«الفيدراليات» السورية.. معضلة الحلول

تدخل تركيا أجهض حلم الأكراد بقيام «روج آفا».. وفرض «المنطقة الآمنة» شمال حلب

«الفيدراليات» السورية.. معضلة الحلول
TT

«الفيدراليات» السورية.. معضلة الحلول

«الفيدراليات» السورية.. معضلة الحلول

قضى التدخّل البرّي التركي، وما تلاه من إبعاد الميليشيات الكردية في شمال سوريا من منطقة غرب الفرات إلى شرقه، على حلم الانفصاليين الأكراد بتأسيس كيان لهم في شمال البلاد، يهيمنون عليه مع وجود مكوّنات أخرى من عرب وآشوريين وتركمان. وبدا هذا التدخل، أقرب إلى الضربة القاضية لقيام «فيدرالية شمال سوريا» الكردية المعروفة باسم «روج آفا»، فيما يرى البعض أنه مؤشر على اتفاق دولي قد يكون النظام السوري جزءًا منه، مع العلم أن الملف الكردي يجمع مصالح النظام وتركيا وإيران، رغم اختلافهم على جميع النقاط والملفات الأخرى. ثم أن التوغّل البرّي التركي في محيط مدينة جرابلس، جاء بعدما بعث نظام بشار الأسد خلال الأسبوع الماضي رسالة عنيفة لأكراد سوريا، مفادها أن محاولات تشكيل فيدرالية في البلاد «لن يقبل بها»، إذ قصف طيران النظام منطقة الحسكة لأول مرة، بعد سيطر الأكراد على معقل تنظيم داعش في مدينة منبج بريف محافظة حلب، ودعمهم «مجلس الباب العسكري» العازم على طرد «داعش» من مدينة الباب، جنوب غربي منبج.
يتشارك النظام السوري وتركيا الإدراك أن أي تقدم عسكري إضافي في منطقة شرق محافظة حلب، يمهّد الطريق أمام لأكراد لإعلان «فيدرالية شمال سوريا» المعروفة باسم «فيدرالية روج آفا»، وذلك بالنظر إلى أن السيطرة على 42 كيلومترًا تفصل ميليشيات الأكراد بين شرق المحافظة وشمالها، ما سيوصل المنطقتين ويكمل الخطوات العملية لإعلان «الفيدرالية».
كان ذلك ممكنًا قبل التوغّل البرّي التركي الذي حجز منطقة للعمق الاستراتيجي التركي في شمال محافظة حلب، تحمي حلفاء تركيا والتركمان الموجودين فيها، وتمنع الأكراد من وصل سيطرتهم بين بلدتي عين العرب (كوباني) شرقًا وعفرين غربًا، وهي منطقة حدودية مع تركيا بريف حلب الشمالي، تمتد على 50 كيلومتر بدءًا من جرابلس التي سيطر عليها الجيش التركي وحلفاؤه من المعارضة المعتدلة الأربعاء الماضي.
على أن «الفيدرالية» في شمال سوريا، هي القطعة الوحيدة التي كانت اتضحت معالمها في سوريا المستقبل، وسط سيناريوهات متضاربة لجغرافية «سوريا المستقبل» خصوصًا بعد إعلان جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الأميركية، أواخر الشهر الماضي، أنه «لا يمكن عودة سوريا موحّدة مرة أخرى».
الكلام عن التقسيم، ينطوي على عدة سيناريوهات، أولها يتحدث عن منطقة نفوذ كردية في شمال سوريا، ومنطقة نفوذ للنظام تمتد من دمشق إلى اللاذقية، وأخرى تسيطر عليها الجماعات المتشدّدة لا يُعرف مصيرها. أما السيناريو الآخر، فيتحدث عن دولة كردية في الشمال، وسنّية في الوسط تمتد إلى الشرق، وعلوية في الساحل، ودرزية في الجنوب، بينما تتبع دمشق وحمص لنفوذ الدولة العلوية. والآن، إثر التدخل التركي برزت معالم «المنطقة الآمنة»، التي كان الأتراك يدفعون باتجاه إنشائها في سوريا منذ أكثر من عامين، قبل أن يجهضها التدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية خلال سبتمبر (أيلول) 2015.

