بينالي لندن للتصميم.. إبداعات غربية وعربية تستكشف المدينة المثالية

37 دولة تشارك بأحلام وأفكار نحو مستقبل أفضل

الجناح الهندي «مهرجان للأضواء والألوان» - الجناح التركي - أراجيل في جناح لبنان - من معروضات بينالي لندن ({تصوير: جيمس حنا})
الجناح الهندي «مهرجان للأضواء والألوان» - الجناح التركي - أراجيل في جناح لبنان - من معروضات بينالي لندن ({تصوير: جيمس حنا})
TT

بينالي لندن للتصميم.. إبداعات غربية وعربية تستكشف المدينة المثالية

الجناح الهندي «مهرجان للأضواء والألوان» - الجناح التركي - أراجيل في جناح لبنان - من معروضات بينالي لندن ({تصوير: جيمس حنا})
الجناح الهندي «مهرجان للأضواء والألوان» - الجناح التركي - أراجيل في جناح لبنان - من معروضات بينالي لندن ({تصوير: جيمس حنا})

على كامل مساحة القصر التاريخي سومرست هاوس بوسط لندن، انطلق أمس «بينالي لندن للتصميم»، الذي يعقد للمرة الأولى في العاصمة البريطانية، وهو مختلف عن أسبوع لندن للتصميم الذي سينعقد في الفترة ما بين 17 إلى 25 سبتمبر (أيلول) الحالي.
بينالي التصميم الذي يعقد بالتعاون مع شركة جاغوار وسومرست هاوس يستكشف فكرة «يوتوبيا» أو المدينة الفاضلة، وتتنافس 37 دولة مشاركة على تقديم تفسيرها الخاص لليوتوبيا ومستقبل العالم من خلال التصميم.
البينالي فتح أبوابه للإعلام يوم الثلاثاء وقدم لهم الفرصة لمعايشة الابتكارات التي قدمها كبار المصممين العالميين، وأيضا الأفكار الشابة التي شقت طريقها لتصل لهذا الحدث العالمي.

مشاركة لبنانية
الحماسة لزيارة أجنحة الدول المشاركة تنتقل سريعا ما بين الزوار، ونبدأ الجولة من على الشرفة الأرضية لسومرست هاوس المطل على نهر التيمز، حيث احتلت محال ومقاه مصغرة الجناح اللبناني، وكأننا فتحنا نافذة على أحد شوارع بيروت؛ فأمامنا محال تقليدية، مثل الحلاق والمنجد ومحل السندوتشات يقدم الفلافل والشاورما، هناك مقهى مجهز بصفوف الأرجيلة وطاولات تحمل لعبة النرد. وفي بداية الجناح تقف عربة نقل إلى جانبها عمود خراساني يحمل لافتة «ممنوع الوقوف، موقف خاص لسكان البناية». ألتقي مع منسقة المعرض أنابيل كريم قصار، التي تأخذني في جولة حول الجناح، شارحة فكرتها من نقل قطعة حية من بيروت إلى لندن، تقول: إنها ترى أن فكرة التصميم بالنسبة لها تنبع من الشارع، وتعتبره ورشة عمل للتصميم والتنفيذ. العرض الذي يبدو مبنى تحت التنفيذ يحفل بعناصر متعددة من التصميمات التي تميز بيروت، فهناك ستائر مصنوعة من الخرز مثل تلك التي تستخدم في البيوت، وهناك المنجد الذي ينشغل بضرب قطع القطن بعصاه ثم يحشوها داخل كيس من الساتان الزهري، والحلاق الذي يرحب بزوار البينالي لمنحهم قصة شعر وتجربة تنقلهم إلى مدينة تبعد عنهم آلاف الأميال. ترى قصير أن فكرة اليوتوبيا تنبع من هذا المشهد وتشرح «الشارع يتحول إلى مساحة عامة تربط ما بين المنازل عبر الستائر، وتعكس موقفا من المجتمع والتعاون أراه تجسيدا لفكرة (اليوتوبيا). ويبدو استخدام عناصر البناء البسيطة التي نراها أمامنا وكأنها تعكس فكرة أن التصميم عملية مستمرة وليس عملا مكتملا، وتأمل المصممة أن يكون العرض المصغر من شوارع بيروت دافعا لنا لتقدير ما نملك، بدلا من الرغبة في مزيد من الاستهلاك.

