«الاستثناء التونسي» والفرصة الأخيرة

حرب ليبيا والتهريب والإضرابات أولويات حكومة «الوحدة الوطنية» الجديدة

رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)
TT

«الاستثناء التونسي» والفرصة الأخيرة

رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)

خلافا لما ورد في أغلب التقارير الإعلامية، نجح الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي وشركاؤه في الأحزاب والنقابات الكبرى في إنجاح مبادرته السياسية التي أعلن عنها قبل 3 أشهر التي دعا فيها إلى تشكيل حكومة «وحدة وطنية» تذكر بالحكومات الأولى التي شكلها الحبيب بورقيبة زعيم تونس الراحل بعد الاستقلال عن فرنسا. وخلافا لتوقعات المتشائمين والمعارضين اليساريين والنقابيين صوت لصالح هذه الحكومة ثلاثة أعضاء البرلمان بينهم نواب يمثلون أحزابا رفضت المشاركة في تشكيلتها.
وخلافا لتشكيلة الحكومات السابقة عُين على رأس هذه الحكومة وزير شاب في الأربعين من عمره ينتمي إلى حزب الرئيس، كما اختارت الأحزاب لتمثيلها فيها سياسيين من بين «المعتدلين» الذين لم يكونوا طرفا في الصراعات الآيديولوجية والسياسية وأعمال العنف التي شهدتها البلاد في العقود الماضية. فهل تنجح هذه الحكومة في تحقيق الأهداف التي تشكلت من أجلها وعلى رأسها معالجة ملفات الإرهاب ومضاعفات الحرب مع ليبيا واستفحال العجز التجاري وعجز كبرى المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التابعة للدولة؟ وهل تنجح تونس - من خلال حكومة يوسف الشاهد في إثبات صواب «النموذج التونسي للانتقال الديمقراطي السلمي وللتوافق بين الليبراليين واليساريين المعتدلين والإسلاميين الديمقراطيين» أم يحصل العكس؟

