلين يتضح مدى التعقيد الذي يطبع الأزمة في الغابون.
إن ما يجري في الغابون ليس مجرد أزمة سياسية ذات طرفين: معارضة تسعى للسلطة ونظام مصر على البقاء، بل هو أكثر تعقيدًا بكثير. فأولئك الذين يقفون اليوم ضد الرئيس علي بونغو، ويحرّكون الشارع ضده بحجة هيمنة عائلته على الحكم لنصف قرن، كانوا من ضمن الدائرة المقربة منه ومن والده عمر بونغو، في مقدمتهم جان بينغ صهر الرئيسين الأب والابن السابق الذي ترعرع في حضن نظام عائلة بونغو وكان قريبًا جدًا منها؛ بالإضافة إلى رئيس الوزراء السابق كازيمير إيوي مبا؛ ورئيس البرلمان السابق نزوبا انداما.
* الإخوة الأعداء
يطغى الجانب الشخصي على الأزمة المحتدمة في الغابون، لتتحول إلى صراع ما بين رجلين، خرجا من رحم نظام عمر بونغو الذي حكم البلاد لأكثر من نصف قرن، إنهما الرئيس الحالي علي بونغو وزعيم المعارضة جان بينغ.
علي بونغو اونديمبا: ولد عام 1959. في مدينة برازافيل، العاصمة الحالية للكونغو الديمقراطية، وذلك قبل استقلال بلاده عن فرنسا بعام واحد، وتولى والده الحكم وهو في الثامنة من العمر. بعدها تلقى تعليمه في فرنسا حيث تخرج بشهادة عليا في القانون، ثم بدأ مساره المهني عام 1987 في ديوان رئيس الجمهورية الذي هو والده.
وتقلّب علي بونغو في المناصب الحكومية وزيرا للخارجية (1989 - 1991)، ثم نائبا في البرلمان (1991 - 1999)؛ ثم وزيرا للدفاع (1999 - 2009). وفي الفترة نفسها كان يشغل منصب نائب رئيس الحزب الديمقراطي الغابوني الذي رشحه للانتخابات الرئاسية التي نظمت عقب وفاة والده عام 2009. ليحقق الفوز بنسبة 42 في المائة.
جان بينغ: ولد عام 1942 في مدينة بور جانتيل، العاصمة الاقتصادية الحالية للغابون، وكان والده تاجرًا صينيًا وصل إلى البلاد في عشرينات القرن الماضي، ثم تزوج من فتاة غابونية من أصل كاميروني. ونجح التاجر الصيني في ابتعاث ابنه إلى فرنسا من أجل الدراسة، ليتخرج بشهادة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية من جامعة باريس - السوربون.
بدأ بينغ مساره المهني كموظف دولي في منظمة اليونيسكو بباريس عام 1972، ليصبح الممثل الدائم للغابون في المنظمة الدولية (1978 - 1984). ثم ترأس عن بلاده عام 1993 منظمة الدول المصدرة للبترول؛ ولكنه دخل الحكومة في بلاده من بوابة وزارة الخارجية (1999 - 2008)، وفي الفترة نفسها ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة (2004 - 2005)؛ كما ترأس مفوضية الاتحاد الأفريقي (2008 - 2012).
كان عدم التجديد له على رأس المفوضية الأفريقية واحدًا من الأسباب التي أدت إلى الشرخ القوي بينه والرئيس علي بونغو، بالإضافة إلى أن جان بينغ يرى أن مساره المهني ومؤهلاته تجعل منه الوريث الحقيقي لعمر بونغو.



عودة مصرية لأفريقيا لمجابهة مخاطر وتحولات

قمة ثلاثية بين رؤساء مصر والصومال وإريتريا في العاصمة أسمرة (الرئاسة المصرية)
قمة ثلاثية بين رؤساء مصر والصومال وإريتريا في العاصمة أسمرة (الرئاسة المصرية)
TT

عودة مصرية لأفريقيا لمجابهة مخاطر وتحولات

قمة ثلاثية بين رؤساء مصر والصومال وإريتريا في العاصمة أسمرة (الرئاسة المصرية)
قمة ثلاثية بين رؤساء مصر والصومال وإريتريا في العاصمة أسمرة (الرئاسة المصرية)

مراحل متفاوتة شهدتها العلاقات «المصرية - الأفريقية»، بدأت بدور محوري بوصفه قوة داعمة لحركات التحرر، ثم تحولت إلى لاعب دبلوماسي ذي نفوذ، ثم تراجعٌ وغيابٌ غير مسبوق، قبل أن تعود وتكتب فصلاً جديداً في تاريخ العلاقات، عبر حزمة من مسارات التعاون على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والاستراتيجية كافة، لـ«موازنة واحتواء ومجابهة أي مخاطر وتهديدات».

