فلاديمير هولان وتوقيت الفجيعة في براغ

في براغ لا بد من فلاديمير هولان، فهو الأجدر أن يحدثك عن الإنسان قبل المكان في هذه المدينة المكتظة.. يعرف ماذا يعنيه أن يحتل الروس بلدك بتحريض وتطبيل وتزمير وفخر من بعض أهل بلدك.
ولد فلاديمير وعاش طفولته خارج براغ، عاد إليها ليدرس ويبقى ويموت منفيا أعزل. تُوّج سنة 1968 كمصدر لروح الشباب الذي سيعمل على تفتح ربيع براغ قبل أن تأتي دبابات تي 52 الروسية وتسحق الورد في بتلاته الأولى. ترشح لنوبل للأدب، وشبه بملارميه التشيك. تعرض للملاحقة والحصار، وبقي يجوب شوارع براغ بروحه ملقيا بها تلك المفخخات المرعبة لسلطات القمع. قصائده المليئة بالألم مصوبة باتجاه مكامن الفجيعة، بدقة الشاعر المفجوع بمصيره ومصير الإنسان الذي يحيا معه.
كان علي البحث عن صور «جوزيف كوديلكا» الفوتوغرافي الأشهر في عموم التشيك الذي اشتهر بصوره عن قمع ربيع براغ، تعرفت على صوره من خلال معرضه عن جدار الفصل في فلسطين المحتلة. أما بالنسبة إلى عمله الأخير وهو بعنوان «الجدار» فإنه يضم صورًا بانورامية التقطها على طول الجدار الفاصل بين إسرائيل وفلسطين. وكلما همهمت بالتقاط صورة من كاميرتي، تذكرت قوله عن مهنته: «المصور يجب أن يكوّن رأيًا عن الأشياء والعالم والتفاعل مع هذا العالم».
مهما كانت الصورة التي تلتقطها فهي رأيك لجزء من أربعة وعشرين جزءا من الثانية في كادر ما بهذا العالم فلا تستهن بها.
عندما تصل إلى ساحة أستروماك، ستكون غارقا بالتفاصيل. تقف وسط الساحة لترى خط الطول الوهمي الذي يقال إنه يفصل أوروبا الغربية عن الشرقية. أنت في القلب تماما، قلب أوروبا، وقلب المدينة التي بدت هذه الأيام مطمئنة القلب.
أدور عدة دورات بهدوء، لأجد امرأة مشردة تبيع مجلات قديمة، وقد غطت في نوم هادئ. إذن أنا أمام أول قصائد هولان مجسدة.
في ديوان هولان المترجم إلى العربية عبر سعدي يوسف عن دار الجمل وجدت هذه القصيدة كأنها تحاكي هذه العجوز الممددة أمامي نومها الطفولي بشارع جانبي يؤدي إلى واحدة من أجمل ساحات العالم.
على الرصيف
امرأة عجوز
تعرج إلى هنا كل يوم
لتبيع الجرائد
وحين تتعب
تتكوّم على حزمة جرائدها
وتنام
المارَّة ألفوها
حتى لم يعودوا يرونها
أما هي الغامضة الصامتة مثل عرّافة
فإنها تخفي ما كان عليها أن تقدّمه
هذه العجوز كانت صبية في ربيع براغ، تغيرت المدينة من الشيوعية الخانقة إلى الرأسمالية الحانقة وبقي المشهد واحدا.
لماذا لا يكبر العجائز؟ تساءلتُ وتابعت الطريق باتجاه ساعة براغ. في الزاوية الجنوبية من مبنى البلدية العريق، بينما كان بضعة موسيقيين في الشارع، يبللونها بنفحات من موسيقى موتسارت.
تخطو بجوار عربات تجرها أحصنة، واكتظاظ مدهش بالحياة والسائحين بدأ يلحظ وجودهم في صبيحة يوم السبت، سائحون من كل الأشكال، ويطالعك همس متكرر وتذمر معاد من الزائرين.
إنهم خرفان يتعرضون للابتزاز، وهذا شعور حقيقي هنا، ولكن شخصيا أشعر أنه برفقة الشعراء، تصبح المدينة أقل قسوة، تفتح لك أبوابها الجانبية، تعطيك بعضا من كنوزها الثمينة التي لا يراها السائح.