سويسرا.. الحياد دائمًا
في الجناح السويسري تحاول المصممة جيوفانا ليزينولي استلهام أهم مميزات بلدها، وهي «الحياد»؛ لاستكشاف مفهوم الـ«يوتوبيا»، وترى أنه محفز للحوار. يقول المسؤول عن الجناح إن سويسرا التي تعرض للمرة الأولى في لندن تهدف من الجناح إلى أن تخلق حالة من الحوار والتعاون، مشيرا إلى أن المعروضات تثبت ذلك عبر التعاون ما بين سبعة مصممين وسبع شركات مصنعة، يشير إلى أحد التصميمات الموضوعة أمامنا قائلا «هذا العمل النحتي هو تكبير لترس بالغ الدقة يوجد عادة في الساعات السويسرية»، يؤكد أهمية التوازن في القطعة «الجمع بين المعدن المقاوم والرقة يجتمعان مع التوازن، وهو ما يمثل فكرة المثالية». من المعروضات الأخرى هناك قطع من الأحجار التي غرزت فيها عدسات مكبرة بالغة الحساسية، من خلال كل عدسة نرى تفاصيل البؤر الموجودة في كل حجر، ولكن أحد تلك القطع يستعيض عن العدسة المكبرة بمرآة مكبرة، فعوضا عن أن نتأمل تفاصيل الحجر نجدنا نتأمل تفاصيل وجوهنا فيها، العمل يحمل اسم «تضخيم الأصل»: «السؤال المطروح هنا هو إنك لكي تستشرف المستقبل يجب أن تنظر حولك بطريقة جديدة وعميقة».

الإمارات العربية المتحدة.. الأفلاج للمستقبل

جناح الإمارات العربية المتحدة يقدم تنويعات على عنصر تصميمي شهير في الإمارات وهو الأفلاج، وهو نظام مائي للري والشرب. الأفلاج كانت تستخدم وسيلة لجلب المياه والحياة للمجتمعات السكنية في الصحراء، وعبر التصميمات المعروضة يبدو أهمية العودة إليها مرة أخرى.
المصممان راشد وأحمد بن شاهب من منسقي الجناح، وحسب ما يذكر لنا راشد، أن الأفلاج تعبر عن الهوية الإماراتية، وأن المشروع المطروح أمامنا يستكشف طرق استغلال نظام الري القديم حاليا. عبر نماذج «ماكيت» تصور مناطق سكنية وحدائق عامة مجمّلة بأشجار نخيل مصغرة، يشرح لنا المنسق فكرة الأفلاج وتصورات للاستفادة منها في التصميم الحديث، سواء في البيوت التي نراها في الماكيتات أمامنا يجمع بينهما الفلج، ويدور حولها مثل السوار، يضيف: «الأفلاج تعمل على ضم البنيان وضم الأهل ببعضهم بعضا». الأفلاج هنا تتخذ صفة «مثالية» ويوتوبية؛ فهي أكثر من مجرد نظام للري والزراعة، فهي اتخذت شكلا اجتماعيا على مر السنين، وأصبحت ملتقى العام والخاص، كما أنها طريقة عادلة لتقسيم المياه في بيئة حارة جافة.

باكستان.. رسومات بالحنة من عالم الطفولة

الجناح الباكستاني يتميز بلمحة جمالية مميزة، قطع من القماش المرسومة تتدلى من سقف الحجرة وتحتها مقاعد خشبية صغيرة. تشير المشرفة على الجناح إلى أن الموضوع العام هنا هو ملاعب الأطفال «أردنا خلق مساحة يستطيع فيها الغرباء تكوين صداقات مع بعضهم الآخر، تشرح لنا «أماكن اللعب تثير لدى الناس ذكريات الطفولة، وفي هذا الجناح أردنا استخدام الألعاب المرتبطة بالثقافة الباكستانية، أردنا خلق مساحة يتعارف فيها الغرباء ويتصادقوا، فكرتنا عن الـ(يوتوبيا) هي المكان الذي يستطيع الأطفال فيه التخلي عن الحذر واللعب على طبيعتهم ليصبحوا أشخاصا أفضل، بشكل ما نتمنى أن يستطيع البالغون فعل ذلك ليتغير عالمنا للأفضل».
كل ستارة من القماش المتدلي تحمل رسومات تصور لعبة من الألعاب المشهورة في باكستان، وتم رسمها باستخدام الحنة. المدهش هنا هو استخدام العناصر التقليدية في التصميم في باكستان من الموتيفات المختلفة المرسومة إلى استخدام الحنة، وأيضا استخدام الرسومات التي تميز فن الرسم على الشاحنات في باكستان ووضعها على القماش لتحتل مكانها ضمن الموتيفات الثقافية والشعبية المختلفة. المقاعد المتناثرة أمامنا هي مأخوذة من ملاه للأطفال «هي المقاعد التي يلعب عليها الأطفال ويدورون بها عبر قاعدتها الدوارة، ربما يجد الزوار أنفسهم في هذه المساحة وقد أخرجوا الأطفال الكامنين داخلهم ليدورا على تلك الكراسي ويتعرفوا إلى بعضهم بعضا مثلما ما يفعل الأطفال».