وتشكّلت ملامح الدور المصري في أفريقيا منذ الستينات، مع دعم الرئيس الأسبق، جمال عبد الناصر، جهود التحرر ببعض دول القارة السمراء التي كانت تحت الاستعمار، وزادت وتيرتها مع المساهمة في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية في 1963، ثم ابتعدت مصر قليلاً في عهد الرئيس الأسبق، أنور السادات، مع الانشغال بمعركة التحرر من احتلال إسرائيل لسيناء في 1967، والذي تحقق بالحرب في 1973، والسلام مع تحرير كامل أراضيها في الثمانينات.

السيسي في جيبوتي حيث كان على رأس مستقبليه الرئيس إسماعيل عمر جيلة في مايو 2021 (الرئاسة المصرية)

قبل أن تشهد خفوتاً في عهد الرئيس الأسبق، حسني مبارك، عقب محاولة اغتياله في أديس أبابا في 1995، وتتحوّل لغياب لافت بانشغال مصري داخلي مع اضطرابات واندلاع أحداث 2011 و2013، انتهى بتجميد عضوية مصر بالاتحاد الأفريقي.

ومع تولّى الرئيس عبد الفتاح السيسي، في صيف 2014، رئاسة البلاد، بدأت مصر مسار استعادة العلاقات بالقارة السمراء، وأعادت عضويتها بالاتحاد الأفريقي، وتحركت عبر ملامح رئيسية ثلاثة؛ بين تعاون، وبناء تحالفات، ومجابهة أي تهديدات محتملة.

تلك المسارات عزّزتها وساهمت في نجاحها جهود دبلوماسية كبيرة بـ«توجيه رئاسي وتحرك حكومي موازٍ»، وفق السفيرة منى عمر، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، وذلك «بعد سنوات من الفتور والخفوت في العلاقات خلال فترات سابقة».

فيما يقرأ الخبير السوداني المختص بالشؤون الأفريقية، عبد المنعم أبو إدريس، الحضور المصري المتصاعد بأن القاهرة «تُريد استعادة دورها» في القارة الأفريقية، الذي عرفت به خلال سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، عبر تقديم مساعدات وخبرات في مجال البنى التحتية، ودعم حركة التحرر والاستقرار، متوقعاً أن تزداد فعالية الحضور المصري بين أدوار التعاون وبناء التحالفات، في ظل تنامي التهديدات ومحاولات الهيمنة.

وخلال العقد الأخير، تنوعت أدوار التعاون المصرية في أفريقيا بين تنفيذ عدد من مشروعات البنية التحتية، وأعمال الطرق والكبارى، والمشروعات السكنية، والصحية، وحفر عدد من الآبار الجوفية، وإقامة السدود ومحطات توليد الكهرباء في دول أفريقية كثيرة، بينها تنفيذ مشروع درء مخاطر الفيضان بغرب أوغندا، في أغسطس (آب) 2018، وإطلاق السيسي في مارس (آذار) 2019 مبادرات صحية لعلاج مليون أفريقي، والتوجيه في سبتمبر (أيلول) 2020 بإرسال مساعدات عاجلة إلى 30 دولة أفريقية، بقيمة 4 ملايين دولار لمواجهة فيروس «كورونا».

زيارة رئيس المخابرات المصرية السابق ووزير الخارجية إلى أسمرة ولقاء الرئيس الإريتري (الخارجية المصرية)

إضافة إلى تنفيذ مشروع «سد روفيجي» في تنزانيا، الذي بدأ ملؤه في 2022، و«تدشين الخط المباشر للطيران بين مصر وجيبوتي والصومال»، في يوليو (تموز) 2024، بخلاف قرار مصري حديث بالبدء في خطوات إنشاء صندوق للاستثمار في دول حوض النيل، تنفيذاً لتوجيه رئاسي، بعد تفعيل اتفاقية «عنتيبي» التي تمس حقوق مصر المائية.

