لماذا فشلت الاحتجاجات الشعبية في بناء أنظمة ديمقراطية؟

كتاب يقدم صورة قاتمة عن مسارها ونتائجها

مشهد من الاحتجاجات الشعبية في تونس
مشهد من الاحتجاجات الشعبية في تونس
TT
20

لماذا فشلت الاحتجاجات الشعبية في بناء أنظمة ديمقراطية؟

مشهد من الاحتجاجات الشعبية في تونس
مشهد من الاحتجاجات الشعبية في تونس

ما زالت الاحتجاجات الشعبية العربية تحتاج إلى مزيد من الدراسة لمعرفة الأسباب التي أعاقت تطورها نحو بناء أنظمة ديمقراطية حديثة تستجيب لمصالح الفئات الشعبية في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، حيث ظلت المجتمعات التي حدثت فيها هذه الاحتجاجات، تعاني من نفس الإشكاليات، فسرعان ما سقطت الأنظمة الاستبدادية حتى تكشف لنا التشابه المريع بين الضحية والجلاد، فالثوار الليبيون مزقوا البلاد من خلال العودة إلى القبلية والجهوية وإشاعة العنف والإرهاب وإنهاء الاستقلال والسيادة الوطنية، بوقوعهم تحت الحماية الخليجية أو الغربية، والفصائل المتشددة من الثوار السوريين تقاسموا الإرهاب مع النظام الاستبدادي، بحيث أصبح القتل الوسيلة الوحيدة لفض النزاعات بين فصائل المعارضة. وفي اليمن أصبحت تنظيمات القاعدة وأخواتها «الحوثيين» والقبائل العسكرية، هي التي تتحكم بمصير البلاد والعباد. وفي مصر قفز العسكر، مرة أخرى، على خليفة الصراع المجتمعي بين «الإخوان» والفلول، حين لجأ «الإخوان» للعنف للتغطية على فشلهم في إدارة الدولة في ظل حكم مرسي، والفلول عادوا تحت ذرائع مكافحة الإرهاب، فأصبح الشعب المصري يبحث عن جمال عبد الناصر جديد. ربما الاستثناء الوحيد تونس التي حافظ فيها الشعب التونسي على وتيرة الاحتجاجات السلمية لتحقيق أهداف ثورته ولم ينجر وراء محاولات التيار المتطرف من الإسلام السياسي لفرض العنف في المجتمع.
هذه الصورة القاتمة لنتائج الاحتجاجات الشعبية العربية، يحاول الباحث لطفي حاتم، إلقاء الأضواء عليها في كتابه الجديد الذي صدر أخيرا تحت عنوان «المنظومة السياسية للدولة الوطنية والاحتجاجات الشعبية».
حاول حاتم في الفصل الأول توضيح العلاقة بين العامل الخارجي والصراعات الوطنية في البلدان العربية في ظل التغييرات التي حدثت في العلاقات الدولية في الفترة الأخيرة بعد انحسار سياسة القطب الواحد نتيجة التنافس بين الدول الرأسمالية لإعادة تقسيم مناطق النفوذ على الصعيد الدولي وتأثير ذلك على الدول الوطنية، متناولا أدوات دبلوماسية التدخل في الشؤون الوطنية التي أنهت مفهوم السيادة الوطنية، من خلال الترويج لمبدأ التدخل الإنساني لحماية المدنيين من القمع. ويشير الباحث إلى أن المراكز الرأسمالية الدولية تخلت عن مفهوم الشرعية الديمقراطية بتشجيعها العنف كوسيلة رئيسة لحسم النزاعات الوطنية بين السلطات الاستبدادية والقوى المعارضة، الأمر الذي كشف عن الأهداف الحقيقية لتدخل القوى الدولية، المتمثلة بتخريب الاقتصادات الوطنية وتدمير بنيتها التحتية، إضافة لتخريب التشكيلة الاجتماعية الوطنية، بتشجيعها النزاعات الطائفية والمذهبية والقومية، وليس تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، كشعارات تروج لها الماكينة الضخمة لوسائل الإعلام الرأسمالية وتوابعها الوطنية.
إما في الفصل الثاني، فخصصه الباحث، لدراسة أسباب الاحتجاجات الشعبية ونتائجها الفكرية والسياسية، المتمثلة باختزال الديمقراطية السياسية بشرعية انتخابية أسهمت بصعود الإسلام السياسي إلى سلطة الدولة، مشيرا إلى مسعى الدول الرأسمالية الكبرى وشركاتها الاحتكارية إلى توظيف الإعلام السياسي المعولم في تأجيج النزاعات الداخلية خدمة لمصالحها الاستراتيجية، مستفيدة من تيار الحماية الدولية كحامل وطني لمشروع الهيمنة الدولية على البلدان العربية. كذلك يناقش الباحث دور التيار الوطني الديمقراطي في إعادة البناء الديمقراطي للدولة الوطنية. ويرى أن النتائج الفكرية والسياسية التي تمخضت عنها الاحتجاجات تعود إلى، أولا، انحياز أغلب القوى الديمقراطية الليبرالية واليسارية إلى التوجهات الخارجية المناهضة للاستبداد بشعاراتها الديمقراطية المترابطة والليبرالية الجديدة باعتبارها انعكاسا آيديولوجيا للطور الجديد من العولمة الرأسمالية، وثانيا، إن مشاركة الخارج، أدت إلى تقرير مآل التعارضات الوطنية من خلال انحيازه إلى قوى اجتماعية متجاوبة وأهدافه الاستراتيجية المتناقضة ومصالح البلاد الوطني.
