الشاعر الأسترالي كلايف جيمز يتحدث من فراش المرض

كتب عن السينما والتلفزيون والإذاعة كما يكتب عن الأدب والفلسفة

كلايف جيمز
كلايف جيمز
TT

الشاعر الأسترالي كلايف جيمز يتحدث من فراش المرض

كلايف جيمز
كلايف جيمز

في 2010 وجد الأطباء أن الشاعر والناقد والإعلامي التلفزيوني الأسترالي كلايف جيمز يعاني من سرطان الدم على نحو لا علاج له. ومنذ ذلك الحين وهو يعكف - في انتظار النهاية المحتومة - على قراءة ما فاته أن يقرأه في سنواته السابقة أو إعادة قراءة ما قرأه قديمًا، بعين جديدة. وقبل أن تنطوي صفحة 2015 أخرجت له مطبعة جامعة «ييل» كتابًا عنوانه «أحدث قراءاتي» يتضمن تعليقاته على حصاد هذه السنوات.
Clive James، Latest Readings، Yale University Press، 2015.
ظل جيمز دائما معنيًا بالثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية على السواء. إنه يكتب عن الفيلم والتلفزيون والإذاعة كما يكتب عن الأدب والفلسفة. وكتابته دائمًا تتسم بالتشويق والنضارة. فهو لا يتعالى على القارئ ولا يبدو كمن يتحدث من فوق منصة عالية إلى من هم دونه. يقول في آخر مقالات هذا الكتاب الجديد، وعنوانها «ذيل» أو «تذييل»: «لا يجمل بالناقد أن يكتب لكي يقول: (انظر كم أن قراءاتي واسعة» وإنما أن يقول: (انظر إلى هذا. إنه مدهش)». فالناقد دليل يأخذ بيد القارئ ويوجه نظره إلى نواحي الجمال - التي قد تكون مستخفية - في العمل الفني الذي أمامه. ويذكر جيمز أن في كنيسة كلية الثالوث بجامعة «كمبردج» البريطانية، حيث يثوي جثمان الفيلسوف النمساوي لودفيج فتجنستاين، لوحة في تأبينه باللغة اللاتينية تقول إنه حرر الفكر من أغلال اللغة (كان فتجنستاين من أكبر فلاسفة اللغة في القرن العشرين). ويضيف جيمز: «لو أنه وضعت لوحة على قبري فأتمنى أن تقول: لقد كان عاشقًا للكلمة المكتوبة، وقد نقل ذلك للشباب».
ومقالات الكتاب تتناول موضوعات كثيرة، منها الزعماء السياسيون مثل تشرشل الذي قاد بريطانيا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، وهتلر، والنقد السينمائي، وحضور المرأة مخرجة وممثلة ومنتجة في هوليود. هذا إلى جانب مقالات (أغلبها قصير قد لا تجاوز المقالة منها ثلاث صفحات) عن بعض أعلام الأدب الحديث: الروائي الأميركي همنجواي، والروائي بولندي المولد إنجليزي اللغة جوزيف كونراد، والشاعر الإنجليزي فيليب لاركين، والروائي هندي المولد ف.س.نايبول، والشاعر الأميركي رتشارد ولبر، مع رجوع – في الزمان - إلى شكسبير وكيف رآه الناقد صمويل جونسون في القرن الثامن عشر. وثمة مقالة ممتعة (تذكرنا بكتاب عباس محمود العقاد «في بيتي») عنوانها «أرفف إضافية» يصف فيها جيمز ازدحام بيته بالكتب التي امتدت إلى كل الغرف والأركان، وشكوى زوجته – شأن كل زوجات الأدباء - من تشويهها منظر البيت (يروى في أدبنا العربي القديم أن زوجة أحد الأدباء قالت له: إن كتبك هذه أشد علي من عشرين ضرة!).