عوائق «الفيدراليات»
لا تبدو كل «السيناريوهات» المطروحة لتقسيم سوريا، واضحة. ذلك أن ثمة عائقين أساسيين يحولان دون قيامها:
- العائق الأول يتمثل في موانع الشعب السوري وقوات المعارضة على وجه التحديد، التي اتخذت على عاتقها مهمة إبقاء سوريا موحدة بعد رحيل نظام بشار الأسد.
- العائق الثاني، عائق دولي، ذلك أن ملف الأكراد يشكل أكبر العوائق بالنظر إلى أن منحهم منطقة نفوذ مستقلة، مهما كان اسمها وشكلها، سيثير حساسية الأتراك وإيران، خصوصًا أنه سيفتح شهية الأكراد على تأسيس دولة مستقلة كبرى مستقبلاً. فمنحهم هذا الحق في العراق وسوريا يسهل تمدّدهم إلى إيران وتركيا.
هذا، وتزداد العوائق في ظل الخلاف الظاهر بين الولايات المتحدة وروسيا - كونهما الطرفين المعنيين بشكل مباشر وأساسي بالحل في سوريا - على «خريطة طريق» تبدأ من تفاوت وجهتي النظر حول مصير بشار الأسد، ولا تنتهي بقواعد النفوذ في المنطقة، حيث تتمدد روسيا، وتثبت قواعد عسكرية في سوريا، وربما في إيران. وعليه، يتفق جميع المعنيين بالملف السوري على أن الحل في سوريا، حتى بالتقسيم، غير واضح حتى الآن، لأنه يرتبط بالمتغيرات الجيوسياسية على مستوى المنطقة ككل.

خطط غامضة
مع التلميحات الأميركية التي جاءت على لسان برينان بأن سوريا ربما لا تبقى على وضعها الحالي بعد اندلاع الأزمة هناك قبل خمس سنوات، تتصاعد المؤشرات على خطط غامضة حول مصير الجغرافية السورية، وجغرافيا النفوذ. ولقد جاءت ضربة النظام للأكراد في الحسكة، لتمثل مؤشرًا على أن النظام، وبعد اجتماعات مسؤولين إيرانيين وأتراك الأسبوع الماضي، واجتماع مسؤوليه في 5 لقاءات مع مسؤول تركي، «لا يقبل بمنطقة نفوذ كردية».
ويقول معارضون سوريون إن هذا التوجّه «يدعمه التقارب الإيراني - التركي، وربما اتفاق طهران وتركيا على هذا الملف الذي يشغل بالهما»، معتبرين أن الضربة «تأتي في سياق ردعيّ»، ومتوقفين عن احتمالات أن تكون روسيا تريد منها توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة، التي تعتبر الحليف الأساسي لأكراد سوريا.
لكن الأكراد، الذين يلتقون مع المعارضين على أنها رسالة تركية - إيرانية، ينفون أن تكون روسيا أعطت النظام الضوء الأخضر لها؛ إذ يقول مصدر كردي بارز لـ«الشرق الأوسط» إن روسيا «لم تتخذ أي خطوة سلبية تجاه الكرد، ولم تغلق أي ممثلية لهم في روسيا»، حاصرًا القضية بالتقارب التركي - الإيراني على ملف منع قيام فيدرالية في شمال سوريا، يتمتع فيها الأكراد بنفوذ. ويضيف: «النظام وتركيا منزعجان مما حققناه في منبج، وخطوات التقدم نحو الباب بريف حلب».
ومن ثم، يوضح المصدر الكردي أن النظام «يحاول على الدوام الإيحاء بأنه الطرف القادر على محاربة الإرهاب، ويقدّم نفسه على هذا النحو لابتزاز الأوروبيين سعيًا وراء إقامة علاقات معه»، لكنه «صُدم بقدرتنا على محاربة الإرهاب علمًا بأنه غير قادر على مقارعة (داعش)، ولا يرغب بذلك، في ظل توزيع قواته والذهاب إلى الأولويات التي تبقيه في السلطة». وعليه «تصبح الضربة على أعتاب التوصل إلى تصديق على فيدرالية (روج آفا) التي طرحت في مارس (آذار) الماضي، عبر مجلس الفيدرالية الذي تشكل في رميلان في مارس الماضي». ويذكر أنه في مارس الماضي، أعلن بعض الأكراد في سوريا عن استعدادهم لإعلان نظام فيدرالي بشمال البلاد، في خطوة حملت مؤشرات على توسيع نظام الإدارة الذاتية القائم في ظل الأمر الواقع، رغم أن المسؤولين الأكراد ادعوا أن هذا النظام لن يقتصر على الأكراد وحدهم، بل سيضم مختلف المجموعات العرقية، معربين عن أملهم في أن يعمم النظام الفيدرالي على بقية مناطق البلاد.
غير أن هذه الخطوة جوبهت برفض النظام السوري وفصائل المعارضة على حد سواء، إذ حذّر نظام دمشق من أن طرح موضوع الفيدرالية يشكل مساسًا بوحدة الأراضي سوريا، بينما قال «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» إن «تحديد شكل الدولة سواء أكانت مركزية أو فيدرالية ليس من اختصاص فصيل بمفرده».

