* شهدت العاصمة المصرية بدءًا من الرابع والعشرين من هذا الشهر عرض فيلم «زي عود الكبريت» الذي توزعه شركة «ماد سوليوشن» وذلك في صالة سينما باتت الآن مقصدًا للباحثين عن الأعمال الفنية التي لا تقبل عليها صالات السينما الأخرى، وهي صالة «زاوية».
«زي عود الكبريت» هو الفيلم الأول والأخير لحسين الإمام مخرجًا. ابن حسن الإمام كان غادر الدنيا قبل نحو عامين مباشرة بعد انتهائه من تحقيق هذا الفيلم الذي يستوحي عنوانه من عبارة قالها الممثل يوسف وهبي ذات مرّة: «شرف البنت زي عود الكبريت، ما يولعش إلا مرّة واحدة».
العبارة تحوّلت إلى مثل يُطلق للتندر والتفكه من حين لآخر، لكن الحقبة التاريخية التي قيلت فيها هذه العبارة في أحد أفلام الأبيض والأسود في الأربعينات والخمسينات كانت حقبة الأفلام المصرية ذات المفادات الأخلاقية والاجتماعية الطاغية. مفادات مثل «العين لا تعلو عن الحاجب» وذلك لتأكيد دور التواضع، أو مثل ضرورة تفضيل الشرف على الثراء حتى ولو فقد المرء فرصة الحصول على وضع يرفع من مستواه المادي.
كذلك مثل تلك النهايات السعيدة حيث يقهر الحب كل العراقيل والاختلافات الطبقية إذا ما وقعت وتختتم الأفلام حكاياتها إما بأغنية أو بضحكات الفرحين بلقاء الحبيبين والزواج السعيد.
* بنات الليل
«زي عود الكبريت» عنوان لافت لفيلم كوميدي يعود بمشاهديه إلى سحر سينما الأبيض والأسود ويؤدي فيه حسين الإمام دور سجين سابق وصاحب ناد ليلٍ بعد خروجه يغار على الفتيات اللواتي يعملن لديه. في الوقت ذاته يستغل النادي كسِتار لتوزيع الحشيشة عازمًا على معرفة هويّة رئيس العصابة الذي يعمل لديه.
هذا كلّه يتوزّع بين مشاهد مأخوذة من بضعة أفلام بينها بعض ما أخرجه والده حسن الإمام. المزج بين التصوير الحي (بالأبيض والأسود) وبين المشاهد المأخوذة من الأفلام (أبيض وأسود أيضًا) ناجح في ترسيخ الفكرة المأمولة: إنجاز فيلم تتداخل فيه الأحداث الحقيقية ضمن القصّة الملخّصة أعلاه، باللقطات والمشاهد التي تم الاستعانة بها على أساس أن تتحوّل إلى ما يشبه الحوار بين الزمنين.
لكن الفيلم لا يفضي إلى مكان أعلى من ذلك الذي انطلق منه. بعض النكات المأمولة لا تعمل جيّدًا، وحسين الإمام الذي يُعامل الأفلام المستعان بها (جلها من إخراج أبيه) باحترام لا يفضي إلى وجهة فنية مناسبة. حقيقة أن بعض الأفلام المستعان بها (مثل «لعبة الستات» و«المليونير») لم تكن كلاسيكيات فعلية يحد نجاح الغاية. رغم ذلك فإن الفيلم ذاته يعبّر عن فكرة رائعة كان يمكن استغلالها على نحو أفضل بمزيد من البذل.
فبعد تلك المضامين الأخلاقية التي برزت في أفلام الأبيض والأسود المصرية الأولى، عمد عدد من المخرجين، وفي مقدّمتهم حسن الإمام ذاته، إلى إبراز معادلة أن المرأة الفاضلة قد تكون فتاة الملهى أو الراقصة وكيف أن وضعها الاجتماعي هو نتيجة حتمية لما لم تتسبب هي فيه بل كانت ضحية له.
في فيلمه «بنات الليل» (1955) نجد نموذجًا سيتكرر دائمًا في هذا المجال: هند رستم جار عليها الزمن. عملت راقصة. أحبت رجلاً من طبقة أعلى (كمال الشناوي). استدرك نفسه بعدما صَدّق مغرضين. عاد إليها لكنها ماتت بين يديه.
هذه الصورة المتكررة سطت على الكثير من أفلامه، والحق يجب أن يُقال إنه سبق سواه بتقديم أفلام تدافع عن المرأة مثل «لن أبكي أبدًا» و«الخرساء» و«حياتي هي الثمن» و«شفيقة القبطية» و«الحلوة عزيزة» و«دلال المصرية» و«لست مستهترة»، التي في فورة الرغبة في تقديم توليفات ميلودرامية تجمع بين الكوميديا والمأساة مع أغانٍ ورقصات أشادت ببطلاتها وشخصياتها أيما إشادة.
هذا لا يمنع أن البعد الفني لأفلام الإمام الأب محصور بتشكيلته التنفيذية لمثل هذه المواضيع. الأمر الذي سنلحظه مع استعانة ابنه حسين في «زي عود الكبريت» بعدد من الأفلام التي حققها أبوه وأخرى لمخرجين آخرين للربط بين حكاية يقودها هو (وسحر رامي وزكريا عامر من بين آخرين) وتلك المشاهد التي تم الاستعانة بها لتضع ممثلي الحاضر وجهًا لوجه مع ممثلي الأمس، أمثال عماد حمدي وماجدة الخطيب وفريد شوقي وهند رستم وفاتن حمامة ومحمود المليجي من بين نحو عشرين ممثلاً وممثلة يتم استخراجهم بمشاهدهم غير المنسية في أفلام الأمس ومزجهم ضمن التوليفة الحكائية التي كتبها حسين الإمام، على حدودها الإنتاجية، إلا أن الفكرة طموحة للغاية، ولو أن ذلك الإنتاج المحدود يلقي بصبغته وشروطه على قدرة الفيلم الوصول بطموحاته إلى سقف أعلى.
«زي عود الكبريت»: العودة إلى سحر الأبيض والأسود
«زي عود الكبريت»: العودة إلى سحر الأبيض والأسود
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة