من التاريخ: ظهور الاتحاد الأوروبي

فيم دفيسنبرغ
فيم دفيسنبرغ
TT

من التاريخ: ظهور الاتحاد الأوروبي

فيم دفيسنبرغ
فيم دفيسنبرغ

تطور مشروع التكامل الأوروبي، كما تابعنا خلال الأسابيع الماضية، من مجرد فكرة لتنسيق السياسات في إطار جماعة الفحم والصلب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى سوق مشتركة بمقتضى «اتفاقية روما» عام 1957، وهو ما فتح المجال أمام توسيع التكامل تدريجيًا دون الانتظار لنقل النجاح من قطاع إلى آخر. إذ رأت الدول الست أن الفرصة مواتية لخلق السوق المشتركة، لضمان الحرية الكاملة للتنقل بين الأفراد ورأس المال، وهو ما بدأ يأتي تدريجيًا.
بعدها رأت بعض الدول الأوروبية غير المنضمة الفرص التي يوفرها مشروع التكامل الأوروبي الجديد، فسعت للانضمام وعلى رأسها بريطانيا، بينما شهدت السوق الأوروبية المشتركة نجاحًا نسبيًا لمؤسساتها ممثلة في المجلس واللجنة والبرلمان والمحكمة الأوروبية. وهذا ما فتح المجال أمام توسيع رقعة التكامل بين الدول ودفع بطموحات الأعضاء إلى خطوات تكاملية إضافية، ليس فقط للإدارة المشتركة لاقتصاداتها، مما دفع السوق الأوروبية لوضع أطر أكبر في هذا الاتجاه.
لعل أهم هذه الخطوات كان التجهيز لاتفاقية إطارية جديدة توسع السلطات المركزية للسوق وتفتح المجال أمام مزيد من التكامل. ولقد قادت ألمانيا وفرنسا هذه الخطوة منذ عام 1984 بدفع فكرة توسيع سلطات المؤسسات الأوروبية، ومطالبة الدول الأعضاء بمراجعة القوانين الداخلية لبناء السوق الداخلية الموحّدة لأوروبا، تمهيدًا لإنشاء الاتحاد الأوروبي بدلاً من الجماعة الأوروبية. وهو ما تمخض عن التوقيع على اتفاقية القانون الأوروبي الموحّد (Single European Act) عام 1987. هذه الخطوة وضعت هدف إنشاء الاتحاد الأوروبي الكامل على أساس كفالة الحريات الأربع كفالة كاملة؛ وهي حرية انتقال الأفراد والأموال والخدمات والسلع بحلول عام 1992. كما طالب بإقامة سياسة خارجية وأمنية مشتركة وأدخل التعديلات اللازمة على «اتفاقية روما»، لتوسيع سلطات المؤسسات الأوروبية وتحريرها، خصوصًا المجلس الذي أصبحت قراراته بالأغلبية المؤهلة بدلاً من الإجماع، وإنشاء نظام قضائي داخلي لتسوية المنازعات. وأضاف إلى سلطات بعض المؤسسات الأخرى على رأسها البرلمان الأوروبي. كما أنشئت مؤسسة لضمان الانصهار الاقتصادي والاجتماعي بين الدول الأعضاء، من خلال تقديم الدعم للدول الأقل نموًا في التجمع، لضمان التزامها بالخطوات المقبلة دون الإخلال بأوضاعها الاقتصادية أو الاجتماعية.
بهذه الخطوة بدأ الاندماج الأوروبي للأعضاء يخرج من مجرد فكرة التكامل إلى مرحلة الاتحاد، ونحا منحنى جديدًا باتجاه الفيدرالية من خلال كثير من الخطوات التالية؛ لعل أهمها التوقيع على «اتفاقية ماستريخت» الشهيرة عام 1992 التي أنشأت كيان «الاتحاد الأوروبي» بدلاً من «الجماعة الأوروبية». فلقد وضعت الاتفاقية كل المؤسسات الأوروبية؛ وهي «اليوروأتوم» و«جماعة الفحم والصلب» و«الجماعة الأوروبية» و«محكمة العدل الأوروبية»، تحت مظلة «الاتحاد الأوروبي». وقضت بمزيد من التطوير لهذه المؤسسات، لتضطلع بالمهام الجديدة التي صارت موكلة إليها. كذلك أنشأت قطاع السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، بهدف توحيد السياسة الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد خلال السنوات التالية. ولكن أهم ما أقرته هذه الاتفاقية كان «الاتحاد النقدي الأوروبي» الذي يهدف في النهاية إلى اعتماد عملة أوروبية موحّدة في الدول الأعضاء، عبر ثلاث مراحل أساسية تتضمن: تنسيق السياسات النقدية بين