أبعد من الحدود السورية
من جهة أخرى، قبل أشهر، عكس تصريح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف حول آمال موسكو بأن «يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية»، تناغمًا روسيًا وأميركيًا حول خطة مستقبلية لإنشاء فيدراليات في البلاد. وبدا أنه ليس الأكراد وحدهم المستفيدين من خطة الفيدرالية السورية، بل سيستفيد العلويون أيضًا في مسعى روسي لحماية وجودهم.
ومع تعدّد السيناريوهات، يؤكد القيادي السوري المعارض جورج صبرة، عضو «الائتلاف الوطني» السوري، أن الحديث عن فيدرالية «غير واقعي»، مؤكدًا أن «الدخول إلى عصر الفيدرالية يشترط مشاركة الشعب السوري جميعه ولن يكون عبر فرض إرادة مكون من المكونات». وأردف صبرة في حديث لـ«الشرق الأوسط» أنه «لذلك لا يمكن التحدث عن مستقبل سوريا كدولة مركزية أو اتحادات قبل إعادتها إلى الشعب السوري، وإقصاء النظام الذي يحكمها منذ 50 سنة»، معتبرًا أن سوريا اليوم «مُختطَفة من النظام وحلفائه الذين يديرون كل الأمور، وخصوصًا إيران وموسكو».
ويرى صبرة أن ما يجري «ليس أكثر من أفكار تقسيمية لسوريا، وقد تتعدى الحدود السورية إلى المنطقة»، مستطردًا: «لكن تلك الأفكار تتضمن بعض الأحلام لبعض الجماعات، وبعض الأوهام بالنسبة لجماعات أخرى»، مشددًا على أن «تراخي المجتمع الدولي وعجز الأمم المتحدة وغياب دور جامعة الدول العربية، تعزّز بعض المخططات».