في الفصل الثالث تناول الباحث تحليل الفكر السياسي المتحكم في مسار الدولة الوطنية وتأثير الآيديولوجية السياسية على بناء منظومتها السياسية، متناولا ضمن هذا الفصل تطور فكر تيار الإسلام السياسي عبر المراحل التاريخية المختلفة من تطور الدولة الوطنية، مشيرا إلى الأسباب الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى صعوده، منها النزاعات الآيديولوجية بين تيارات الحركات القومية الحاكمة والأحزاب اليسارية المعارضة حول مفاهيم الوحدة العربية، الشرعية الوطنية، احتكار السلطة، مما أدى إلى ضياع الديمقراطية السياسية وسيادة العنف، الأمر الذي أسهم في تبني شرائح من الطبقة الوسطى لفكر الإسلام السياسي. كما أن تخلي النظم السياسية في الدولة الوطنية عن مهامها الاجتماعية، بعد الانتقال إلى الليبرالية والسوق الحرة، أفضى إلى إفقار وتهميش كثير من الفئات الاجتماعية، إضافة إلى تعرض الطبقة الوسطى، خاصة شرائحها الدنيا للخراب الاجتماعي. وفي الظروف الراهنة ولإعطاء ملموسية لتحليله، ركز الباحث على تطور الفكر السياسي الإسلامي في الدولة العراقية، مشيرا أن انهيار التشكيلة الاجتماعية الوطنية، بعد الاحتلال الأميركي، أدى إلى تغييرات في فكر الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، فالإسلام السياسي الشيعي اصطف مع إجراءات سلطة الاحتلال السياسية والاقتصادية، وبهذا المعنى شكل الاصطفاف مع سلطة الاحتلال تحولا في الفكر السياسي الشيعي، تمثل بالانتقال من محاربة قوى الاحتلال المتعمدة تاريخيا من قبل المرجعية الشيعية إلى التعاون مع الوافد الأجنبي. أما الإسلام السياسي السني فقد مثل تحالفه مع بقايا أجهزة النظام الاستبدادي المنحلة، خاصة قواه العسكرية المخابراتية، بهدف تخريب العملية السياسية والعودة للسلطة، الانتقال إلى مواقع السلفية الوافدة مع الفصائل المسلحة المناهضة للاحتلال وما نتج عن ذلك من سياسة سلفية تكفيرية تتسم بالإبادة الطائفية وتخريب البنى التحتية للدولة.
وفي ختام بحثه، يقدم الباحث مجموعة من الاستنتاجات منها:
1 - كشفت الاحتجاجات الشعبية العربية عن هشاشة البنية السياسية العربية التي انهارت بمجرد انهيار المؤسسة الأمنية وكأن القمع هو الذي يحمي تماسكها الشكلي.
2 - إن لجوء القوى الوطنية المعارضة للنهج الاستبدادي للسلطات الحاكمة للعنف كوسيلة رئيسة لمكافحة الاستبداد، يوفر الظروف المناسبة لتنامي دور العامل الخارجي في حل النزاعات الوطنية، إضافة إلى انهيار التشكيلة الاجتماعية الوطنية، بينما تؤدي التغيرات السلمية إلى تحولات جدية وهادئة في بنية النظم السياسية.
3 - بينت التحولات التي حدثت بعد نجاح الاحتجاجات الشعبية في إسقاط الأنظمة الاستبدادية، جوهر السياسية الخارجية للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي المتمثلة بالتأييد العلني لتيار الإسلام السياسي لتسلم السلطة، بسبب عدم امتلاكه رؤية وطنية لمرحلة إعادة بناء الدولة، إضافة إلى النزعة الإقصائية التي تمييز علاقة بالقوى السياسية المختلفة مع رؤيته الفكرية، الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة لم تصبح معنية بتطبيق الديمقراطية الليبرالية، وهو الشعار الذي رفعته كوسيلة ضغط على البلدان التي تتخذ نهجا وطنيا مستقلا في التنمية.
4 - عدم استفادة تيار الليبراليين العرب الجُدد من دروس التجربة العراقية بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، التي كشفت عن حقيقة الموقف الأميركي من تطبيق الديمقراطية الليبرالية في البلدان العربية، عندما تخلت عن أنصارها من القوى الليبرالية العراقية، بدعمها تسلم تيار الإسلام السياسي السلطة، إضافة إلى تناسي دور قوى الاحتلال الأميركي في إعادة بناء الدولة العراقية على أسس المحاصصة الطائفية والقومية.



