لماذا فشلت الاحتجاجات الشعبية في بناء أنظمة ديمقراطية؟

كتاب يقدم صورة قاتمة عن مسارها ونتائجها

مشهد من الاحتجاجات الشعبية في تونس
مشهد من الاحتجاجات الشعبية في تونس
TT

لماذا فشلت الاحتجاجات الشعبية في بناء أنظمة ديمقراطية؟

مشهد من الاحتجاجات الشعبية في تونس
مشهد من الاحتجاجات الشعبية في تونس

ما زالت الاحتجاجات الشعبية العربية تحتاج إلى مزيد من الدراسة لمعرفة الأسباب التي أعاقت تطورها نحو بناء أنظمة ديمقراطية حديثة تستجيب لمصالح الفئات الشعبية في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، حيث ظلت المجتمعات التي حدثت فيها هذه الاحتجاجات، تعاني من نفس الإشكاليات، فسرعان ما سقطت الأنظمة الاستبدادية حتى تكشف لنا التشابه المريع بين الضحية والجلاد، فالثوار الليبيون مزقوا البلاد من خلال العودة إلى القبلية والجهوية وإشاعة العنف والإرهاب وإنهاء الاستقلال والسيادة الوطنية، بوقوعهم تحت الحماية الخليجية أو الغربية، والفصائل المتشددة من الثوار السوريين تقاسموا الإرهاب مع النظام الاستبدادي، بحيث أصبح القتل الوسيلة الوحيدة لفض النزاعات بين فصائل المعارضة. وفي اليمن أصبحت تنظيمات القاعدة وأخواتها «الحوثيين» والقبائل العسكرية، هي التي تتحكم بمصير البلاد والعباد. وفي مصر قفز العسكر، مرة أخرى، على خليفة الصراع المجتمعي بين «الإخوان» والفلول، حين لجأ «الإخوان» للعنف للتغطية على فشلهم في إدارة الدولة في ظل حكم مرسي، والفلول عادوا تحت ذرائع مكافحة الإرهاب، فأصبح الشعب المصري يبحث عن جمال عبد الناصر جديد. ربما الاستثناء الوحيد تونس التي حافظ فيها الشعب التونسي على وتيرة الاحتجاجات السلمية لتحقيق أهداف ثورته ولم ينجر وراء محاولات التيار المتطرف من الإسلام السياسي لفرض العنف في المجتمع.
هذه الصورة القاتمة لنتائج الاحتجاجات الشعبية العربية، يحاول الباحث لطفي حاتم، إلقاء الأضواء عليها في كتابه الجديد الذي صدر أخيرا تحت عنوان «المنظومة السياسية للدولة الوطنية والاحتجاجات الشعبية».
حاول حاتم في الفصل الأول توضيح العلاقة بين العامل الخارجي والصراعات الوطنية في البلدان العربية في ظل التغييرات التي حدثت في العلاقات الدولية في الفترة الأخيرة بعد انحسار سياسة القطب الواحد نتيجة التنافس بين الدول الرأسمالية لإعادة تقسيم مناطق النفوذ على الصعيد الدولي وتأثير ذلك على الدول الوطنية، متناولا أدوات دبلوماسية التدخل في الشؤون الوطنية التي أنهت مفهوم السيادة الوطنية، من خلال الترويج لمبدأ التدخل الإنساني لحماية المدنيين من القمع. ويشير الباحث إلى أن المراكز الرأسمالية الدولية تخلت عن مفهوم الشرعية الديمقراطية بتشجيعها العنف كوسيلة رئيسة لحسم النزاعات الوطنية بين السلطات الاستبدادية والقوى المعارضة، الأمر الذي كشف عن الأهداف الحقيقية لتدخل القوى الدولية، المتمثلة بتخريب الاقتصادات الوطنية وتدمير بنيتها التحتية، إضافة لتخريب التشكيلة الاجتماعية الوطنية، بتشجيعها النزاعات الطائفية والمذهبية والقومية، وليس تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، كشعارات تروج لها الماكينة الضخمة لوسائل الإعلام الرأسمالية وتوابعها الوطنية.
إما في الفصل الثاني، فخصصه الباحث، لدراسة أسباب الاحتجاجات الشعبية ونتائجها الفكرية والسياسية، المتمثلة باختزال الديمقراطية السياسية بشرعية انتخابية أسهمت بصعود الإسلام السياسي إلى سلطة الدولة، مشيرا إلى مسعى الدول الرأسمالية الكبرى وشركاتها الاحتكارية إلى توظيف الإعلام السياسي المعولم في تأجيج النزاعات الداخلية خدمة لمصالحها الاستراتيجية، مستفيدة من تيار الحماية الدولية كحامل وطني لمشروع الهيمنة الدولية على البلدان العربية. كذلك يناقش الباحث دور التيار الوطني الديمقراطي في إعادة البناء الديمقراطي للدولة الوطنية. ويرى أن النتائج الفكرية والسياسية التي تمخضت عنها الاحتجاجات تعود إلى، أولا، انحياز أغلب القوى الديمقراطية الليبرالية واليسارية إلى التوجهات الخارجية المناهضة للاستبداد بشعاراتها الديمقراطية المترابطة والليبرالية الجديدة باعتبارها انعكاسا آيديولوجيا للطور الجديد من العولمة الرأسمالية، وثانيا، إن مشاركة الخارج، أدت إلى تقرير مآل التعارضات الوطنية من خلال انحيازه إلى قوى اجتماعية متجاوبة وأهدافه الاستراتيجية المتناقضة ومصالح البلاد الوطني.