معضلة النفوذ السنّي
الواقع أن «السيناريوهات» المطروحة لا تظهر شراكة المعنيين بشكل مباشر في الأزمة السورية، أي واشنطن وموسكو، مع العرب السنّة، بل تظهر أكثر أن روسيا دخلت بمواجهة مع السنّة، عبر شراكتها مع العلويين، وذلك بهدف تأمين فرص النجاح لحماية وجودها في المياه الدافئة، إذ يصعب حماية نفوذها ضمن النسخة القديمة من سوريا، حيث تعيش أغلبية سنّية في ظل حكم متنازع عليه.
والواضح أن كل «السيناريوهات» الفيدرالية تفتقر إلى مشهد واضح لوجود السنّة ومناطق نفوذهم، وطرق تغذيتها بالموارد الحيوية، بالنظر إلى أن المنطقة الوسطى الممتدة من ريف محافظة حماه الغربي، وتمتد إلى الشرق باتجاه محافظة دير الزور، وتضم قسمًا من محافظتي الرقّة والحسكة وقسمًا من محافظة حمص، تفرض على السكان السنّة الحاجة لفيدراليات أخرى، كردية أو نظامية، للاتصال مع العالم، ولن يكونوا منفتحين جغرافيًا إلا على العراق.
في هذا الإطار، يقول صبرة إن السيناريوهات المطروحة عبارة عن «شبكة من الأعمال العدوانية على الشعب السوري وسوريا الوطن والشعب»، مشددًا على أن الشعب السوري «لم يقم من أجل تحقيق فيدرالية طوائف، بل قام ضد النظام لتحقيق ديمقراطية ضمن إطار سوريا الموحّدة».
ويشير صبرة إلى أن الشعب السوري «غير معجب بالديمقراطية القائمة في لبنان القائمة على نفوذ الطوائف، كما يحتجّ السوريون على النموذج العراقي الحالي»، معتبرًا أن التقسيم بوجهه الفيدرالي «هو شكل من أشكال استغلال الصراع مع النظام لفرض أجندات خاصة لن يكتب لها النجاح». ويضيف صبرة: «لا أعتقد أن الدروز والمسيحيين والسنّة والعلويين والأكراد والآشوريين ستتحقق لهم الديمقراطية في الدويلات الطائفية والكانتونات والفيدراليات الطائفية.. وأي جهد دولي يصب في هذا الاتجاه هو شكل من أشكال التآمر على سوريا».
صبرة ذكّر بأن روسيا والولايات المتحدة «تعلنان باستمرار تمسكهما بوحدة سوريا»، ويقول إن «ما يعيق الحل السياسي، هو الاختلال في التوازن العسكري على الأرض.. حيث سقط النظام في 2012 فدخل (حزب الله) لإنقاذه، ثم سقط في 2013 فدخل الحرس الثوري لإيراني لانتشاله، وبعدها سقط 2015 فجاء الروس لحمايته».
ويرى صبرة أن «ما يحول دون الحل السياسي هو تحويل معركة الشعب مع نظام ظالم إلى معركة إقليمية ودولية تشابكت فيها مصالح الدول». ويعرب عن اعتقاده بأن «الحل في سوريا، لم يعُد سوريًا، بل غدا حلاً إقليميًا ودوليًا»، وأن الحل في المستقبل «سيكون ضمن إطار الحل الشامل في المنطقة».