هيغل... ليس فيلسوفاً؟

هيغل
هيغل
TT
20

هيغل... ليس فيلسوفاً؟

هيغل
هيغل

لم يحيّر عالمَ الفكر أحدٌ مثلما فعل هيغل. ما زلت ترى في أي معرض كتاب في العالم وبكل لغات الدنيا كتباً جديدةً عن هيغل بعد مائتي سنة من موته. كل التيارات الفكرية بعده تأثرت به وأخذت منه ما تريد، خصوصاً منهجه الديالكتيكي. كل فلسفات القرن العشرين حاولت التحرر من قبضته، حسب ميشيل فوكو، في قراءات متعددة من الماركسية إلى الوجودية، ومن الموالين إلى المخاصمين.

وقع في يدي مؤخراً كتاب غريب ولافت للنظر اسمه «هيغل والتقليد الهرمسي» لأستاذ أكاديمي يُدعى غلين أليكساندر ماغي ذهب بهيغل إلى تفسير صادم ومختلف. من وجهة نظر ماغي، هيغل هرمسي وليس فيلسوفاً.

لا يشكك في أن تأثير كانط وفيخته وشيلينغ على هيغل كان مهماً، لكنه لم يكن التأثير الوحيد. هيغل ليس باحثاً عقلانياً عن الحقيقة، ففي كتاب «ظاهريات الروح» زعم هيغل أنه وصل إلى المعرفة المطلقة. وهذا يخالف نهج الفلاسفة في تعريفها بحب الحكمة، ويتوافق تماماً مع طموحات الهرمسية، وقد كان هيغل مشغولاً بالفلسفة الهرمسية، وكان متأثراً بممثليها منذ صباه، ومتحالفاً مع الهرامسة طوال حياته. تقسيم حياته إلى مراحل مضلل. عادة ما يردّ أمر الهرمسية إلى فترة شباب هيغل فقط، وهذا أمر خاطئ، بل هم معه طوال حياته.

هناك اشتراك في مبدأ العلاقات الداخلية بالنسبة لهرمس وهيغل. الكون ليس مجموعةً من التفاصيل المترابطة بصلات خارجية، ولا يمكن تفسير الطبيعة تفسيراً آلياً ميكانيكياً. بل إن كل شيء في الكون مترابط داخلياً، ومرتبط بكل شيء آخر. هذه القوى، مثل الطاقة أو النور تنتشر في كل مكان. يتجلى هذا المبدأ بوضوح فيما يسمى باللوح الزمردي لهرمس، الذي يبدأ بالسطور الشهيرة «كما في الأعلى، كذلك في الأسفل». لقد أصبحت هذه القاعدة المبدأ، لأنها وضعت الأساس لفكرة وحدة الوجود من خلال التعاطف والتوافق بين مستوياته المختلفة. وأهم ما تتضمنه هو فكرة أن الإنسان هو العالم الأصغر، الذي ينعكس فيه العالم الأكبر، كما في قصيدة ابن سينا، وأن معرفة الذات تؤدي بالضرورة إلى معرفة الكل. باختصار، يمكن حصر أفكار هرمس في أن المطلق يحتاج إلى الجزئي والفردي لكي يكون مطلقاً، بتأمل الإنسان فيه. ويستطيع الإنسان أن يكمل نفسه من خلال المعرفة، بحيث يعرف جوانب أو لحظات من المطلق. ويعتقد هيغل بالمفهوم الدائري للمطلق وللكون، وهذا يتضمن عودة المطلق إلى ذاته من خلال الإنسان الذي يرتفع فوق الطبيعة ويصبح سيدها من خلال المعرفة العميقة.

