العالم الإسلامي وفخ استعمال لفظة «أصولية» الغربية

بحث في الجذور التاريخية والخلفيات العقدية

العالم الإسلامي وفخ استعمال لفظة «أصولية» الغربية
TT

العالم الإسلامي وفخ استعمال لفظة «أصولية» الغربية

العالم الإسلامي وفخ استعمال لفظة «أصولية» الغربية

بين أهم القضايا التي انفجرت في نهايات القرن العشرين، بنوع خاص، تلك التي تتصل بـ«الأصوليات» الدينية، وما تولده من مواجهات عقائدية، لا تنفك تتحوّل إلى مجابهات تتخذ من العنف بأشكاله المتعددة، اللفظي والجسدي بشكل خاص، أدوات للتعبير عن مكنوناتها الداخلية، وتطلعاتها المستقبلية. ولعل الكارثة الحقيقية هي أن صراع المُطلقات أمرٌ واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة، ولا فكاك منه، ذلك أن المُطلقات لا تقبل التعدّدية، ولا تمضي في طريق المواءمات الذهنية أو التوافقات العقلانية. وتساير هذا القول نتائج الأبحاث التي أجريت على الصراع في مجتمعات متباينة، وهي أن الصراعات الاقتصادية تدور على الخيرات القابلة للقسمة. وهي لهذا صراعات قابلة للتفاوض ومن ثم من الميسور حلها، وعلى الضد من ذلك الخيرات التي لا تقبل التفاوض، وصراع المُطلقات من هذا القبيل.
«الأصولية» في اللغة كلمة مشتقة من الجذر الثلاثي «أ ص ل»، جمعه أصول، وأصل الشيء أساسه الذي يقوم عليه. وأصولي تعني أنه أمر جار حسب القواعد، وإجراء أصولي في الفقه الإسلامي، أي ما له علاقة بعلم أصول الفقه والمتخصصين في علم أصول الفقه، وأصولي اسم النسبة من أصول (أصول + ياء النسبية) ويقال رجل أصولي، أي ينتمي إلى الأصول.
وباختصار غير محل فإن «أصل الشيء» صورته الأولية وجوهره النقي عندما بُرئ أو ابتكر أو صنع أو استنبط أو أبدع. ويقال عقيدة أصولية، أي عقيدة تنتمي إلى أصول الدين كما وجد بصورته الأولية قبل أن تدخله عناصر فلسفية أو توافقية.
والأصل هو الجذر، ويقال فكر جذري أي راديكالي، يعود إلى الجذور ولعل علامة الاستفهام في هذا المقام: «ماذا نستنتج من هذه الدلالات اللغوية؟».
المؤكد أننا نرى أن لمصطلح «أصولي» في علم اللغة دلالات إيجابية جيدة، وليس دلالات سلبية سيئة كما هو مصور في الفكر الاجتماعي المعاصر ومنتشر في الأدبيات الدينية والاجتماعية والسياسية.
التاريخ الإسلامي ومصطلح «الأصولية»
المرجّح أنه لم يُصطلح اللفظ يومًا في تاريخ الإسلام، ولذلك فهو غير مستعمل في الأدبيات الإسلامية الكلاسيكية أو تلك التي تعود إلى ما قبل القرن العشرين. غير أننا نجد في كتب التراث الإسلامي القديمة لفظة «أصولي»، إذ ترد في ترجمة بعض العلماء فيقال: «كان أصوليًا مفسّرًا محدثًا فقهيًا متكلمًا»، وقد تأتي في سياق المسائل التي فيها خلاف كأن يقال: «قال الأصوليون، وقال المحدثون.. وهكذا».
لكننا نرى في الاستعمال الحديث لمصطلح «أصولي» أنه استخدم أولاً في الغرب، على خلفية «الأصولية المسيحية»، للتعريف بتيارات الصحوة الإسلامية والإصلاح الديني، ولبعض الحركات الإسلامية. وذلك بعدما ألصق «الإرهاب» بها عشوائيًا، فتشوه بذلك المُصطلَح وتحوّل عن معناه الإيجابي نحو دلالات سلبية.
الأصولية اليهودية
لا تختلف الأصولية اليهودية كثيرًا عن باقي الأصوليات الدينية، فهي تعتبر أن تعاليم التوراة والتلمود، بل وشروح فقهاء الشريعة، تنطوي على إجابات صائبة لكل قضايا العصر من وجهة نظرهم، أي أنها تعتبر أن حركة التاريخ قد توقفت عند لحظة معينة. ثم أن الأصوليات قد تنشأ بعيدًا عن جوهر الأديان.
