العالم الإسلامي وفخ استعمال لفظة «أصولية» الغربية

بحث في الجذور التاريخية والخلفيات العقدية

العالم الإسلامي وفخ استعمال لفظة «أصولية» الغربية
TT

العالم الإسلامي وفخ استعمال لفظة «أصولية» الغربية

العالم الإسلامي وفخ استعمال لفظة «أصولية» الغربية

بين أهم القضايا التي انفجرت في نهايات القرن العشرين، بنوع خاص، تلك التي تتصل بـ«الأصوليات» الدينية، وما تولده من مواجهات عقائدية، لا تنفك تتحوّل إلى مجابهات تتخذ من العنف بأشكاله المتعددة، اللفظي والجسدي بشكل خاص، أدوات للتعبير عن مكنوناتها الداخلية، وتطلعاتها المستقبلية. ولعل الكارثة الحقيقية هي أن صراع المُطلقات أمرٌ واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة، ولا فكاك منه، ذلك أن المُطلقات لا تقبل التعدّدية، ولا تمضي في طريق المواءمات الذهنية أو التوافقات العقلانية. وتساير هذا القول نتائج الأبحاث التي أجريت على الصراع في مجتمعات متباينة، وهي أن الصراعات الاقتصادية تدور على الخيرات القابلة للقسمة. وهي لهذا صراعات قابلة للتفاوض ومن ثم من الميسور حلها، وعلى الضد من ذلك الخيرات التي لا تقبل التفاوض، وصراع المُطلقات من هذا القبيل.
«الأصولية» في اللغة كلمة مشتقة من الجذر الثلاثي «أ ص ل»، جمعه أصول، وأصل الشيء أساسه الذي يقوم عليه. وأصولي تعني أنه أمر جار حسب القواعد، وإجراء أصولي في الفقه الإسلامي، أي ما له علاقة بعلم أصول الفقه والمتخصصين في علم أصول الفقه، وأصولي اسم النسبة من أصول (أصول + ياء النسبية) ويقال رجل أصولي، أي ينتمي إلى الأصول.
وباختصار غير محل فإن «أصل الشيء» صورته الأولية وجوهره النقي عندما بُرئ أو ابتكر أو صنع أو استنبط أو أبدع. ويقال عقيدة أصولية، أي عقيدة تنتمي إلى أصول الدين كما وجد بصورته الأولية قبل أن تدخله عناصر فلسفية أو توافقية.
والأصل هو الجذر، ويقال فكر جذري أي راديكالي، يعود إلى الجذور ولعل علامة الاستفهام في هذا المقام: «ماذا نستنتج من هذه الدلالات اللغوية؟».
المؤكد أننا نرى أن لمصطلح «أصولي» في علم اللغة دلالات إيجابية جيدة، وليس دلالات سلبية سيئة كما هو مصور في الفكر الاجتماعي المعاصر ومنتشر في الأدبيات الدينية والاجتماعية والسياسية.
التاريخ الإسلامي ومصطلح «الأصولية»
المرجّح أنه لم يُصطلح اللفظ يومًا في تاريخ الإسلام، ولذلك فهو غير مستعمل في الأدبيات الإسلامية الكلاسيكية أو تلك التي تعود إلى ما قبل القرن العشرين. غير أننا نجد في كتب التراث الإسلامي القديمة لفظة «أصولي»، إذ ترد في ترجمة بعض العلماء فيقال: «كان أصوليًا مفسّرًا محدثًا فقهيًا متكلمًا»، وقد تأتي في سياق المسائل التي فيها خلاف كأن يقال: «قال الأصوليون، وقال المحدثون.. وهكذا».
لكننا نرى في الاستعمال الحديث لمصطلح «أصولي» أنه استخدم أولاً في الغرب، على خلفية «الأصولية المسيحية»، للتعريف بتيارات الصحوة الإسلامية والإصلاح الديني، ولبعض الحركات الإسلامية. وذلك بعدما ألصق «الإرهاب» بها عشوائيًا، فتشوه بذلك المُصطلَح وتحوّل عن معناه الإيجابي نحو دلالات سلبية.
الأصولية اليهودية
لا تختلف الأصولية اليهودية كثيرًا عن باقي الأصوليات الدينية، فهي تعتبر أن تعاليم التوراة والتلمود، بل وشروح فقهاء الشريعة، تنطوي على إجابات صائبة لكل قضايا العصر من وجهة نظرهم، أي أنها تعتبر أن حركة التاريخ قد توقفت عند لحظة معينة. ثم أن الأصوليات قد تنشأ بعيدًا عن جوهر الأديان.