يتوقف جيمز عند همنجواي في مقالتين، إحداهما تحمل عنوان «همنجواي في البداية» والأخرى عنوانها «همنجواي عند النهاية». في المقالة الأولى يقول إنه أعاد قراءة روايته المسماة «الشمس تشرق أيضا» (1926) بعد مرور سنوات طويلة على قراءته لها لأول مرة. لقد انطبعت أشياء منها في ذاكرته منذ ذلك الحين، مثل وصف همنجواي لأشجار الكستناء في باريس، أو ركض الثيران - في موسم مصارعتها - في مدينة بنبلونا الإسبانية. وهو الآن لا يزال يجدها رواية فاتنة بفضل أسلوب همنجواي النثري الذي يبدو – على السطح - بسيطا، ولكنه في الحقيقة ثمرة جهد شاق، ومسودات كثيرة. إنه يصور هنا انقشاع الأوهام الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، وعددًا من الأميركيين المغتربين في باريس وإسبانيا ممن يمثلون «الجيل الضائع» (التعبير للأديبة الأميركية جرترود ستاين) الذي فقد إيمانه بكثير من المعتقدات القديمة بعد أن حطمت بربرية الحرب كثيرًا من مسلماته، فعاش من يوم ليوم باحثًا عن المعنى ومقتحمًا شتى التجارب في مجالات الفن والحب والجنس والمغامرة (من أبطال الرواية مصارع ثيران إسباني شاب تقع البطلة الأميركية في غرامه). وينظر جيمز إلى الرواية في إطارها الزمني والحضاري بوصفها معبرة عن لحظة تاريخية معينة.
وفي مقالة «همنجواي عند النهاية» يتحدث جيمز عن سنوات همنجواي الأخيرة والظلال التي راحت ترتمي على حياته (ومنها خوفه من أن تنضب قدرته على الإبداع الفني، وانتهت بانتحاره في 1961. لقد كان – في رأي جيمز - يعاني من انقسام داخلي: فهو في الظاهر مغامر شجاع يذهب إلى أماكن الحروب الخطرة ويخرج لصيد الأسود وغيرها من الوحوش. ولكنه في أعماقه روح حساسة تتوق إلى السكينة والجمال. لقد كان - مثل الشاعر الألماني ريلكه - ضحية تدليل أم تحوطه بالحماية وكأنه فتاة رقيقة يخشى عليها من الانكسار. ومن ثم كان رد فعله – حين شب عن الطوق - هو أن يؤكد رجولته بالأنشطة الرياضية والصيد والانخراط في الحروب.
ومن الأدباء الآخرين الذين يتوقف عندهم جيمز، الشاعر الإنجليزي فيليب لاركين، في مقالة عنوانها «فيليب لاركين دائمًا». لقد ظل لاركين – إلى جانب إليوت وأودن - من أكثر الشعراء المحدثين استحواذًا على إعجاب جيمز واهتمامه. وهو هنا يعرض سريعًا كتابًا صدر حديثًا عنه هو «فيليب لاركين: الحياة والفن والحب» من تأليف جيمز بوث، مع الرجوع إلى «قصائد فيليب لاركين الكاملة» التي حررها آرشي بيرنيت. ويجد جيمز هذه القصائد ممتعة ناضرة كالعهد بها حين قرأها قديمًا، أيام كانت تنشر في مجلة محطة الإذاعة البريطانية، مجلة «ذا ليسنر» (المستمع). لقد كتب جيمز خلال حياته الأدبية ست مقالات على الأقل عن لاركين، ولكنه يعتبر أنه لم يمس منه غير السطح، وأنه لا تزال هناك أعماق للاركين، تنتظر الاكتشاف. كانت حياة لاركين الداخلية تشتمل على كثير من التوترات – بل والمناطق المظلمة - ولكنه تمكن من أن يترجمها إلى شعر جميل.
لقد صدر كتاب جيمز هذا في ظل الموت، إذ ينتظر مؤلفه – بشجاعة ورواقية - أن يسدل الستار على حياته. إنه يقول: «إذا كنت لا تعرف على وجه الدقة، اللحظة التي ستطفأ فيها الأنوار، فإنه خير لك أن تستمر في القراءة إلى أن تنطفئ»، وكأنما يردد – بصيغة أخرى - كلمات الكاتب والسياسي الأميركي بنيامين فرانكلين: «خير لك أن تشعل شمعة واحدة من أن تقضي الوقت في لعن الظلام». ومع ارتماء هذا الظل التراجيدي على ظروف تأليف الكتاب، فإنه يظل حاملاً رسالة أمل وثقة، ويؤكد لقراء جيمز ومحبيه – وأنا منهم - أنه لا يزال محتفظا بقدراته الإبداعية وقواه الفكرية (أصدر أيضا في نفس العام 2015 ديوانًا شعريًا عنوانه «محكوم عليه بالحياة») دون تدهور أو نقصان.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