تتباين المواقف والتقديرات في صفوف المراقبين والباحثين التونسيين هذه الأيام بين متفائل ومتشائم ومتعامل بحذر مع «الطبخة التونسية الجديدة».
ولعل من أبرز مفارقات هذه الحكومة، التي هي التاسعة منذ انفجار «الربيع العربي»، أن بعض منتقديها والمتخوفين من إخفاقها ينتمون إلى قيادات النقابات والأحزاب المشاركة في تشكيلتها.
لكن حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي لحزب «نداء تونس»، ونور الدين البحيري، نائب رئيس حزب «حركة النهضة» الإسلامي ورئيس كتلته في البرلمان، يؤكدان مع عدد آخر من الساسة والنقابيين وزعماء الأحزاب الصبغة التاريخية للتحالف الحكومي الجديد الذي ضم لأول مرة ليبراليين وشخصيات من نظام زين العابدين بن علي ورموزا من التيارات اليسارية والنقابية «المتشددة» وقيادات من تيار «المسلمين الديمقراطيين» من خريجي الجامعات الأوروبية والأميركية.
* ورقة رابحة؟
ويفتخر يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الجديدة، بكونه نجح في الحصول على ثقة البرلمان في فريق يضم لأول مرة زعماء نقابيين بارزين بينهم الوزراء الجدد للشؤون الاجتماعية والوظيفة العمومية والتربية والتعليم والزراعة، وهم على التوالي محمد الطرابلسي وعبيد البريكي وناجي جلول وسمير الطيب. كما يفتخر رئيس كتلة حزب «نداء تونس» في البرلمان سفيان طوبال بكون رئيس الحكومة الجديد ينتمي بوضوح للقيادة العليا لحزبه، الذي كان الفائز بالمرتبة الأولى في انتخابات 2014. خلافا لسلفه الحبيب الصيد الذي كان يصنف «مستقلا» رغم أنه كان وزيرا للداخلية في حكومة الباجي قائد السبسي الأولى عام 2011. وينوه قياديون في الحزب نفسه بكون نوابه الـ67 والمنشقين عنه الـ22 دعموا سياسيا رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد، بما حسن موقعه التفاوضي مع منافسيهم الرئيسيين نواب «حركة النهضة»، وفي المقابل حسنت «الحركة» حجم تمثيلها في التشكيلة الجديدة «لكنها بقيت في الصف الثاني بعد حزب قائد السبسي رغم كونها أصبحت صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان بـ69 مقعدا»، على حد تعبير الأكاديمي والمحلل السياسي عبد اللطيف الحناشي.
* الدولة أولاً
تصريحات راشد الغنوشي زعيم حزب «حركة النهضة»، الذي خرج بـ6 حقائب وزارية بينها الصناعة والتجارة والاتصالات والاقتصاد الرقمي، شددت على أن مفاوضاته مع الرئيس التونسي قائد السبسي ومع رئيس الحكومة المعين يوسف الشاهد حول توزيع الحقائب «أعطت الأولوية لمصالح الدولة على المصالح الحزبية». ولذلك دعم الحزبان الكبيران - النداء والنهضة - بقوة مبدأ عدم تغيير وزراء الدفاع والداخلية والخارجية والتربية، كما وافقا على إشراك قيادات من نقابات العمال ورجال الأعمال والفلاحين «بهدف توجيه رسالة طمأنة للشعب التونسي والمستثمرين والمراقبين العرب والأجانب حول بروز مؤشرات جديدة للإصلاح واستقرار الأوضاع في البلاد». والموقف نفسه الذي يؤكد «انتصار المصالح العليا للدولة على الاعتبارات الحزبية» برز على لسان برلمانيين من عدة أحزاب وثلة من مستشاري قائد السبسي ومقربين منه، بينهم فيصل الحفيان ورؤوف الخماسي ونور الدين بن نتيشة. ودعم هذا التوجه بشكل غير مسبوق أمين عام اتحاد نقابات العمال حسين العباسي، ورئيس نقابات الفلاحين عبد المجيد الزار، ورئيس نقابة الصناعيين والتجار وداد بوشماوي، فضلا عن قادة الأحزاب الصغرى المشاركة في الائتلاف الحكومي الجديد.
* استبعاد «الصقور» و«المناضلين»
لعل من أهم مميزات الحكومة الجديدة أن الشخصيات التي تمثل الأحزاب فيها لا تصنف ضمن «الصقور» و «المناضلين» و «الزعماء التاريخيين» «خلافا للحكومات المتعاقبة منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2014، فقد وقع تمثيل حزب قائد السبسي بـ«تكنوقراط» من بين المقربين منه ليس بينهم أحد المؤسسين للحزب قبل 4 سنوات، بعد سلسلة الاستقالات والإقالات التي شملتهم. كما اختار زعيم «النهضة» راشد الغنوشي أن يكون ممثلوه في هذه الحكومة سياسيين من «الجيل الجديد» ليس بينهم أي عضو من «القيادة التاريخية» لمرحلة «سنوات الجمر» ومرحلة الصراع الطويلة بين التيار الإسلامي ونظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي في العقود الماضية.
ولقد أسندت الحقيبة الأهم من حصة «النهضة» أي الصناعة والتجارة للأمين العام الجديد للحزب زياد العذاري، وهو محام في العقد الخامس من عمره من بين خريجي جامعة باريس - السوربون الفرنسية - ممن لم يسبق لهم أن عرفوا السجون والمنافي والمعارك مع النظام، كما أسندت حقيبة التشغيل إلى الناطق الرسمي السابق للحركة وهو برلماني سابق عرف باعتداله ودفاعه عن خيار «المصالحة الوطنية الشاملة» ويرفض تصنيف حركته ضمن تيار «الإسلام السياسي» العربي ويعتبرها تيارا من «المسلمين الديمقراطيين» على غرار الأحزاب «المسيحية الديمقراطية» في أوروبا.
وقد عوّض العذاري في هذا المنصب رئيس الحكومة الأسبق علي العريّض الذي حوكم بالإعدام والمؤبد أكثر من مرة في عهد بورقيبة وبن علي وقضى 16 سنة في السجن قبل أن يشغل رئاسة الوزراء بعد تولي «النهضة» السلطة ضمن ترتيب الشراكة الوطنية.
في المقابل، استبعد يوسف الشاهد من حكومته زعماء أحزاب حرصوا على المشاركة فيها، مثل ياسين إبراهيم زعيم حزب «آفاق» وسليم الرياحي زعيم «الحزب الوطني الحر» واكتفى بتعيين شباب وسياسيين من الصف الثاني يمثلونهما.
هذا، ونسبت مصادر مسؤولة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى الرئيس قائد السبسي حرصه على أن تكون «حكومة الوحدة الوطنية» ممثلة لأغلب التيارات والقوى السياسية دون أن تتطور إلى «ناد لكبار الزعماء الحزبيين» بما قد يهدد تماسكها بعد مدة على غرار ما حصل مرارا في بعض حكومات لبنان وإيطاليا.
* قطيعة مع المناضلين
هذا التوجه يتناسق مع ترفيع نسبة الشباب والنساء في الفريق الحكومي لتبلغ نحو نصف أعضائها. إذ ينتمي الوزراء ووزراء الدولة الشبان إلى كل التيارات بما في ذلك الحزبين الكبيرين - النداء والنهضة - اللذين يتحكمان في ثلثي مقاعد البرلمان، لكن بعض السياسيين مثل مصطفى بن أحمد، البرلماني القيادي في حزب مشروع تونس الذي لديه 22 نائبا، يحذر من مخاطر الرهان على الشباب الذين قد لا تتوفر فيهم شروط الخبرة والكفاءة والنزاهة والإخلاص للوطن. وسار في التوجه نفسه سامي الطاهري الناطق الرسمي باسم اتحاد نقابات العمال. وفي هذا السياق حذر مراقبون ومختصون في علم الاجتماع السياسي، مثل المنصف وناس من سيناريوهات قد تواجه الوزراء والجيل الجديد من السياسيين في صورة اندلاع اضطرابات شبابية واجتماعية وأمنية جديدة. وعلى رأس تلك السيناريوهات وصول البلاد إلى مرحلة يعجز فيها «التكنوقراط» و «السياسيون الشبان والنساء» عن إقناع الشباب المهمش والثائر والعاطلين عن العمل والمضربين بسبب غياب «الكاريزماتية» والقدرة على الإقناع لديهم. ويعتقد عالم الاجتماع المهدي مبروك أن «استبعاد جيل المناضلين من القيادات السياسية والشخصيات الكاريزماتية سلاح ذو حدين، لأن الأوساط الشبابية والشعبية والنقابية تحتاج إلى زعماء قادرين على قيادتهم وليس إلى مجرد تكنوقراط وفنيين وشباب متخرج من الجامعات الأوروبية والأميركية.
* ملفات الأمن والإرهاب
إلا أن من أبرز التحديات التي سوف تحكم لصالح هذه الحكومة أو ضدها ملفات التنمية المستعجلة والأمن والإرهاب وانعكاسات حرب ليبيا على تونس. وفي هذا الإطار أكد خميس الجهيناوي، وزير خارجية تونس، «ألا نجاح ولا استقرار في تونس إذا لم تحسم الحرب في ليبيا وإذا تجددت التهديدات الإرهابية خصوصا في المناطق الحدودية». ورغم نجاح الحكومة السابقة في توجيه ضربات موجعة للمجموعات الإرهابية التي تسللت من حدود البلاد الجنوبية والغربية، بالشراكة مع الجزائر وعواصم غربية، فإنه يبقى خطر تجدد أعمال العنف السياسي واردا.
وللعلم، تزامن تشكيل حكومة يوسف الشاهد والأيام الأولى من تنصيبها بسلسلة من الهجمات والعمليات الإرهابية التي قتل فيها عسكريون ومدنيون في غابات جبال المحافظات المتاخمة للحدود الجزائرية التونسية. ويكشف تجدد مثل هذه الهجمات بعد نحو عام من التهدئة عن تشابك الأوضاع في تونس بالمستجدات الأمنية في جارتها ليبيا وفي عمقهما الاستراتيجي العربي والأفريقي، حيث تؤكد التقارير العسكرية والأمنية تضاعف عدد «المسلحين المتطرفين» الفارين من نيران الحروب مع مقاتلي «داعش» وحلفائه في سوريا ومالي ونيجيريا وتشاد.
* الوضع المالي
