تجربة السير أنتوني هوبكنز بلسانه: «لعبت دور البطولة وتوقعت كارثة»

الممثل البريطاني الأميركي لا يزال يتألق على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في الثامنة والسبعين من عمره

مع إيان مكيلين في «اللبيس»
مع إيان مكيلين في «اللبيس»
TT

تجربة السير أنتوني هوبكنز بلسانه: «لعبت دور البطولة وتوقعت كارثة»

مع إيان مكيلين في «اللبيس»
مع إيان مكيلين في «اللبيس»

في سن الثامنة والسبعين لا يزال أنطوني هوبكنز يجد كثيرًا من الأدوار لكي يلعبها. طبعًا ليس في مستقبله أدوار كالتي أطلقته كأحد أكثر نجوم السينما قدرة على التخويف، كما فعل في «هانيبال»، ولا في الأفق فيلم يقود بطولته الأولى كما فعل في «نيكسون» و«الحافة» و«التنين الأحمر» و«الرجل الذئب» قبل خمس سنوات، لكنه ما زال مطلوبًا بكثرة.
هو على الشاشتين الكبيرة والصغيرة. نجده في «سوء تصرف» مع آل باتشينو وجوليا ستايلز وجوش دوهامل، وهو فيلم تشويق يدور في عالم المحاماة والقضاء وسنشاهده مرّة أخرى في واحد من تلك أفلام «السوبر هيرو» حيث يؤدي دورًا مساندًا في «ثُور: راغناروك»، وما إن ينتهي من تمثيل هذا الفيلم بعد شهرين حتى يلتحق بفيلم جديد لجانب هاريسون فورد عنوانه «أسرار رسمية».
وعلى الشاشة الصغيرة شوهد أخيرا في دور رئيسي في مسلسل قصير عنوانه «اللبيس» (The Dresser) وانتهى من تصوير ثلاث حلقات جديدة من مسلسل طويل الأمد بعنوان «وستوورلد» لاعبًا فيه دور العالم الذي يصمم مستقبلاً آليًا للإنسان تنقلب نتائجه ضد الإنسان نفسه.
ومُنِح هوبكنز وسام الفروسية ولقب بـ«السير» من قبل الملكة إليزابيث الثانية عام 1993 لعطائه الفني.
** الوعي واللاوعي
لكن توسيع أنطوني هوبكنز لرقعة أدواره لتشمل أعمالاً تلفزيونية أمر جديد ولو أنه سبق له أن ظهر ممثلاً تلفزيونيًا في الثمانينات ثم في بعض السنوات الأولى من هذا القرن. والسؤال الأول يدور حول هذه النقطة بالتحديد؛ كونها لافتة وبداية جيدة لبدء حوار مع ممثل قابله هذا الناقد عدة مرّات من قبل:
* لماذا هذه العودة إلى التلفزيون ولماذا «وستوورلد» بالذات؟
- أحدهم سألني إذا كنت أمانع في التمثيل للتلفزيون ووجدت نفسي أقول: نعم. لمَ لا؟ هذه ليست المرّة الأولى ولو أن ما مثلته في السينما أخذ مني سنوات أطول وأعتقد أنه وصل إلى جمهور واسع ومختلف تمامًا. لماذا «وستوورلد» تحديدًا لأني معجب بتمثيل برايان كرانستون في مسلسل «بريكينغ باد».
* هل أنت مداوم على مشاهدة التلفزيون؟
- لا. ساعاتي أمامه دائمًا محدودة ومعلوماتي عما يعرضه لا يمكن الثقة بها. أفضّل المطالعة. أحب قراءة الكتب وأعيش بفضل القراءة عالمًا مختلفًا وهادئًا جدًا.