على أن المفارقة الحقيقية في الأصولية اليهودية تنشأ من الرغبة المضادة لأصل التوجّه التوراتي الصحيح غير الزائف ناحية الحياة لا الموت. فالتقاليد اليهودية لا تعرف أبدًا تلك الرغبة في الموت التي يتشدّق بها بعض مَن يدعون أنهم أصوليون يفضلون كثيرًا الموت على الحياة. وفي قلب الرسالة التوراتية ترن كلمات الخالق في قلب كل مؤمن: «قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك».
ومع ذلك فحب الحياة هذا لا يستبعد لا التطرف ولا العقلية المتحجرة، وهما المصدران المغذيان لما يُعرّف عنه اليوم بـ«الأصولية». وباسم التوراة يطلق المتديّنون المتعصبون اليهود لعناتهم المليئة بالحقد، سواء أكانوا يقفون أعلى التل في مستوطنات الضفة الغربية - التي يسمونها يهوذا والسامرة -، أم على أرصفة شوارع بنيويورك. وباسم التوراة كذلك ينسحب المتطرفون بملابسهم المأخوذة عن البورجوازيين البولنديين من القرن الثامن عشر إلى داخل الأكاديميات التلمودية، ليحموا أنفسهم من التأثيرات الضارة للعالم المغاير ويعيشون في أحيائهم الخاصة، أو «الغيتوهات» (مفردها «غيتو») الذي يخلقونه لأنفسهم.
وتقع الأصولية اليهودية بين الأصولية الكاثوليكية ذات الوجه الكنسي والأصولية الإسلامية ذات الصبغة السياسية، ويقرر بعض الباحثين اليهود أن هناك منبعين لهذه الأصولية: المنبع القديم المرتبط بيهودية «الدياسبورا» أو الشتات، والمنبع الوطني الذي ظهر مع الحركة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل. وهاتان الأصوليتان تختلفان في طبيعتهما وفي مراجعهما. الأصوليون اليهود المتدينون على استعداد لفرض حلمهم المسيطر على الشعب اليهودي عن طريق صناديق الاقتراع أولاً. ولكن أيضًا للأكثر تشددًا منهم، عن طريق القوة، ذلك أنهم يعتبرون أوامر التوراة أهم بكثير من الديمقراطية أو من حقوق الإنسان، وهذه الاهتمامات الإنسانية لا تساوي شيئًا بالنسبة لهم أمام الخطط الإلهية.
الأصولية المسيحية
ومن اليهودية، حسب الترتيب التاريخي، نصل إلى «الأصولية» المسيحية، أي ممارسة إقصاء الآخر المختلف وحرمانه من ملكوت الله. والحقيقة أن «الحركة الأصولية المسيحية» قديمة قدم المسيحية ذاتها، وربما منذ عهد الخلافات المعروفة بـ«الخريستولوجية». أي الخلافات حول طبيعة السيد المسيح ابتداءً من القرن الرابع، مرورًا بالحروب الصليبية (حروب الفرنجة) ومحاكم التفتيش في القرون الوسطى. والثابت في كل الأحوال أن كل «حرم كنسي» صدر عن جهة مسيحية لهو ممارسة لنوع من الأصولية الدينية.
وعلى الرغم من أن للأصولية المسيحية جذورًا في الحركات البروتستانتية الإحيائية في عدة أمكنة، فإن الأصولية المسيحية، بمفهومها الاصطلاحي الحديث، نشأت في الولايات المتحدة الأميركية، بين جماعات وكنائس بروتستانتية إنجيلية ملتزمة بتعاليم الإنجيل «حرفيًا». وكذلك بالتنصير وضم الأتباع، كحركة إنجيلية مناوئة لتيار الحداثة الذي بدأ بغزو الكنيسة ابتداءً من نهاية القرن الثامن عشر.
والثابت أن أول ما برز تعبير «أصولية»، برز في الولايات المتحدة عام 1920 كلقب للحزب الذي أسسه كورتيس لي لوز Curtis Lee Laws (1868 - 1946) في قلب الكنيسة المعمدانية الشمالية. وسرعان ما أصبحت التسمية تطلق على حلف من البروتستانت الإنجيليين الذين حاربوا بقوة التيارات اللاهوتية العصرية والليبرالية، وبعض سمات علمنة الثقافة الحديثة، ولقد عرفت الكنائس المسيحية الأصولية آنذاك بثلاث سمات:
- كنائس تنتمي إلى حركات البروتستانتية الإنجيلية، أي تلك الحركة التي تتبنى التفسير الحرفي للإنجيل، وتلتزم بالتنصير، وتتبنى بالغالب «إسكاتولوجيا» الألفية الحرفية، وما يتبعها من فكر يتعلق بكيانات أرضية.