على أن المفارقة الحقيقية في الأصولية اليهودية تنشأ من الرغبة المضادة لأصل التوجّه التوراتي الصحيح غير الزائف ناحية الحياة لا الموت. فالتقاليد اليهودية لا تعرف أبدًا تلك الرغبة في الموت التي يتشدّق بها بعض مَن يدعون أنهم أصوليون يفضلون كثيرًا الموت على الحياة. وفي قلب الرسالة التوراتية ترن كلمات الخالق في قلب كل مؤمن: «قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك».
ومع ذلك فحب الحياة هذا لا يستبعد لا التطرف ولا العقلية المتحجرة، وهما المصدران المغذيان لما يُعرّف عنه اليوم بـ«الأصولية». وباسم التوراة يطلق المتديّنون المتعصبون اليهود لعناتهم المليئة بالحقد، سواء أكانوا يقفون أعلى التل في مستوطنات الضفة الغربية - التي يسمونها يهوذا والسامرة -، أم على أرصفة شوارع بنيويورك. وباسم التوراة كذلك ينسحب المتطرفون بملابسهم المأخوذة عن البورجوازيين البولنديين من القرن الثامن عشر إلى داخل الأكاديميات التلمودية، ليحموا أنفسهم من التأثيرات الضارة للعالم المغاير ويعيشون في أحيائهم الخاصة، أو «الغيتوهات» (مفردها «غيتو») الذي يخلقونه لأنفسهم.
وتقع الأصولية اليهودية بين الأصولية الكاثوليكية ذات الوجه الكنسي والأصولية الإسلامية ذات الصبغة السياسية، ويقرر بعض الباحثين اليهود أن هناك منبعين لهذه الأصولية: المنبع القديم المرتبط بيهودية «الدياسبورا» أو الشتات، والمنبع الوطني الذي ظهر مع الحركة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل. وهاتان الأصوليتان تختلفان في طبيعتهما وفي مراجعهما. الأصوليون اليهود المتدينون على استعداد لفرض حلمهم المسيطر على الشعب اليهودي عن طريق صناديق الاقتراع أولاً. ولكن أيضًا للأكثر تشددًا منهم، عن طريق القوة، ذلك أنهم يعتبرون أوامر التوراة أهم بكثير من الديمقراطية أو من حقوق الإنسان، وهذه الاهتمامات الإنسانية لا تساوي شيئًا بالنسبة لهم أمام الخطط الإلهية.
الأصولية المسيحية
ومن اليهودية، حسب الترتيب التاريخي، نصل إلى «الأصولية» المسيحية، أي ممارسة إقصاء الآخر المختلف وحرمانه من ملكوت الله. والحقيقة أن «الحركة الأصولية المسيحية» قديمة قدم المسيحية ذاتها، وربما منذ عهد الخلافات المعروفة بـ«الخريستولوجية». أي الخلافات حول طبيعة السيد المسيح ابتداءً من القرن الرابع، مرورًا بالحروب الصليبية (حروب الفرنجة) ومحاكم التفتيش في القرون الوسطى. والثابت في كل الأحوال أن كل «حرم كنسي» صدر عن جهة مسيحية لهو ممارسة لنوع من الأصولية الدينية.
وعلى الرغم من أن للأصولية المسيحية جذورًا في الحركات البروتستانتية الإحيائية في عدة أمكنة، فإن الأصولية المسيحية، بمفهومها الاصطلاحي الحديث، نشأت في الولايات المتحدة الأميركية، بين جماعات وكنائس بروتستانتية إنجيلية ملتزمة بتعاليم الإنجيل «حرفيًا». وكذلك بالتنصير وضم الأتباع، كحركة إنجيلية مناوئة لتيار الحداثة الذي بدأ بغزو الكنيسة ابتداءً من نهاية القرن الثامن عشر.
والثابت أن أول ما برز تعبير «أصولية»، برز في الولايات المتحدة عام 1920 كلقب للحزب الذي أسسه كورتيس لي لوز Curtis Lee Laws (1868 - 1946) في قلب الكنيسة المعمدانية الشمالية. وسرعان ما أصبحت التسمية تطلق على حلف من البروتستانت الإنجيليين الذين حاربوا بقوة التيارات اللاهوتية العصرية والليبرالية، وبعض سمات علمنة الثقافة الحديثة، ولقد عرفت الكنائس المسيحية الأصولية آنذاك بثلاث سمات:
- كنائس تنتمي إلى حركات البروتستانتية الإنجيلية، أي تلك الحركة التي تتبنى التفسير الحرفي للإنجيل، وتلتزم بالتنصير، وتتبنى بالغالب «إسكاتولوجيا» الألفية الحرفية، وما يتبعها من فكر يتعلق بكيانات أرضية.