من جهة أخرى تعتبر التحديات الاقتصادية الاجتماعية بدورها من أخطر ما يواجه «الاستثناء التونسي»، حسب محافظ البنك المركزي السابق مصطفى كمال النابلي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»؛ إذ حذر النابلي مع اقتصاديين وخبراء مستقلين آخرين من مخاطر «عدم مصارحة الشعب والنقابات ورجال الأعمال بحقيقة المصاعب الاقتصادية التي تواجه البلاد، ومن بينها عجز ميزان المدفوعات والعجز التجاري وتراكم الديون الخارجية وعجز كثير من المؤسسات الوطنية، مثل الصناديق الاجتماعية وشركات الطيران والنقل البري ومؤسسات الفوسفات والأسمدة الكيمياوية والمصانع المصدرة.
بل إن الخبيرة الاقتصادية، جنات بن عبد الله، تحذر من وصول البلاد في عهد الحكومة الجديدة لأول مرة إلى مرحلة «العجز عن احترام تعهداتها المالية، بما في ذلك العجز عن تسديد الرواتب والأجور بعدما تضاعف حجم الأجور في ميزانية الدولة 3 مرات منذ ثورة 2011 في مرحلة تراجع فيها الإنتاج والإنتاجية والاستثمار».
ولقد كان الخطاب الافتتاحي لرئيس الحكومة الجديد أمام البرلمان مناسبة أطلق فيها صيحات فزع بسبب «الخطوط الحمراء الاقتصادية والاجتماعية» ومن بينها تراجع موارد الدولة من صادرات الفوسفات بسبب الإضرابات إلى نحو 30 في المائة فقط من قيمتها قبل 5 سنوات. لكن الشاهد بدا رغم ذلك متفائلا بـ«نجاح تونس الجديدة» و «النموذج التونسي للتغيير السلمي» رغم إقراره بتأثيرات الحرب في ليبيا والمحيط الإقليمي المتقلب «الذي تزايدت فيه مخاطر العنف السياسي والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة».
* أوضاع هشة
وهكذا، بسبب تراكم التحديات الاقتصادية والمالية تبدو الأوضاع في تونس في عهد الحكومة الجديدة هشة رغم رسائل التطمين التي وجهتها الأحزاب الكبرى وثلاثة أرباع أعضاء البرلمان الذين صوتوا لفائدتها، بل إن وزير المالية السابق والأكاديمي حسين الديماسي ذهب إلى حد توقع «انهيار قريب» لهذه الحكومة بسبب «الإفراط في الانفتاح على الأحزاب». واعتبر الديماسي مع عدد من السياسيين التونسيين، بينهم وزير التجارة السابق محسن حسن، أن «مشاركة 7 أحزاب و3 نقابات في تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية سيؤدي إلى شلل رئيس الحكومة الشاب بسبب صعوبة التوفيق بينها في القضايا المستعجلة والقرارات الوطنية الموجعة التي ستضطر إلى اتخاذها إذا تواصلت الأزمة الاقتصادية، وبينها قرارات بطرد عشرات الآلاف من العمال تشكو مؤسساتهم صعوبات مالية».
أما زعماء اليسار «الراديكالي» وقيادات «الجبهة الشعبية» الممثلة في البرلمان بـ15 نائبا فقد بدأوا مبكرا إصدار تصريحات وبلاغات وتقارير تنذر بـ«انهيار» هذه الحكومة التي يصفونها بأنها «حكومة ترضيات ومحاصصة بين الحزبين الكبيرين النداء والنهضة»، ويتهمونها بـ«التحالف مع صندوق النقد الدولي ومافيات المال الفاسد في الداخل والخارج ضد مصالح العمال والفقراء والمهمشين والشباب».
* الورقة الدولية
في هذا المناخ العام يتابع قادة الأحزاب الكبرى الليبرالية والإسلامية والقومية إعلان تفاؤلهم بانتصار «النموذج التونسي للانتقال السلمي والتغيير الهادئ» بالاعتماد على المجتمع المدني «على غرار ما جرى في صائفة 2013 عندما احتكم الفرقاء السياسيون إلى حوار وطني ساهم فيه قادة المنظمات الحقوقية والنقابية واستبعدوا فيه «الحل العسكري». وهنا يشير وزير الخارجية السابق رفيق عبد السلام إلى أهمية «الورقة الدولية» وتشجيع صناع القرار في عدة عواصم غربية للمسار السياسي التونسي الذي يقوم على «التوافق بين العلمانيين والإسلاميين وبين الليبراليين واليساريين، مع احترام نتائج صناديق الاقتراع والمؤسسات المنتخبة.
فهل تبادر واشنطن والعواصم الأوروبية بتقديم دعم مادي أكبر لتونس حتى تكسب رهانات رفع التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها؟
البداية ستكون من مقر صندوق النقد الدولي في واشنطن الذي تعهد بإسناد حكومة تونس بنحو 3 مليارات دولار من القروض الجديدة لتضمن احترام تعهداتها المالية الداخلية والدولية.. وحتى لا تضطر لإعلان «سياسة تقشف» قد تتسبب في اضطرابات اجتماعية وأمنية واسعة ينهار بسببها «نموذج الانتقال الديمقراطي» و «الاستثناء التونسي للتغيير السلمي».

* أكاديمي وإعلامي تونسي



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.