- كنائس مناوئة للحداثة، وهي تلتزم التمسك بالأصول الإيمانية التي اعتمدتها المسيحية التي تؤمن بالغيب وتسلم بإمكانية حدوث المعجزات في الوقت الحاضر.
- كنائس تلتزم مناوءة التيارات اللاهوتية العصرية وبعض سمات العلمنة.
للأصوليين المسيحيين مبادئ دينية كثيرة مشتركة مع المسيحيين كافة، لكننا نذكّر هنا فقط بالمبادئ التي يتميزون بها من دون إعطاء تقييم شخصي، ديني أو أخلاقي (صح أو خطأ) لهذه المبادئ. في مقدمة هذه المبادئ اعتماد القراءة الحرفية للإنجيل، واعتماد ما يعرف باللاهوت التدبيري، واستمرار سريان مفعول العهد القديم (التوراة) الذي يقسم الناس بين يهود وأغيار - أي أمم غير يهودية -، وكذلك هناك مبدأ تقسيم العالم إلى قسمين عالم الله، وعالم الشيطان، وبالتالي ينقسم المجتمع إلى قسمين مخلّصين وهالكين.
أما الكون الذي نعيش فيه فمصيره - بحسب فكر الأصوليين المسيحيين - هو الدمار والفناء، بينما الإشكالية الكبرى التي قادت العالم إلى الحروب والمواجهات المسلحة، وفق فكر الأصوليين المسيحيين، فتلك التي تتعلق بتبرير «الحرب المقدسة».
ولقد شاع استعمال مصطلح «الحرب المقدسة» في القرون الوسطى واستعمل لوصف الحروب التي تقرّرها الكنيسة: حروب الإمبراطورية المقدسة، والحروب الصليبية، وحروب استرجاع إسبانيا من العرب، والحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين «الطهرانيين» Puritans البروتستانت والأنغليكان. وبعض الأصوليين المسيحيين يعتبرون حرب البروتستانت ضد الكاثوليك في آيرلندا اليوم «حربًا مقدسة».
واليوم مع حروب العراق الأولى والثانية، وحرب أفغانستان صار هناك استنهاض لمفهوم «الحرب المقدسة» في التوراة وأدبيات القرون الوسطى، (خاصة مفهوم الحروب الصليبية). وهنا نحن لا نتكلم عن مفهوم الحروب الدفاعية العادلة التي على الأمم الالتزام بها دفاعًا عن حدودها وكرامتها، بل نتحدث عن المنظّرين المسيحيين الذين يعتقدون أن كل حرب على الشر والأشرار هي حرب على الشيطان، وهي بالتالي «حرب مقدسة». لكن العقدة تكمن هنا في تحديد ما هو الشر ومن هم الأشرار.
الأصولية الإسلامية الحديثة
يتعاطى من يسمون اليوم بـ«الأصوليين» الإسلاميين، على اختلاف مشاربهم، مع توترات الحداثة بطرق مختلفة عن بعضها البعض تمامًا، إلا أنهم في مطلق الأحوال يأخذون خبرات الشعوب ويؤولونها ويضعونها أمام أفق ديني، ويلجأون في ذلك إلى التراث الديني. ويبدو أمرًا متناقضًا - وخصوصًا من وجهة النظر الأوروبية - الدخول في الحداثة عن طريق التوجه الديني تبعًا لقناعات دينية من عهد ما قبل الحداثة.
بدايةً يمكن تأكيد اعتبار هذا الطريق رد فعل على حقيقة أن كل أشكال رأس المال اللازم للرقابة القومية - الشركات الاقتصادية وسلطة الدولة والتأثير السياسي والقانون - كله في يد الخصوم العلمانيين. إذا لا يبقى إلا تكوين قاعدة جماهيرية - أي رأس المال الاجتماعي - عن طريق الاعتماد على المعرفة المتوافرة لدى الحشود، ألا وهي المعرفة الدينية.
من هذا المنطلق يمكن القطع بأن المنطق العملي للدين هو الممارسة العملية. ويمكن أن نذكر من خلال نقطة واحدة ما يلي: عندما تتحطم وحدة العالم الإسلامي التاريخية - أو التي كانت على الأقل قائمة في الأذهان - إلى ألف قطعة بسبب القوى الاستعمارية أو الدول القومية وانتهاء الخلافة، عندما لا تعد هناك أمة... فما هو الأمر الأقرب عندها إلى النفوس من تذكّر وحدانية الله، أي عقيدة التوحيد؟ وبالتأكيد الذين سيتذكرون ذلك هم أشخاص ويجب أن تكون المحتويات الدينية التي سينشأ لديهم وعي بها مهمة بالنسبة لهم.