* كيف كنتَ متأكدًا من مستوى هذا العمل وهو كان لا يزال مشروعًا حين وافقت عليه؟
- من خلال الأسماء التي التحقت به. كما ذكرت فإن وجود برايان كرانستون عامل أساسي في قبولي الاشتراك. رغم ذلك تريثت وطلبت أن يكون العقد المبرم من الإنتاج محصورًا في الحلقة الأولى (بايلوت) لكن بعد ذلك عُرض علي أن أوقع للعمل على باقي الحلقات ووافقت.
* قلت لي ذات مرّة إنك لا تحب أن ترتبط بعقود طويلة.
- صحيح. هذا المسلسل «وستوورلد» تطلّب عامين من العمل. هذه أقصى مدة قضيتها في عمل واحد على ما أظن، لكني كنت سعيدًا به رغم أني اعتبرت أن دوري ينص على فترات من الملل.
* كيف؟
- دوري ينص على أن أتحدث كثيرًا عن الوعي وعدم الوعي. اعتقدت أن هذا الحديث طويل وممل، لكنهم أخبروني أنه لم يكن كذلك، وأنه كان مثيرًا للمشاهدين. سعدت بذلك. لكني أحب الحرية في العمل، ولا أستطيع الارتباط لفترات طويلة. من هنا سوف أتجه إلى أستراليا لكي أمثل دوري في «ثور 3» وبعد ذلك إلى بريطانيا، لكي أمثل دوري في «ترانسفورمرز» جديد.
** الرهبة من الجمهور
«وستوورلد» مبني على فيلم بالعنوان نفسه ظهر في عام 1973 اقتباسًا عن رواية مايكل كريتون الذي قام بإخراج الفيلم أيضًا، وهو يصوّر عالمًا مستقبليًا يستطيع فيه الإنسان تحقيق أمانيه الدفينة بالظهور في أي زمن يريد، كأن يعود إلى الزمن الروماني أو إلى حقبة رعاة البقر ليجد أنه في عالم مشاد بقوانين تلك الفترة بما في ذلك روبوتس من مهامهم الانكفاء أمامه عند المواجهة، لكن هذا الوضع يتغيّر فجأة عندما يرفض الروبوتس البرنامج، ويعمدون إلى قتل المشاركين البشر على حين غرّة.
في ذلك الحين كان أنطوني هوبكنز مشغولاً بأدواره التاريخية الأولى إذ قام سنة 1968، وفي ثاني أفلامه السينمائية، بالظهور أمام بيتر أوتول في «الأسد في الشتاء» وفي عام 1973 تحديدًا شوهد في «ونستون الشاب» لتتمدد رقعته بعد ذلك ما يقارب 80 فيلمًا منجزًا حتى الآن.
* كيف تنظر إلى تاريخك الشخصي سير أنثوني؟
- لكي أكون صريحًا معك جزء مني لا يكاد يصدق أني أمضيت كل هذه السنوات وبنجاح إذا ما كان لي حق تقييمه هكذا. لقد بدأت على المسرح ثم وقفت أمام الكاميرا وتعلمت كثيرًا من أخطائي وحاولت دائمًا أن أكون أفضل من المرة السابقة. أنت لا تحسب عندما تكون في بداية مشوار أي مهنة سوى أنك تريد أن تصبح جيدًا جدًا فيها، لكنك لا تعرف الظروف التي قد تؤهلك لذلك أو قد تقف حائلاً ضد ذلك. أظن أنني كنت محظوظًا جدًا وفي الوقت نفسه لا أعتقد أن المسألة مسألة حظ فقط، ولا مسألة حظ بالدرجة الأولى، بل هو سعي لإتمام كل دور على أفضل وجه، ثم تجاوز ذلك الحد بعمل أفضل.
* «اللبيس» هو إعادة صنع لفيلم بالعنوان نفسه. هل شاهدت ذلك الفيلم؟
- شاهدته وشاهدت المسرحية التي مثلها في لندن توم كورتني وفريدي جونز. الفيلم مثله ألبرت فيني وتوم كورتني وقرأت المسرحية منشورة. بالنسبة لي كان تمثيل هذا الدور مع إيان مكيلين في الفيلم الجديد نوعًا من النوستالجيا لفترة من التاريخ كنت لا أزال فيها شابًا صغيرًا. كل الممثلين الذين ذكرت كانوا من جيل سابق لي.