وترى السفيرة منى عمر أن «الدور المصري الكبير، عبر تعزيز التعاون مع دول القارة هو التزام بأسس سياسة مصر الخارجية تجاه أفريقيا، وتأكيد حضورها غير المسبوق»، مشددة على أن ذلك التعاون شاهد على أن سياسة مصر المتوازنة بأفريقيا قائمة على التنمية.

ويعتقد الخبير المختص بالشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، أن «مصر أظهرت قدرات فائقة» خلال السنوات الماضية في مضمار العمل الدبلوماسي الدؤوب داخل القارة السمراء، وهو الأمر الذي تمت معه «فتوحات هائلة» على مستوى تعزيز التعاون المشترك، والتفاهمات والاتفاقات على كل الأصعدة داخل دول عدة بالقارة السمراء.

الرئيس المصري يستقبل في القاهرة رئيس جنوب السودان سيلفا كير ميارديت (الرئاسة المصرية)

كما كان مسار بناء التحالفات حاضراً في السياسة المصرية الأفريقية، وفق الحاج، لموازنة السلوك السياسي الإثيوبي واحتوائه، ومجابهة المخاطر والتهديدات، التي ترى القاهرة أبرزها بناء «سد النهضة» الإثيوبي منذ 2010، واتهام أديس أبابا بـ«عرقلة» إبرام اتفاق يؤمن مخاوف مصر من «السد» على حصتها المائية التاريخية (55.5 مليار متر مكعب)، فضلاً عن عقد إثيوبيا اتفاقاً أولياً مع إقليم أرض الصومال، يتيح لها استخدام ميناء مطل على البحر الأحمر، وهو ما رفضته مقديشو، ودعمتها القاهرة خشية على أمنها القومي.

ومن إثيوبيا إلى السودان، ورغم العلاقات القوية بين القاهرة والخرطوم، برزت في الآونة الأخيرة خلافات مع «قوات الدعم السريع» التي تحارب الجيش السوداني منذ أبريل (نيسان) 2023؛ حيث اتهمت القاهرة بـ«التدخل في الحرب الدائرة منذ أكثر من عام، ودعم الجيش السوداني»، وهو ما نفته «الخارجية المصرية»، وعدّتها «مزاعم».

وعقدت مصر بروتوكولات للتعاون العسكري بالعام 2021، أبرزها مع السودان، واتفاقية استخباراتية أمنية مع أوغندا، وأخرى عبر تعاون عسكري مع بوروندي، واتفاقية تعاون دفاعي مع كينيا، بخلاف توقيع مذكرة تعاون في مجال الصناعات الدفاعية بين مصر ونيجيريا في سبتمبر (أيلول) الماضي.

كما قام الرئيس المصري بين 2014 و2020 بـ27 زيارة لأفريقيا، بخلاف لقاءات واجتماعات الرئيس بالقادة الأفارقة، الذين استقبلهم في مصر، إذ يزيد عدد هذه اللقاءات على 150 زيارة منذ عام 2014 حتى منتصف عام 2021، وفق تقديرات صحيفة «الأهرام» الحكومية، كان أبرزها زيارته لجيبوتي جارة إثيوبيا، التي تعد الأولى من نوعها لرئيس مصري، في مايو (أيار) 2021.

ودعم ذلك المسار حديثاً، زيارات لرئيس المخابرات المصرية السابق اللواء عباس كامل، أولاها للسودان في أغسطس (آب) الماضي، ولإريتريا ولتشاد في سبتمبر الماضي، بحث خلالها التحديات وتطورات القرن الأفريقي، ويضاف لذلك تولي مصر رئاسة مجلس الأمن والسلم الأفريقي خلال أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، تأكيداً «للحضور القوي فى القارة السمراء على كل المستويات»، وفق ما ذكرته «وكالة أنباء الشرق الأوسط» الرسمية في مصر.