تركيا.. أين تذهب أمنياتنا؟
جناح تركيا يجذب الزائر عبر الأنابيب الشفافة الضخمة التي تكون شكلا هندسيا جذابا، تلفت نظري كبسولة شفافة تنزلق بسرعة عبر أنابيب أخرى متلاصقة وكأنها تمر في متاهة شفافة، ولكنها ما أن تمر من الأنابيب كافة أمامنا حتى تتخذ طريقها منطلقه في أنبوب طويلة يمتد لخارج الحجرة، ومنها إلى أرجاء المبنى. حسب المنسقة للجناح؛ فالعمل يحمل اسم «آله الأماني»، وهي معالجة معاصرة لفكرة «شجرة الأماني» أو «بئر الأماني» التي يقصدها الناس لربط قطع من القماش تحمل أمنياتهم أو إلقاء قطع من النقود فيها؛ علهم يعودوا لها مرة أخرى. الآلة هنا تحمل أوراقا كتب الزوار عليها أمنياتهم وتحملها عبر شبكة متصلة من الأنابيب الشفافة، نرى الأمنيات التي كتبناها تدور حولنا، شعور غريب بأن كلماتنا تحلق فوقنا وتمضي مليئة بالحركة إلى مكان مجهول خارج الحجرة «إلى أين تذهب الكبسولات والأماني؟» أتساءل وتجيب المشرفة «إلى المجهول، تماما مثل أمنياتنا التي تدور بخلدنا، نرسلها عبر الفضاء ولا نعرف إن كانت ستتحقق أم لا». تعكس فكرة آلة الأماني وإيداع الرغبات والأحلام في المجهول، الأمل في المستقبل الذي يغلف كل التحركات والتنقلات عبر التاريخ والبحث عن أراض مثالية محملين بالأحلام في مستقبل أفضل.

أستراليا.. البلاستيك الملون
يطرح الجناح الأسترالي فكرة التلوث البيئي ومعالجة مثالية لها، يقول المصمم برودي نيل: إن مشروعه المعنون «التأثيرات البلاستيكية» يطرح فكرة العالم المثالي عبر البيئة؛ فهو يستخدم قطع البلاستيك التي تتجمع في البحار والمحيطات لصناعة قطع أثاث جميلة. يشرح أنه طلب من متطوعين أن يجمعوا له ما استطاعوا من قطع النفايات البلاستيكية ليستخدمها في مشروعه. يقول: إن المشكلة البيئية مستمرة ولا نهائية، ولكنه يحاول عبر مشروعه أن يعيدها للاستخدام مرة أخرى. يعرض طاولة بديعة التصميم استخدم فيها عددا هائلا من القطع كانت يوما ما جزءا من أكواب وأكياس قارورات ألقيت في الماء «قطع غيرت الشمس ألوانها وهشمتها الأمواج لتصبح في النهاية مشابهة لحصى البحر، غير أنها ضارة بالحياة البحرية والبرية. نأخذ تلك القطع لنغير مفهوم الناس عنها».

فرنسا.. قطع حلوى لسوريا
الجناح الفرنسي يعالج المأساة السورية عبر تصنيع قطع من الحلوى بطعم ماء الورد وبيعها في ماكينة بيع وضعت في مدخل الجناح، يستطيع الزائر شراء الحلوى من الجهاز وتذهب النقود إلى جمعية خيرية تعنى بالأطفال السوريين. استخدم الفنان شكل تمثال أثري اكتشف في سوريا في الثلاثينات ليكون هو تصميم قطع الحلوى وعبر فيلم سينمائي يعرض في الحجرة المجاورة نرى عملية التصنيع، وأيضا محادثات مع عائلة سوريا في مخيم اللاجئين، تتحدث النساء عن ذكريات الطفولة وطعم الحلوى. يقول الفنان الفرنسي بينجامين لوياتو إن التصميم محاولة منه لفعل شيء من أجل سوريا التي أحبها بعد أن زارها في 2012: «أردت أن أصنع جيشا من قطع الحلوى من أجل السلام، هذه مشاركتي الصغيرة».

السعودية.. كرات الماء الزرقاء
في غرفة مجردة من كل شيء سوى جهاز ضخم لبيع كرات زرقاء، الماكينة «ماكينة المياه»، تشبه الماكينات التي توضع في الأسواق لبيع كرات اللبان الملونة. نعرف من النشرة المنشورة في دليل المعرض أن المصممتين بسمة ونورا بوزو تعالجان فكرة المياه وندرتها من خلال العمل. حين تودع قطعة نقود في الماكينة تخرج منها كرة من كرات الماء الزرقاء، بشكل ما أرادت المصممتان الحديث عن «الحاجة إلى تغيير مؤسساتي تجاه استخدام مصادر الماء». الفكرة هي أن المجتمع المثالي يمكن أن يوجد فقط «إذا استطعنا إخضاع رغباتنا والتفكير في المجتمع بشكل عام».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)