* هل واكبتك الرهبة من الجمهور المسرحي أو من الكاميرا؟
- ليس من الكاميرا، بل من الجمهور المسرحي بالتأكيد. كنت ما زلت ممثلاً شابًا عندما وجدت نفسي مع لورنس أوليفييه في مسرحية واحدة اسمها «منزل الموت». كنت مبتدئًا تمامًا وطلب مني أن أدرسه في الوقت الذي كنت سألعب فيه دورًا محدودًا. وكنا لا نزال في مرحلة التمارين عندما اضطر أوليفييه لدخول المستشفى على حين غرّة وقبل الافتتاح بأسابيع قليلة. أعتقد أنه بناء على ترشيحه لي تم الطلب مني أن ألعب الدور الرئيسي الذي كان سيؤديه هو. حاولت التملص بادئ الأمر، لكني لم أنجح، وأذكر أنني في التمارين بدأت الدور بإلقاء الحوار على نحو سريع لأني كنت مضطربًا. هذا قبل أن يطلب مني المخرج التباطؤ.
* كيف كان يوم الافتتاح إذن؟
- توقعت كارثة. كنت قلقًا ومتوترًا لكني كنت تجاوزت سرعة الإلقاء ولم تعد هذه مشكلة. رغم ذلك نظرت إلى الجمهور الذي كان ينظر إلى وكلي رغبة في أن أقول لهم: «لمَ لا تذهبون إلى منازلكم؟ ماذا تفعلون هنا؟» (يضحك). لورنس كان خرج مرتديًا رداء المستشفى وبصحبة طبيبه، ووقف خلف الصف الأخير يراقبني، وهنأني على ما قمت به.
* لا يمكن أن توجد لحظات كهذه في السينما؟
- لا. ليس تمامًا. طبعًا بعض الممثلين يخفقون في تجاربهم الأولى. حدث هذا كثيرًا من قبل ولا يزال يحدث، لكن المخرج لديه طرق كثيرة لتمويه ذلك إذا كان لا بد له من الاستعانة بذلك الممثل.
** شروط الممثل الجيد
قبل عامين قام أنطوني هوبكنز إلى ضواحي مدينة مونتريال الكندية لتصوير فيلم «رد 2» (Red 2) حيث لعب دور أحد أعضاء فريق من منفذي المهام الجاسوسية القدامى الذين لا يزالون يقومون ببعض المهام التي لا يجيدها سواهم. المكان الذي تم التصوير فيه كان مبنى قديمًا والطقس كان باردًا. بعد أيام لحقت به زوجته وشعرت ببرد شديد، واستنكرت مكان التصوير، لكنه قال لها إنه يشعر بالسعادة فيه. وعندما طلبت منه تفسيرًا لذلك قال إن سعادته تأتي من خلال أنه ما زال يمارس المهنة التي يحب.
* هل سألتك زوجتك إذا ما كنت تفكر بالاعتزال؟
- نعم سألتني وقلت لها سأستمر في التمثيل إلى أن لا يستطيع جسدي تحمل عناء العمل. أمارس العمل دائمًا لأني أحبه. التمثيل هو شغفي. أعمل وأعمل وأعمل.. وهذا كل ما أقوم به.
* سألتك ذات مرّة متى يعرف المشاهد أن الممثل الذي يراه على الشاشة وصل إلى قمّة أدائه. إنها مسألة محيّرة إلى حد.
- لكن لا بد أنك تعلم أنه ممثل جيّد أو رديء. راقبه وهو سيكشف عن نفسه. معظم الممثلين الشبان اليوم ليس أمامهم سوى العمل في «أفلام المسلسلات»، وهي لا تمنحهم أي دراما أو شخصيات مكتوبة بعمق ما يجعل سؤالك جائزًا. لا أعتقد أن كثيرًا مما هو منتشر هذه الأيام يمنح المشاهد الرغبة في التمييز على كل حال، رغم أن كثيرًا من الممثلين الشبان جيدون، وبعضهم يستطيع الانتقال إلى أدوار تتطلب إبراز مواهبهم بنجاح.