الدعم المصري للصومال تحوّل من رفض اتفاقية قد تُهدد أمن مصر على البحر الأحمر، إلى بروتوكول تعاون عسكري أغسطس الماضي، واتفاق على إرسال قوات مصرية للمشاركة في قوات حفظ السلام بمقديشو يناير (كانون الثاني) 2025، بخلاف إعلان «الخارجية المصرية» في سبتمبر الماضي عن إرسال شحنة عسكرية للقوات الصومالية لدعمها، وسط تحفظ متكرر إثيوبي في أكثر من بيان لـ«الخارجية الإثيوبية»، وتحذير من «اتخاذ جهات خطوات لزعزعة استقرار المنطقة». ورغم إقرار الخبير الإثيوبي، عبد الشكور عبد الصمد، بعودة «بصمات مصر» في أفريقيا، والتي عرفت بها في عهود سابقة، يتطلع أن «تلعب القاهرة دوراً إيجابياً مع رئاستها لمجلس الأمن والسلم الأفريقي خلال أكتوبر الحالي»، وأن «تُغير نظرتها الأمنية، خصوصاً المرتبطة بتهديد أديس أبابا لأمنها المائي».

ومن التعاون إلى بناء التحالفات، عقدت قمة ثلاثية في أسمرة بين قادة مصر والصومال وإريتريا، في 10 أكتوبر الحالي، وإعلان الرئيس المصري في المؤتمر الصحافي أن «القمة بهدف التشاور والاستفادة من تبادل الرؤى إزاء سُبل التصدي لمخططات وتحركات تستهدف زعزعة الاستقرار، وتفكيك دول المنطقة، وتقويض الجهود الدؤوبة التوّاقة للسلام والاستقرار والرخاء».

السيسي يستقبل موهوزي موسيفيني قائد قوات الدفاع الشعبية بجمهورية أوغندا في القاهرة (الرئاسة المصرية)

ويقرأ عبد الناصر الحاج هذا الحضور المصري الكبير داخل القارة الأفريقية، على كل المستويات، لا سيما بمحوري بناء التحالفات ومجابهة التهديدات خلال السنوات العشر الماضية، بأنه يحمل «بُعداً استراتيجياً» لمفهوم السياسة الخارجية للدولة المصرية المرتبطة بحماية الأمن القومي المصري، وكذلك يحمل «بُعداً ذا طبيعة وقائية» تحسباً لتأثيرات قيام «سد النهضة» الإثيوبي في حال جرى تجاهل الموقف المصري الاستراتيجي من قيام السد.

وبرأي الحاج، فإن التحركات المصرية لا تنفك عن كونها «مجابهة لتهديد التعنت الإثيوبي» في قيام «سد النهضة» وتفعيل اتفاقية «عنتيبي» على خلاف رغبة القاهرة، من دون مراعاة حقيقة المهددات الأمنية الوجودية بالنسبة للدولة المصرية، أو الحضور عبر منفذ مائي مهدد بالبحر الأحمر، لافتاً إلى أن «مصر تتفوق على إثيوبيا في مهارة ترسيم حضورها المهم والملهم لعدد من الدول الأفريقية، بحسبان الخبرة الكبيرة التي تمتلكها مصر في إدارة الأزمات، فضلاً عن روابط مصر التاريخية مع جميع الدول الكبرى المؤثرة في المنطقة الأفريقية».

ذلك التفوق المصري يدفع الخبير المختص بالشؤون الأفريقية إلى «ترجيح أن تنجح مصر في مسار مواجهة الأزمات، لا سيما السد الإثيوبي»، عبر مساري الحضور المتجلي لمصر في أفريقيا هذه الفترة، سواء بمسار الدور السياسي الدبلوماسي الكبير لمصر في كل الأزمات التي تعيشها منطقة القرن الأفريقي، أو من خلال المسار العسكري المتمظهر على أشكال معاهدات واتفاقات تعاون عسكري، مثلما حدث مع الصومال وعقد تحالفات تشمل إريتريا.

ووفق أبو إدريس، فإن مصر ستستخدم قطعاً هذه التحركات لتحقيق مصالحها بـ«الضغط على إثيوبيا» عبر الوجود في الصومال، وتعزيز الحضور في إريتريا لتحقيق مكاسب في حال استؤنفت مفاوضات «سد إثيوبيا».

وبرأي عبد الشكور عبد الصمد، فإن مصر أمام تحدٍّ كبير للتوصل لتفاهم مشترك، مع إثيوبيا، وبحاجة للتغلب على هاجسها الأمني، والسعي للشراكة، وألا «يكون تحقيق مصالحها -ليس بالضرورة- عبر استهداف دول أخرى»، لافتاً إلى أن «أديس أبابا من حقها أخذ احتياطاتها أيضاً».