بالنسبة لماغي، فإن هرمسية هيغل تَثبت بسبب اهتماماته التي تتوافق مع المزيج الغريب من اهتمامات الهرامسة، وتشمل الخيمياء وتعاليم القبالة والتنويم المغناطيسي والروحانية وعلم الآخرة ولاهوت بريسكا وتصوف إيكهارت وبوهمه، والأنظمة السرية الرمزية. إنه يأخذ منهم حتى الرموز الهندسية، المثلثات والدوائر. وتعتبر قضية بوهمه بائع الأحذية الصوفي هي القضية الأكثر إثارة للدهشة، إذ يمنحه هيغل في محاضراته عن «تاريخ الفلسفة» مساحة أكبر من مساحة أكابر الفلاسفة.

مع البحث، اتضح أن ما قرره ماغي ليس جديداً تماماً، فغالباً ما يتم وصف هيغل بأنه صوفي، واتهمه شيلينغ بأنه نقل الكثير عن بوهمه. وهيغل لا ينكر أنه صوفي. وقد سبق الباحث فوغلين ماغي بالقول إن فكر هيغل ينتمي إلى التاريخ المستمر للهرمسية الحديثة منذ القرن الخامس عشر، وذلك في كتابه «حول هيغل: دراسة في السحر»، مشيراً إلى «ظاهريات الروح» باعتباره كتاباً سحرياً يجب الاعتراف به كعمل سحري.

من الخطأ أن نتعامل مع الهرمسية باعتبارها فكرية بحتة، إذ لا يحدث التنوير الهرمسي بمجرد تعلم مجموعة من العقائد. لا تكفي معرفة الأفكار فحسب، بل يجب أن يكون للفرد خبرة حياتية حقيقية بحقيقة الفكرة. ينبغي أن يوجه الإنسان إلى الاستنارة بعناية. يجب علينا استكشاف الأزقة العمياء التي تعد بالتنوير ولكنها لا تفي بوعدها. بهذه الطريقة فقط سيكون للفكرة المطلقة معنى. إنها طريقة ملتوية للغاية، للتخلي عما اعتاد عليه المرء وصار يتملكه الآن، والعودة نحو الأشياء البدائية القديمة. هيغل يحافظ على كل من اللحظات الفكرية والعاطفية لهذا المفهوم الهرمسي للبدء.

التنوير، بالنسبة للهرامسة ولهيغل، ليس مجرد حدث فكري نتوقع أن يغير حياة المستنير، فالفلسفة، بالنسبة إلى هيغل، تتعلق بالعيش السعيد. باختصار، الرجل الذي يحقق الثقة بنفسه لم يعد إنساناً عادياً. إنه لا يحتاج إلى الهروب من العالم لإنقاذ نفسه، بل يريد اكتساب معرفة العالم لتوسيع ذاته على حساب الطبيعة، واستخدام هذه المعرفة لكي يرتقي إلى المطلق. ومعرفة كل شيء تعني بمعنى ما السيطرة على كل شيء. وختم ماغي كتابه قائلاً إن «فكرة استقلال العقل وتطوره التدريجي ذات جذور غير عقلانية عميقة».

ستكون نتائج ماجي معقولة للقراء الذين يفترضون أن «التصوف» بشكل عام غير عقلاني، وهذا ما لا نوافق عليه وسنناقشه في مقالة قادمة. ماجي لم يقدم أي حجة لهذه الفرضية مع ما يرد عليه من أن الفلسفة الهرمسية وغيرها من الاتجاهات الصوفية قد أثرت على المفكرين العقلانيين من مثل بيكون وديكارت وسبينوزا ولايبنتز ونيوتن، ولعبت دوراً غير مقدّر حتى الآن في تشكيل الأفكار والطموحات المركزية للفلسفة والعلوم الحديثة. ومن المعروف أن هيغل كان مهتماً بشدة بأفلاطون وأرسطو وبلوتينوس وبروقلس، وكل منهم يمكن تفسيره، وقد تم تفسيره بالفعل، على أنه صوفي في جوانب مهمة. لكن هؤلاء الكتاب معروفون أيضاً، بالتزامهم بالعقل، لذا فإن مجرد تذكرهم من شأنه أن يثير الشك حول فرضية ماجي بأن التصوف في حد ذاته غير عقلاني، وهذا باختصار غير صحيح، فالتصوف الألماني - خصوصاً مع المايستر إيكهارت - هو أول شكل تجلت فيه المثالية الألمانية في تاريخ الفكر.

* كاتب سعودي