* ساعة براغ: توقيت العدم
الزمن ثبت وشاخ، عند هولان، فهو دون أدنى شك بعرف ساعة براغ كان توقيت العدم، وهو سيد تلك الحقبة البائدة، كانت يومها ساعة براغ ساعة حزينة مدانة، لم يوقف عملها الشيوعيون، ولكن احتلوا فقط الزمن المحيط بها، فأصبح كل توقيت يضبط على ساعات موسكو، كان يكفي التفكير بها حتى يتحول الزمن إلى كتلة عمياء تصيب الإنسان بالرعب.
يكتب قصيدته - أكثر - بالقلة اللازمة للكثافة.
أكثر شبابا لننسى الاحتضار
لحظات الوداع
أكثر إنسانية لنعرف
أن لا شيء يستحيل على الحكمة
المتوسلة تحولها
أكثر هروبا لنجهل
أن الأوهام هي أيضا تغار
إلى أن ندمرها بانشراح.
هي واحدة من أكثر الساعات غموضا وشهرة، يتحلق تحتها السائحون ويكتظ المكان بالناس على رأس كل ساعة، ليشاهدوا العرض المذهل لأقدم ساعة ما تزال عاملة حتى اليوم في العالم.
تتألف الساعة من 350 قطعة تتوزع على ثلاثة أجزاء رئيسية. الأول الساعة الفلكيّة، يمكن عبرها قراءة الأوقات والدورات الفلكية، وموقع الشمس والأبراج، وموقع القمر فوق أو تحت الأفق ومكانه بالنسبة للشمس.
الجزء الثاني: يتضمن روزنامة على شكل دائرة قام بتركيبها الرسام جوزيف مانيس في القرن التاسع عشر.
الجزء الثالث: في الأعلى نافذتان صغيرتان تأويان تماثيل خشبية صغيرة لرسل المسيح تتحرك بشكل دائري على رأس كل ساعة، حيث يطل الحواريون منها ليباركوا المدينة ملقين نظرة خاطفة بالتسلسل على الناس. يترافق مع قرع للأجراس وحركات تؤديها تماثيل لهياكل عظمية صغيرة، تذكر أن الموت حارس الزمن الأوحد. وعند الانتهاء من التنبيه إلى الوقت، يخفق ديكٌ بجناحيه معلنًا اكتمال الساعة كما كان يحدث قبل عدة قرون.
الساعة الروزنامية تظهر أربعة مؤشرات للوقت.
الأول: لقياس الوقت بوسط أوروبا، يبينه المؤشر الشمسي والأرقام الرومانية على إطار الساعة.
الثاني: لقياس الوقت التشيكي قديما، حيث تحسب بداية اليوم من لحظة غروب الشمس، تبينه الأرقام الذهبية القوطية الموجودة على حلقة تتحرك بانفراد خارج الإطار.
الثالث: لقياس الوقت البابلي، يحسب اليوم به من شروق الشمس إلى غروبها، فأيامه بالصيف أطول من أيام الشتاء. وهذه الساعة هي الوحيدة من نوعها في العالم القادرة على قياسه.
الرابع: القياس الفلكي للنجوم، يوجد بالطرف الأسفل، حيث يحدد اليوم وموقعه في الأسبوع، والشهر والسنة.
تشير المصادر التاريخية التشيكية إلى أن أول إشارة إلى هذه الساعة ظهرت في 14 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1410. ويتبين منها أن أحد الساعاتيين واسمه ميكولاش قام بهذا العمل الفني. وقد اعتمد في ذلك على حسابات أحد أفضل علماء الفلك والرياضيات البراغيين آنذاك وهو يان شيندل الذي كان طبيبا خاصا للملك فاتسلاف الرابع، وترأس جامعة كارلوفا واحدة من أقدم الجامعات في أوروبة.
وأنا أناظر الساعة من الأسفل سمعت صوتًا عربيًا، يتحدث عن الساعة، تلفت لأتعرف على طبيبٍ عراقي يقيم في براغ، يشرح لولديه آلية عملها. تشاركنا الحديث وأخبرني أن مكافأة الملك لمصمم الساعة كانت أن فقأ عينيه لكيلا يقوم بتصنيع ساعة أخرى لمدينة أخرى!!
هنا يكتمل حضور فلاديمير هولان مع سنمار في فضاء من الوحشة والغربة، ويكتمل حضور الزمن ما بعد الفجيعة.