- كنائس مناوئة للحداثة، وهي تلتزم التمسك بالأصول الإيمانية التي اعتمدتها المسيحية التي تؤمن بالغيب وتسلم بإمكانية حدوث المعجزات في الوقت الحاضر.
- كنائس تلتزم مناوءة التيارات اللاهوتية العصرية وبعض سمات العلمنة.
للأصوليين المسيحيين مبادئ دينية كثيرة مشتركة مع المسيحيين كافة، لكننا نذكّر هنا فقط بالمبادئ التي يتميزون بها من دون إعطاء تقييم شخصي، ديني أو أخلاقي (صح أو خطأ) لهذه المبادئ. في مقدمة هذه المبادئ اعتماد القراءة الحرفية للإنجيل، واعتماد ما يعرف باللاهوت التدبيري، واستمرار سريان مفعول العهد القديم (التوراة) الذي يقسم الناس بين يهود وأغيار - أي أمم غير يهودية -، وكذلك هناك مبدأ تقسيم العالم إلى قسمين عالم الله، وعالم الشيطان، وبالتالي ينقسم المجتمع إلى قسمين مخلّصين وهالكين.
أما الكون الذي نعيش فيه فمصيره - بحسب فكر الأصوليين المسيحيين - هو الدمار والفناء، بينما الإشكالية الكبرى التي قادت العالم إلى الحروب والمواجهات المسلحة، وفق فكر الأصوليين المسيحيين، فتلك التي تتعلق بتبرير «الحرب المقدسة».
ولقد شاع استعمال مصطلح «الحرب المقدسة» في القرون الوسطى واستعمل لوصف الحروب التي تقرّرها الكنيسة: حروب الإمبراطورية المقدسة، والحروب الصليبية، وحروب استرجاع إسبانيا من العرب، والحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين «الطهرانيين» Puritans البروتستانت والأنغليكان. وبعض الأصوليين المسيحيين يعتبرون حرب البروتستانت ضد الكاثوليك في آيرلندا اليوم «حربًا مقدسة».
واليوم مع حروب العراق الأولى والثانية، وحرب أفغانستان صار هناك استنهاض لمفهوم «الحرب المقدسة» في التوراة وأدبيات القرون الوسطى، (خاصة مفهوم الحروب الصليبية). وهنا نحن لا نتكلم عن مفهوم الحروب الدفاعية العادلة التي على الأمم الالتزام بها دفاعًا عن حدودها وكرامتها، بل نتحدث عن المنظّرين المسيحيين الذين يعتقدون أن كل حرب على الشر والأشرار هي حرب على الشيطان، وهي بالتالي «حرب مقدسة». لكن العقدة تكمن هنا في تحديد ما هو الشر ومن هم الأشرار.
الأصولية الإسلامية الحديثة
يتعاطى من يسمون اليوم بـ«الأصوليين» الإسلاميين، على اختلاف مشاربهم، مع توترات الحداثة بطرق مختلفة عن بعضها البعض تمامًا، إلا أنهم في مطلق الأحوال يأخذون خبرات الشعوب ويؤولونها ويضعونها أمام أفق ديني، ويلجأون في ذلك إلى التراث الديني. ويبدو أمرًا متناقضًا - وخصوصًا من وجهة النظر الأوروبية - الدخول في الحداثة عن طريق التوجه الديني تبعًا لقناعات دينية من عهد ما قبل الحداثة.
بدايةً يمكن تأكيد اعتبار هذا الطريق رد فعل على حقيقة أن كل أشكال رأس المال اللازم للرقابة القومية - الشركات الاقتصادية وسلطة الدولة والتأثير السياسي والقانون - كله في يد الخصوم العلمانيين. إذا لا يبقى إلا تكوين قاعدة جماهيرية - أي رأس المال الاجتماعي - عن طريق الاعتماد على المعرفة المتوافرة لدى الحشود، ألا وهي المعرفة الدينية.
من هذا المنطلق يمكن القطع بأن المنطق العملي للدين هو الممارسة العملية. ويمكن أن نذكر من خلال نقطة واحدة ما يلي: عندما تتحطم وحدة العالم الإسلامي التاريخية - أو التي كانت على الأقل قائمة في الأذهان - إلى ألف قطعة بسبب القوى الاستعمارية أو الدول القومية وانتهاء الخلافة، عندما لا تعد هناك أمة... فما هو الأمر الأقرب عندها إلى النفوس من تذكّر وحدانية الله، أي عقيدة التوحيد؟ وبالتأكيد الذين سيتذكرون ذلك هم أشخاص ويجب أن تكون المحتويات الدينية التي سينشأ لديهم وعي بها مهمة بالنسبة لهم.
