الديمقراطي الحقيقي هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية وليس من يتمناها في برجه العالي

محمد نور الدين أفاية في «النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»

الديمقراطي الحقيقي هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية وليس من يتمناها في برجه العالي
TT

الديمقراطي الحقيقي هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية وليس من يتمناها في برجه العالي

الديمقراطي الحقيقي هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية وليس من يتمناها في برجه العالي

سأركز في هذا المقال، على دراسة بعض القضايا التي أثارها الدكتور محمد نور الدين أفاية، في القسم الثاني من كتابه الجديد: «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، الطبعة 2014. وفيه عالج «الكثافة النقدية التي تتضمنها الفلسفة وعلاقتها بأسئلة الوجود والحياة، وللأبعاد النقدية الثاوية، بل والمكونة للديمقراطية، باعتبارها نظرة إلى الإنسان وإلى المجتمع، فضلا عن كونها سياسة تنبني من المساءلة والمراقبة» (ص 13). من خلال رصد مجموع القضايا التي تجعل من الفلسفة لا مجرد تأمل نظري بحت، بل فعلا مقترنا بالواقع المعيش وباليومي، حيث يدعونا إلى إعادة النظر في طريقة وأساليب عمل الفلسفة، وربطها بالواقع اليومي المعيش، بما هي نشاط يمنحنا الحياة السعادة بالمعنى الأبيقوري. حيث يذهب إلى أن الفلسفة، كمادة فكرية وتربوية، تبقى «رغم وضعيتها المؤسسية والثقافية، مجالا للتنوير والتحفيز والاجتهاد. بل إنه من الأفضل، بجميع التقديرات، دعم الدرس الفلسفي داخل المؤسسات وترسيخه، بدلا من ترك الميدان حرًا للنزعات اللاعقلانيّة، حيث ينتعش التحجر، واللاتسامح، وإعدام التاريخ» (ص 122). وهذا ما يجعلنا نعتبر أن غايات الدرس الفلسفي تتجاوز الممارسة الفصلية، وتخترق جدران الفصل الدراسي نحو الخارج، حيث تدعو إلى قيم إنسانية نبيلة غير مستساغة لذوي النزعة اللاعقلانية، ولذوي النزوع نحو التحجر والتعصب.
ويقف كثيرًا على وضعية الدرس الفلسفي بالمغرب، ويعتبره درسا تحيط به إكراهات وضغوط تتعلق بالمناخ الثقافي العام، وبما هو مؤسسي، وبغياب الشروط المادية، حيث يقول: «يعيش الدرس الفلسفي، سواء كان جامعيا أو ثانويا، مجموعة ضغوط، منها ما هو مؤسسي وما هو رهين بالسياق المادي، ومنها ما يتصل بالوضعية النظرية التي يتحرك ضمنها، وبالمناخ الثقافي العام الذي يتفاعل معه سلبا أو إيجابا» (ص 120). وبطبيعة الحال، أمكننا تلخيص هذه الضغوط في طبيعة المجتمع المغربي، حيث تحضر السلطة التقليدية والمحافظة بقوة في القرار السياسي، ناهيك عن الثقل التاريخي الذي نحمله معنا منذ مأساة ابن رشد.
يفرض علينا النظر إلى طبيعة العلاقة بين المؤسسة التعليمية والفلسفة، افتراض أن هناك اختلافا جوهريا بين أهداف وغايات الفلسفة، وأهداف وغايات المؤسسة التربوية. ففي الوقت الذي تتجه فيه الفلسفة نحو نقد المألوف والسائد، وخلخلة الدوكسا (المعتقد الشائع)، والثابت، والآراء المسبقة حول المجتمع وثقافته وسلوكياته، تتجه المؤسسة بصفة عامة، نحو تكريس السائد، وإعادة إنتاج التقليد، والمحافظة على الآيديولوجيا المهيمنة. تبدو وظيفة المدرس حقا مختلفة عما ألفناه، في حين أنه كخبير ومختص في مادته التدريسية، فهو لا يقوم بأي شيء إبداعي أو خارق، لأنه يقوم فقط بمساعدة التلاميذ على فهم النصوص وتفكيك المضامين، وتدريبهم على الكتابة الإنشائية. وعلى الرغم من ذلك، يبقى مدرس الفلسفة بكل سلطاته التربويّة والمعرفيّة والمهنيّة، في خدمة المؤسسة التعليميّة للأسباب التي ذكرناها أعلاه. لذلك نتفق مع دريدا في أنه لا وجود لمكان محايد وطبيعي في التعليم، أي أن الأمر يتعلق باتخاذ موقف سياسي، أي موقف القبول أو رفض اللعبة: هذا هو منطق السياسة. وهو ما يرفضه سلافوي جيجيك، حينما يعتبر أن الفلسفة والسياسة مفترقتان: ففي الوقت الذي تتجه فيه السياسة صوب تدبير وتسيير وتقويم المجتمع، أي حل المشكلات، تتجه الفلسفة نحو إثارة المشكلات وعلى الأخص المشكلات الجديدة؟ وبهذا المعنى تقف الفلسفة في وجه المؤسسة لأنها تخدم أغراض السياسة.