فيما أكدت السفيرة منى عمر أن «مصر ليست ضد التنمية، ولا تسعى لاستهداف أحد»، وقدمت مبادرات لحل أزمة السد، لكن «النظام الإثيوبي لم يقبلها، ولا تزال دولته مفككة بين عدة قوميات ولديها مشاكل مع جيرانها في كينيا والصومال وإريتريا»، معوّلةً على «عدم استمرار النظام الحالي، وأن يخلفه آخر قادر على شراكة وتعاون مع مصر».

السيسي خلال استقبال رئيس إريتريا أسياس أفورقي في القاهرة (الرئاسة المصرية)

حقائق

أبرز المحطات في علاقات القاهرة مع القارة السمراء

أولاً: عهد عبد الناصر

1961

- افتتاح مصر مكتباً إعلامياً بمقدیشو لدعم قضایا التحرر الوطني

- استضافة القاهرة مؤتمر الشعوب الأفریقیة الثالث الداعم للحركات التحررية

1963

- مساهمة مصر في إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية

1964

- مصر تتولى رئاسة منظمة الوحدة


ثانياً: عهد السادات

1970

- مساعٍ مصرية داعمة لاستقلال جیبوتى وتم ذلك في 1975

1977

- إنشاء مصر معهد تدريب للإعلاميين والإذاعيين الأفارقة

1980 - إنشاء الصندوق المصري للتعاون الفني مع أفريقيا


ثالثاً: عهد مبارك

1989

- مصر تترأس منظمة الوحدة الأفریقیة

1993 - مصر تترأس المنظمة وتستقبل قيادات فصائل صومالیة لدعم المصالحة الداخلية

1995

- محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا وبدء التراجع المصري أفريقياً

1997- القاهرة تستضيف تأسيس مؤتمر القمة «العربي - الأفريقي» الأول

2000

- القاهرة تستضيف أول مؤتمر قمة بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي

- مصر تسهم في تأسيس هيكل الاتحاد الأفريقي

2001- مصر تترأس قمة «الكوميسا»


رابعاً: الفترة من 25 يناير 2011 إلى يونيو 2014

- غياب لافت عن الحضور بأفريقيا


خامساً: عهد السيسي

2014

- إنهاء تجميد عضوية مصر بالاتحاد الأفريقي

2015

- استضافة شرم الشيخ قمة التجمعات الاقتصادية الإقليمية الثلاثة (الكوميسا - السادك - الإياك)

2016

- إقامة «منتدى أفريقيا» بشرم الشيخ الذي تلته قمم مماثلة في 2017 و2018

2018

- تنفيذ مصري لمشروع درء مخاطر الفيضان بغرب أوغندا

- إنشاء المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لدول تجمع الساحل والصحراء

2019

- ترؤس مصر الاتحاد الأفريقي وإطلاقها منطقة التجارة الحرة بالقارة

- إطلاق مبادرات صحية لعلاج مليون أفريقي

- استضافة مصر وكالة الفضاء الأفريقية

2020

- مصر تتسلم رئاسة مجلس السلم والأمن الأفريقي لمدة شهر

2021

- توقيع مصر اتفافية عسكرية واستخباراتية ودفاعية مع السودان وأوغندا وبوروندي وكينيا

- عقد منتدى الاستثمار في أفريقيا بشرم الشيخ

- تسلمت مصر رئاسة الكوميسا

2022

- بدء ملء سد ومحطة جوليوس نيريري الكهرومائية بتنزانيا اللذين أسستهما شركات مصرية

2023

- جولة للرئيس المصري إلى أنجولا وزامبيا وموزمبيق تضاف لجولات وزيارات غير مسبوقة منذ 2014

2024

- تدشين الخط المباشر للطيران بين مصر وجيبوتي والصومال

- توقيع اتفاق عسكري ودفاعي مع الصومال ونيجيريا وإرسال القاهرة شحنة عسكرية لدعم الجيش الصومالي

- إعلان رئاسة مصر لمجلس الأمن والسلم الأفريقي لمدة شهر

- عقد قمة في أسمرة بين رؤساء مصر والصومال وإريتريا

- مصر تقرر البدء في خطوات إنشاء «صندوق للاستثمار» بحوض النيل