* ما الذي يصنع ممثلاً ممتازًا إذن؟
- ماذا يصنعه في رأيك؟
* في حدود معرفتي التجارب المبكرة في الحياة مثل الوحدة أو الشعور باللاانتماء.
- صحيح. وسأخبرك قصّة تؤكد ذلك. آمل أني لم أخبرك إياها من قبل. لم أكن ولدًا نجيبًا في المدرسة. كنت فاشلاً، وجدتي قارنتني وأنا في ذلك العمر المبتدئ بابن عمي الذي كان ناجحًا في دراسته، فقالت عني: «يملك أنطوني رأسًا كبيرًا لكنه فارغ». أعتقد أني كنت أعلم ذلك حينها لكني لم أمتلك أي دافع ولم أعرف كيف يمكن لي أن أتغيّر. ذات يوم توجهت إلى بيت (الممثل الراحل) رتشارد بيرتون لأطلب منه توقيع أوتوغراف. طرقت الباب ففتحت لي شقيقته وسألتني إذا ما كنت ابن الفرّان. قلت لها: نعم. قالت: تعال ورائي. قادتني إلى حيث كان رتشارد يحلق ذقنه وأخبرته أن ابن الفران يريد توقيعًا. لكن رتشارد جعلني أشعر بأني أتطفل. وقال لي كيف يمكن أن تكون «ولشيًا» (شخص من مقاطعة ولش البريطانية) إذا لم تكن تتكلم اللغة الأم؟ وكيف يمكن أن تكون «ولشيًا» إذا لم تكن مهتمًا بكرة القدم؟ تركت المنزل ثائرًا على نفسي، ومع أنه ركب سيارته ولحق بي ووقع الأوتوغراف، فإن هذا كشف لي عن أني أحتاج إلى التغيير التام. أحتاج إلى أن أجيد شيئًا أنجح فيه. لذلك كلامك صحيح. الشعور بالوحدة وعدم الرضا وعدم الانتماء قد تقودك للتغيير وهذا يجب أن يتم على نحو إيجابي.
* هل الشعور بالذاتية مهم لدى الممثل؟
- يجب أن لا يخاف المرء من أن يشعر بالذاتية. هذا شعور جيد طالما يستطيع المرء السيطرة عليه. إذا لم يشعر بالذات لن يكون إنسانًا طبيعيًا. طبعًا في هوليوود الأمور قد تفلت بينما المطلوب أن تتوازن. كثيرون في هذه المدينة، سواء أكانوا ممثلين أو لا، يتركون الشعور بالذاتية يرتفع إلى النرجسية. لكن يجب التوازن ولا ينفع أن يمحو الواحد ذاته حتى يبدو متواضعًا. عليك أن تثق بنفسك.
* كيف تشعر وأنت في هذه السن المتقدمة؟
- أشعر بأنها سن رائعة إذا ما كنت قوي البدن وفي صحة جيدة، وأنا بالفعل كذلك. إنها السن التي تدرك فيها أنك كوّنت من التجارب التي مررت بها حكمة تسعدك وترضيك.
* هل تتابع السياسة؟
- أتابع الأخبار وأتابع الانتخابات الأميركية لكن بحدود ضئيلة. لا أشعر بأني أعرف كثيرًا في هذه الشؤون وربما لا أريد أن أعرف كثيرًا. حين أجد الفرصة لمتابعة المعلقين السياسيين أجدهم لا يتحدثون إلى المشاهد بل يصرخون بآرائهم طوال الوقت، وكل يؤكد أنه يعرف أكثر من الآخر. أنا لست مهتمًا. أفضل ما قاله سقراط: «كن حكيمًا ولا تتكلم».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)