ليست تأملات الدكتور بنوع التأملات الفارغة من المعنى، ولا بنوع الشعارات الرنانة التي تعودنا سماعها في النقاشات الجارية، بل هي نابعة من عمق غيرته على الدرس الفلسفي، في بعده المنهجي والمعرفي أيضا، لأن «التفلسف معناه أن تفكر فيما تعرف وما تعيش وما تريد» (ص 101)، وهو بذلك يخترق جدارا يعرف جيدا أنه ليس بهين: فكيف لنا أن نفكر فيما نعرف وما نعيش وما نريد؟ إن الدعوة إلى تأمل المعيش والتساؤل عن البديهيات والأحكام المسبقة، لهي مغامرة حقيقية، من دونها لا يمكن الحديث عن تفلسف حقيقي. فهذا الأخير «ليس مجرد ادعاء أو مغامرة، بل هو عمل وجهد لا يحصل من دون قراءات وأدوات بل معاناة»، إن التفلسف يفيد في نظر الدكتور: «نقد للمسبقات والأوهام وللآيديولوجيات... إنه عمل وكفاح سلاحه العقل وأعداؤه تعبيرات البلاهة والتعصب والانغلاق وحلفاؤه مختلف العلوم، وهدفه الحكمة والسعادة» (102)، وهنا تتضح بجلاء عمق النزعة الأبيقورية التي يستحضرها ويستشهد بها غير مرة: «الفلسفة نشاط يمنحنا الحياة السعيدة من خلال الخطاب والبرهنة».
يؤمن الدكتور إيمانًا عميقًا بقدرة الفلسفة على القيام بوظيفتها النقديّة، فعلى الرغم من الصورة السلبيّة التي يرسمها الجميع عن درس الفلسفة، و«على الرغم من كل العوائق التي لا تزال تحيط بالدرس الفلسفي في المغرب وفي العالم العربي ككل، فإن هناك بصيص أمل، هناك من لا يزال يجتهد داخل الحقل الفلسفي، ولا تزال أنوية شابة تعمل على توصيل السؤال وتبليغ الهم الفكري».
ينطلق الدكتور لبحث العلاقة الشائكة بين الفلسفة والديمقراطية، من التساؤلات التالية: هل يمكن تصور دور ما للفلسفة في ظل التحولات الجارفة الجارية على الصعيد الدولي؟ هل يحتمل منطق العولمة، بانكساراتها وأزماتها وحساباتها، إمكانية إدخال هامش من التأمل والتفكير؟ ما هو دور الفلسفة في المجال الديمقراطي؟ كيف يمكن للفلسفة، وللديمقراطية معها، أن تساهم في تكوين المواطنين؟ وما هي وسائلها ومقاصدها؟
تمثل تغيرات السيّاسة في عالم اليوم، الهاجس الأكبر للدكتور في اختياره لموضوعة الديمقراطيّة، ناهيك عن محيطنا الثقافي والسيّاسي والاجتماعي، أي الطبيعة المركبة لمجتمعنا المغربي. بحيث يدعو إلى تدقيق النظر في العلاقة بين الفلسفة والديمقراطية من خلال رصد الموقفين المتعارضين حول دور الفلسفة اتجاه الديمقراطية، لأنه «يصعب تصور تسخير الأولى قصد تحقيق الثانية» (117)، وسيكون من الخطأ «اعتبار الفلسفة دعامة للديمقراطية بالضرورة، وسنكون واهمين إذا عملنا على تنمية تدريس الفلسفة وانتظرنا، من خلال ذلك، نتائج تخدم وتنشر القيم الديمقراطية بكيفية آلية ونفعية». هكذا يرى «إنه من الصعب الاستنتاج بأن أي فيلسوف أو من اكتسب معرفة فلسفية، إنسان ديمقراطي بالضرورة، ويشهد تاريخ الفكر الفلسفي على هذا التعارض الصارخ بين الفلسفة وسؤال الديمقراطية، بحيث إن السياق يفرض نفسه: ألم يدافع توماس هوبز عن الحكم الملكي المطلق في وجه الجمهوريين باسم المصلحة العامة؟ فالديمقراطي الحقيقي في نظره هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية، وليس ذلك الذي يتمنى الديمقراطية في برجه العالي وكأنها قدر ستأتي يوما لا محالة». غير أن الديمقراطية لا تفيد في نظره مجرد أسطورة أو حكاية بل هي ممارسة لا تخلو من سلبيات، وتقبل التطور والتغير، من هنا يستحضر النقاش المعاصر الذي دشنه الفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس إلى جانب رواد الليبرالية السياسية الأميركية: جون راولز وتشارلز تايلور حول الديمقراطية التمثيلية والتي تعيش أزمة حقيقية في عصر العولمة.
لقد أبانت العولمة عن حدود الديمقراطية التمثيلية، من جهة ظهور مؤسسات عالمية تدير حكما سياسيا دوليا، وهي مؤسسات تمارس سلطتها على مجموع الكوكب من دون حاجة إلى أي شرعية انتخابية أو شعبية، من قبيل مجموعات الدول الثماني الكبار أو مجموعة العشرين، التي تضع مصير مواطني العالم بين أيدي الشركات المتعددة الجنسية. ولنأخذ كمثال على ذلك، اتفاقية (الاتفاقية متعددة الاستثمار)، التي تمنح الحق للشركات للاعتراض على قرارات دولة ما، تمس بمصالح الشركة. لقد صار قرار الدولة بسيادتها ومؤسساتها وعمليتها السياسية ككل، موضع سؤال، وتعاظم دور الاقتصاد أمام دور الدول.
يقترح أفاية، توليفة متأنية وعميقة للدور المفترض للفلسفة تجاه الديمقراطية، لأن «ممارسة التأمل الفلسفي لا تفهم بوصفها مقاربة لتاريخ الأفكار، بمقدار ما يفترض فيها المساعدة على تكوين المواطن وتطوير حسه النقدي التحليلي، وتقديره لتنوع الحجج واختلافها ووعيه بنسبية الأمور. وتمثل المساهمة في تنمية القدرة على الحكم معطى أساسيًا في الحياة الديمقراطية، خصوصًا إذا ما حصل تجاوز الإطار الضيق للاختصاص، وتلاه الانفتاح الملائم على وسائط الاتصال الجديدة، لمحاربة الأمية الفكرية ونشر الفكر العقلاني» (120)، بحيث إن ما يقرب الفلسفة من الديمقراطية، في نظره، هو القدرة على النقد الذاتي، أي قدرة الفلسفة على إعادة النظر في أساسياتها وقدرة الديمقراطية على تطور مؤسساتها في خدمة المواطنين.
لا تسير الفلسفة مع الديمقراطية دوما في اتجاه واحد، كما أن حضور الفلسفة في بلد ما من البلدان لا يقترن بالضرورة بالديمقراطية، بل يرتبط الأمر بالإرادة السياسية وبمرونة القرار السياسي، وأن التاريخ الثقافي والفكري لبلد ما قد لا يساير تاريخه السياسي. فهناك: «بلدان ديمقراطية لا تعير الفلسفة أي اهتمام، ولا تدمجها في نظامها التربوي، أو تستدعيها في حياتها الثقافية، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية». وبهذه الإشارة، فإن رهان مؤسسة اليونيسكو أن تحقق الفلسفة وتعزز الديمقراطية في بلدان مستبدة أو أوثوقراطية، هو رهان يقبل النقض. وعلى العكس من ذلك، نجد الفلسفة حاضرة بقوة في بلدان غير ديمقراطية، ما يطرح السؤال حول أطروحة اليونيسكو. يحدد الدكتور التقاء الفلسفة والديمقراطية في أربعة مستويات: الشك: بحيث إن البحث عن الحق والمناقشة حول العدالة يتطلب: خلخلة اليقينيات، ومساءلة الثابت، والانتقال من الأجوبة إلى الأسئلة؛ الكلام، أي ضرورة المناقشة والنقد ومواجهة حجج الآخرين، سواء في مجال الفكر الفلسفي أو في معترك السياسة؛ المساواة: لأن المساهمة في الحوار والمناقشة لا يتطلب أي ترخيص أو أي سلطة أو صفة، بل القدرة على الكلام والإقناع والحجاج؛ التأسيس الذاتي: بحيث إن «الفلسفة والديمقراطية تستمدان قوتهما من ذاتيهما، ولا تخضعان لأي قوة عير منبعثة منهما».
تمثل هذه المستويات بحق مجالات اشتغال الفلسفة السيّاسيّة والعلوم السيّاسيّة معًا، مع افتراض التمايز الممكن بين الخطاب الفلسفي وبين الخطاب السيّاسي، ففي الوقت الذي يتجه هذا الأخير، نحو غايات نفعيّة ولحظيّة تهدف إلى تدبير الشأن العام، فإن الخطاب الفلسفي يهدف إلى مساءلة الخطاب السياسي برمته، وإلى إثارة المشكلات لا كما يراها السيّاسي ذو النظرة الضيقة – ولربما لأنها تتعارض ومصلحته الخاصة – وإنما كما يراه منطق العقل في تاريخيته وفي بعده الكوسموبوليتي. وبموجب هذا، يقر «إن الفلسفة في الأول والأخير، اختيار فكري وتربوي وسياسي، نجد من يعتبره وسيلة لتعزيز العملية الديمقراطية، وتحفيز التفكير الحر، ونلقى، في المقابل، من يرى أن هناك أولويات اقتصادية واجتماعية يتعين توفيرها، أولا، قبل الانشغال بقضايا الفلسفة وبأمور تدريسها»، وعلى الرغم من ذلك، فالقرار السياسي يستحضر البعد الديمقراطي للفلسفة، لأن مهمة الفلسفة هي «تكوين المواطن، وتطوير حسه التحليلي، وتقديره لتنوع الحجج واختلافها، ووعيه بنسبية الأمور».



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.