في الفصل الثالث تناول الباحث تحليل الفكر السياسي المتحكم في مسار الدولة الوطنية وتأثير الآيديولوجية السياسية على بناء منظومتها السياسية، متناولا ضمن هذا الفصل تطور فكر تيار الإسلام السياسي عبر المراحل التاريخية المختلفة من تطور الدولة الوطنية، مشيرا إلى الأسباب الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى صعوده، منها النزاعات الآيديولوجية بين تيارات الحركات القومية الحاكمة والأحزاب اليسارية المعارضة حول مفاهيم الوحدة العربية، الشرعية الوطنية، احتكار السلطة، مما أدى إلى ضياع الديمقراطية السياسية وسيادة العنف، الأمر الذي أسهم في تبني شرائح من الطبقة الوسطى لفكر الإسلام السياسي. كما أن تخلي النظم السياسية في الدولة الوطنية عن مهامها الاجتماعية، بعد الانتقال إلى الليبرالية والسوق الحرة، أفضى إلى إفقار وتهميش كثير من الفئات الاجتماعية، إضافة إلى تعرض الطبقة الوسطى، خاصة شرائحها الدنيا للخراب الاجتماعي. وفي الظروف الراهنة ولإعطاء ملموسية لتحليله، ركز الباحث على تطور الفكر السياسي الإسلامي في الدولة العراقية، مشيرا أن انهيار التشكيلة الاجتماعية الوطنية، بعد الاحتلال الأميركي، أدى إلى تغييرات في فكر الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، فالإسلام السياسي الشيعي اصطف مع إجراءات سلطة الاحتلال السياسية والاقتصادية، وبهذا المعنى شكل الاصطفاف مع سلطة الاحتلال تحولا في الفكر السياسي الشيعي، تمثل بالانتقال من محاربة قوى الاحتلال المتعمدة تاريخيا من قبل المرجعية الشيعية إلى التعاون مع الوافد الأجنبي. أما الإسلام السياسي السني فقد مثل تحالفه مع بقايا أجهزة النظام الاستبدادي المنحلة، خاصة قواه العسكرية المخابراتية، بهدف تخريب العملية السياسية والعودة للسلطة، الانتقال إلى مواقع السلفية الوافدة مع الفصائل المسلحة المناهضة للاحتلال وما نتج عن ذلك من سياسة سلفية تكفيرية تتسم بالإبادة الطائفية وتخريب البنى التحتية للدولة.
وفي ختام بحثه، يقدم الباحث مجموعة من الاستنتاجات منها:
1 - كشفت الاحتجاجات الشعبية العربية عن هشاشة البنية السياسية العربية التي انهارت بمجرد انهيار المؤسسة الأمنية وكأن القمع هو الذي يحمي تماسكها الشكلي.
2 - إن لجوء القوى الوطنية المعارضة للنهج الاستبدادي للسلطات الحاكمة للعنف كوسيلة رئيسة لمكافحة الاستبداد، يوفر الظروف المناسبة لتنامي دور العامل الخارجي في حل النزاعات الوطنية، إضافة إلى انهيار التشكيلة الاجتماعية الوطنية، بينما تؤدي التغيرات السلمية إلى تحولات جدية وهادئة في بنية النظم السياسية.
3 - بينت التحولات التي حدثت بعد نجاح الاحتجاجات الشعبية في إسقاط الأنظمة الاستبدادية، جوهر السياسية الخارجية للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي المتمثلة بالتأييد العلني لتيار الإسلام السياسي لتسلم السلطة، بسبب عدم امتلاكه رؤية وطنية لمرحلة إعادة بناء الدولة، إضافة إلى النزعة الإقصائية التي تمييز علاقة بالقوى السياسية المختلفة مع رؤيته الفكرية، الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة لم تصبح معنية بتطبيق الديمقراطية الليبرالية، وهو الشعار الذي رفعته كوسيلة ضغط على البلدان التي تتخذ نهجا وطنيا مستقلا في التنمية.
4 - عدم استفادة تيار الليبراليين العرب الجُدد من دروس التجربة العراقية بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، التي كشفت عن حقيقة الموقف الأميركي من تطبيق الديمقراطية الليبرالية في البلدان العربية، عندما تخلت عن أنصارها من القوى الليبرالية العراقية، بدعمها تسلم تيار الإسلام السياسي السلطة، إضافة إلى تناسي دور قوى الاحتلال الأميركي في إعادة بناء الدولة العراقية على أسس المحاصصة الطائفية والقومية.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!