كلام عبثي
أيضًا، ثمة من يرى أنه وسط التجاذب حول الفيدراليات، يحمل الفشل في التوصل إلى حل سياسي مؤشرات على صعوبة التوصل إلى حل قريب في سوريا. ويشير الدكتور خطار أبو دياب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس الجنوب في فرنسا، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، إلى أن هناك نصوصًا حول الحل السياسي متمثلة بـ«وثيقة جنيف 1» وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة «وكانت آخر تلك الوثائق الوثيقة التي صدرت في مايو (أيار) الماضي، وتنص على أن يكون موعد الأول من أغسطس (آب) الحالي، بداية للحكم الانتقالي في سوريا، وانطلاق الرحلة نحو نهاية المأساة». لكن ذلك، بحسب ما يقول أبو دياب «لم يتحقق، واتضح العكس، نتيجة قراءات مختلفة وعدم الفهم المشترك للقرارات الدولية ولتلك الوثائق المتصل بتصوّر الحل السياسي.. كان هناك زخم روسي إيراني لحسم المعركة، وحصل هجوم مضاد في حلب أربك الحسابات».
ويرى الدكتور أبو دياب أن «كل الكلام الافتراضي عن التقسيم أو الحل السياسي، لا يزال افتراضيًا»، بالنظر إلى أن «هناك وضعًا على الأرض دفع برئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جون برينان للقول: «لا أعرف ما إذا كان يمكن أو لا يمكن عودة سوريا موحّدة مرة أخرى». ويلحظ أبو دياب أن «التصريح الأميركي لم يتحدث عن علويين ودروز ومسيحيين وسنة وشيعة.. بل عن مناطق سيطرة للأكراد وأخرى للجماعات المتطرّفة، وأخرى للنظام، بمعنى أن مناطق النظام تمتد، ربما من دمشق إلى اللاذقية مرورًا بحمص، وتترك مناطق جنوب سوريا معلقة». وبالتالي، يعتبر أن ذلك «يعني أن خططًا كهذه تعطي الأكراد فرصتهم، وتعطي النظام فرصة لتركيب نظام علماني أو يتشكل من الأقليات، بينما يترك الآخرون في الصحارى ربما».
بعدها يشدد أبو دياب على أن «كل الكلام عن تقسيم في هذا الوقت كلام عبثي»، ويحذّر من أن «الأشهر المقبلة ستكون صعبة.. وآخر المفاجآت تمثل بانطلاق القاذفات الاستراتيجية الروسية من قاعدة همدان في إيران». وهو يرى أن الجمود في تشكيل المشهد في سوريا «قد ينتظر الإدارة الأميركية الجديدة»، ويضيف: «ثمة تهاتف إقليمي ودولي على الوضع في سوريا، وهناك حرب شبه عالمية بعد إعلان الصين عن نيتها تقديم المعونات الإنسانية للنظام، فضلاً عن أن هناك تطرفًا في سوريا.. كل هذا يعني أن الحديث عن ثوابت في سوريا كلام غير واقعي في هذه الظروف». وإذ يؤكد أبو دياب أن «لب الصراع في سوريا سيغير وجه الإقليم»، يرى أن ذلك «يمثل مخاضًا صعبًا، لكنه لن يُنجز في الفترة القريبة المقبلة».

تباين روسي - أميركي
ويبدو موضوع الحل السياسي والتوصل إلى تفاهمات، مرتبطًا بالتفاهمات الأميركية والروسية، علمًا بأن الطرفين يختلفان على قضايا حيوية، أهمها التمسك بالأسد واتهامات واشنطن لموسكو بدعمه، علمًا بأن أحد المسؤولين الأميركيين البارزين كان أكد أنه لا يمكن حل الأزمة في البلاد «ما دام في السلطة»، معولاً على تأثير موسكو بضرورة تحقيق الانتقال السياسي.
إزاء هذا الملف، يرى الدكتور أبو دياب أن «هناك دومًا حدودًا دنيا من التفاهمات، لكن ليس هناك التفاهم الكامل الذي لو وُجد، لكان إيجاد الحل أسهل مما عليه الأمر الآن»، لافتًا إلى أن التفاهمات الدنيا بين الطرفين محصورة بإبقاء خطوط التواصل بين الطرفين قائمة، ومنع تغلّب طرف على آخر في هذا الوقت». لكن التفاهم الكامل، بحسب أبو دياب، «ليس موجودًا بعد، والأتراك لم يسلّموا بعد ببقاء الأسد في مرحلة انتقالية، خلافًا للتوجهات الروسية والإيرانية، وهو ما يعني حكمًا أننا لسنا على مسافة قريبة من حلٍّ واقعي في سوريا»، لافتًا إلى أن هناك «تصورًا روسيًا، لكن ليس واضحًا ما إذا كانت موسكو ستنجح بفرضه».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.