الدول الأعضاء ومراقبة هذا التنسيق، ثم إقامة بنك مركزي أوروبي تمهيدًا لإدخال عملة «اليورو» لتحل محل العملة الحسابية للاتحاد، وهي «وحدة النقد الأوروبية»، ولتكون بديلاً عن العملات المختلفة لكل دولة. وكان الهدف من هذه الخطوة في الأساس، هو دعم الاندماج بين الدول الأعضاء وخفض تكلفة المعاملات الاقتصادية والتجارية وتحفيز الأسواق لمزيد من الاستفادة. كذلك، أقرت هذه الاتفاقية ما عُرف بالجنسية الأوروبية، وهي الجنسية التي يحصل عليها المواطن في أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، التي يترتب عليها حقوق للأفراد في الخدمات والامتيازات.
ربما كان أهم ما ميز هذه المرحلة الجديدة في الاتحاد الأوروبي إدخال عملة «اليورو» الموحدة بين الدول، من خلال ما عرف بآلية الصرف الأوروبية التي كانت الدول منضمة إليها منذ عام 1979، عندما كان حلم العملة الموحدة يداعب الدول الأعضاء. وكانت هذه الآلية تهدف إلى تنظيم التعامل بالعملات المحلية للدول، من خلال نظام ثابت للصرف بينها يضمن قدرًا من الاستقرار، فلا يحق للدول خفض عملتها بما يزيد على نسبة معينة منعًا للتذبذبات، لتأثير ذلك على عملية التكامل. وبمجرد الاتفاق على إنشاء بنك (مصرف) مركزي أوروبي وبرئاسة شخصية هولندية مرموقة، فيم دفيسنبرغ، بدأ الاستعداد لنشر العملة الأوروبية الموحّدة، فأسست «منطقة اليورو» أولاً في عام 1999 بمشاركة 11 دولة، تمهيدًا لإدخال العملة الموحدة في عام 2002، وهو ما تم بالفعل.
ثم جاءت «اتفاقية شينغن» بين عدد محدود من الأعضاء، لتضيف خطوة إضافية نحو الاندماج من خلال توحيد معايير الحدود بينها للأجانب. وبمقتضى هذه الاتفاقية يتيسر للزائر التنقل بحرّية كاملة بين الدول الأعضاء أيًا كانت الدولة مصدر التأشيرة، وهو ما فتح المجال أمام توسيع حركة السياحة بين هذه الدول والخارج، إضافة إلى توحيد القواعد المصاحبة لذلك ومتابعة الجرائم العابرة للحدود. أيضًا أقر الاتحاد ميثاق الحقوق الأساسية، الذي أصبح قانونًا ملزمًا لكل الدول الأعضاء يتضمن قطاعًا عريضًا من حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وكذلك شمل عمل الاتحاد التعاون في كل القطاعات على مصراعيها، بما في ذلك عمل الشرطة والشؤون الاجتماعية والتعاون يبن النيابات والقضاء وغيرها من القطاعات.
لقد شهدت الوحدة الأوروبية نجاحًا كبيرًا في كل المجالات، غير أن السياسة الخارجية والأمنية المشتركة لا تزال متأخرة نسبيًا، مقارنة بالقطاعات الأخرى في الاتحاد. إذ لم تستطع دول الاتحاد الاستقرار على توحيد كل جوانب السياسة الخارجية حتى الآن، لأسباب متعلقة بالسيادة والتوجهات الخارجية المختلفة للدول الأعضاء، ولكن المحاولات مستمرة لتوحيد المعايير الخاصة بالعلاقات الخارجية على الأقل في بعض المجالات.
وهكذا تحوّل مشروع التكامل الأوروبي، من مجرد حلم يداعب الساسة على مرّ العصور إلى حقيقة مطلقة اليوم، إذ غدا الاتحاد الأوروبي (قبل انسحاب بريطانيا) يضم 28 دولة أوروبية، ويمثل ثاني أكبر قوة اقتصادية على المستوى العالمي بناتج قومي إجمالي وصل إلى 19.2 مليار دولار. وهو يأتي في المرتبة الثانية عالميًا، بعد المارد الصيني ومن بعده الولايات المتحدة، محققًا متوسط دخل للفرد يصل إلى 34 ألف دولار سنويًا. وهذا تحقق بفضل تضامن دوله وتكاملها اقتصاديًا ضمن أمور أخرى، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم أكثر من أي وقت، هو لماذا نجح هذا الاتحاد بينما فشلت محاولات لتكتلات أخرى لديها قواسم مشتركة أكثر من دول الاتحاد؟



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.