ثم إن إطلاق مسمى «الأصوليين» على الكثير من الناس أصبح شائعًا في الكتابات السياسية والصحافية في السنوات الأخيرة. ومع نهاية عام 1980 كانت الصحف الأميركية، بالذات، تنشر الكثير عما نسميه بـ«المد الأصولي»، وتحذر الناس من الأصولية الدينية. ومنذ ذلك الحين غدا مصطلح «الأصولية» شائع الاستعمال في مختلف وسائل الإعلام من مكتوبة ومسموعة ومرئية، وفي الخطاب الديني والسياسي في أوروبا وأميركا.
في هذا السياق نشير إلى إشكالية مهمة وخطيرة في الوقت ذاته. ذلك أن الفكر العربي في أزمنة التكلس والتحجر بات فكرًا متلقيًا، إذ استورد الكُتاب العرب هذا المصطلح من الغرب، واستعملوه أولاً بخلفية «الأصولية المسيحية»، وبالتدقيق «الأصولية البروتستانتية». لقد استلهموه من دون إدراك منهم لأبعاده «المسيحانية السياسية». وفقط مؤخرًا وعى الكتاب العرب أن مصطلح «الأصولية» استعمل خطأ واستغل، لكن كان قد فات الأوان، وأصبح من الصعب التغيير بعد أن أصبح بمثابة «خطأ شائع».
العالم ومجابهة أصوليات
ما هي الخلاصة الأولية للحالة التي يوجد عليها العالم حتى الساعة؟
وهل من آليات للأديان تجابه من خلالها بفكرها السليم لحظات الغلو والتطرف التي باتت في واقع الحال تتجاوز الأديان التوحيدية الثلاثة، إلى الأديان أو المذاهب الوضعية الأخرى، لا سيما في شرق آسيا، حيث نحو نصف سكان العالم من البوذيين والتاويين والماويين والسيخ والهندوس، وما إلى ذلك؟
الواضح أن «الأصولية» في صعود، وكما تشير الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم. ويوجد أصوليون - بل قل متشددين ومتطرفين - في معظم الديانات، إن لم يكن كلها. ولقد أشارت المؤرخة الدينية كارين أرمسترونغ في حديث أدلت به أخيرًا في مجلس برلمان ديانات العالم إلى أن الأصولية «تظهر في شكل تمرد على المجتمع العلماني الحديث، لأنها تفهمه كتهديد لها، وأنها تضرب بجذورها في الخوف من تعرّضها للإبادة، ولقد أسهمت فيها النزعة التجارية بدافع الجشع والخوف من المجهول».
ما نخلص إليه من رؤية أرمسترونغ هو أن المعتقدات الضيقة الأفق التي تعبر عنها عقلية الأصولية الراديكالية تشجع على الإتيان بسلوكيات مدمرة. وهي «الحاضنات» التي ينشأ فيها التعصب والنعرات الطائفية. ولقد أدى هذا إلى تفجر الحروب واندلاع الإبادة العنصرية دون احترام لحسن أحوال الآخرين. وغالبًا ما يعمد «الأصوليون» المتشددون لاستخدام النصوص المقدسة لإضفاء الصدقية على طروحاتهم، ولتأكيد هويتهم. لكننا نجد في معظم الأوقات معتقدات محورية مثيلة وحكايات تكرّر في الكثير من الديانات. فمثلاً اليهود والمسيحيون والمسلمون كلهم يرجعون إرثهم إلى النبي إبراهيم (عليه السلام). وعلى الرغم من أن نسخ الحكايات تختلف عن بعضها بعض الشيء، فإننا نجد في جميعها أفكارًا واحدة يمكن تتبعها إلى الجيل التوراتي لإسحق وإسماعيل، في عام 1800 ما قبل الميلاد، وتسمح لنا قصتهما بإلقاء نظرة على أوجه التشابه بين الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام، كما تفسر لنا شعور أتباع كل ديانة منها بأن أتباع الديانتين الأخريين آخر بالنسبة لهم.
هل يتوقف الحديث عند هذه النقطة؟
لا بد من الجزء الثاني المُكمل الذي يتناول البحث عن التحديات التي تفرضها الأصوليات الدينية، وعلاقة العدالة العالمية بتصاعد أو اضمحلال الحركات الأصولية، عطفًا على أهم الآليات التي يمكن من خلالها للإنسانية تقليص فرص العنف الأصولي، والكثير من الأحاديث التي يتماس فيها العقل مع النقل.. فإلى حلقة ثانية متممة ومكملة، إن شاء الله.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».