ثم إن إطلاق مسمى «الأصوليين» على الكثير من الناس أصبح شائعًا في الكتابات السياسية والصحافية في السنوات الأخيرة. ومع نهاية عام 1980 كانت الصحف الأميركية، بالذات، تنشر الكثير عما نسميه بـ«المد الأصولي»، وتحذر الناس من الأصولية الدينية. ومنذ ذلك الحين غدا مصطلح «الأصولية» شائع الاستعمال في مختلف وسائل الإعلام من مكتوبة ومسموعة ومرئية، وفي الخطاب الديني والسياسي في أوروبا وأميركا.
في هذا السياق نشير إلى إشكالية مهمة وخطيرة في الوقت ذاته. ذلك أن الفكر العربي في أزمنة التكلس والتحجر بات فكرًا متلقيًا، إذ استورد الكُتاب العرب هذا المصطلح من الغرب، واستعملوه أولاً بخلفية «الأصولية المسيحية»، وبالتدقيق «الأصولية البروتستانتية». لقد استلهموه من دون إدراك منهم لأبعاده «المسيحانية السياسية». وفقط مؤخرًا وعى الكتاب العرب أن مصطلح «الأصولية» استعمل خطأ واستغل، لكن كان قد فات الأوان، وأصبح من الصعب التغيير بعد أن أصبح بمثابة «خطأ شائع».
العالم ومجابهة أصوليات
ما هي الخلاصة الأولية للحالة التي يوجد عليها العالم حتى الساعة؟
وهل من آليات للأديان تجابه من خلالها بفكرها السليم لحظات الغلو والتطرف التي باتت في واقع الحال تتجاوز الأديان التوحيدية الثلاثة، إلى الأديان أو المذاهب الوضعية الأخرى، لا سيما في شرق آسيا، حيث نحو نصف سكان العالم من البوذيين والتاويين والماويين والسيخ والهندوس، وما إلى ذلك؟
الواضح أن «الأصولية» في صعود، وكما تشير الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم. ويوجد أصوليون - بل قل متشددين ومتطرفين - في معظم الديانات، إن لم يكن كلها. ولقد أشارت المؤرخة الدينية كارين أرمسترونغ في حديث أدلت به أخيرًا في مجلس برلمان ديانات العالم إلى أن الأصولية «تظهر في شكل تمرد على المجتمع العلماني الحديث، لأنها تفهمه كتهديد لها، وأنها تضرب بجذورها في الخوف من تعرّضها للإبادة، ولقد أسهمت فيها النزعة التجارية بدافع الجشع والخوف من المجهول».
ما نخلص إليه من رؤية أرمسترونغ هو أن المعتقدات الضيقة الأفق التي تعبر عنها عقلية الأصولية الراديكالية تشجع على الإتيان بسلوكيات مدمرة. وهي «الحاضنات» التي ينشأ فيها التعصب والنعرات الطائفية. ولقد أدى هذا إلى تفجر الحروب واندلاع الإبادة العنصرية دون احترام لحسن أحوال الآخرين. وغالبًا ما يعمد «الأصوليون» المتشددون لاستخدام النصوص المقدسة لإضفاء الصدقية على طروحاتهم، ولتأكيد هويتهم. لكننا نجد في معظم الأوقات معتقدات محورية مثيلة وحكايات تكرّر في الكثير من الديانات. فمثلاً اليهود والمسيحيون والمسلمون كلهم يرجعون إرثهم إلى النبي إبراهيم (عليه السلام). وعلى الرغم من أن نسخ الحكايات تختلف عن بعضها بعض الشيء، فإننا نجد في جميعها أفكارًا واحدة يمكن تتبعها إلى الجيل التوراتي لإسحق وإسماعيل، في عام 1800 ما قبل الميلاد، وتسمح لنا قصتهما بإلقاء نظرة على أوجه التشابه بين الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام، كما تفسر لنا شعور أتباع كل ديانة منها بأن أتباع الديانتين الأخريين آخر بالنسبة لهم.
هل يتوقف الحديث عند هذه النقطة؟
لا بد من الجزء الثاني المُكمل الذي يتناول البحث عن التحديات التي تفرضها الأصوليات الدينية، وعلاقة العدالة العالمية بتصاعد أو اضمحلال الحركات الأصولية، عطفًا على أهم الآليات التي يمكن من خلالها للإنسانية تقليص فرص العنف الأصولي، والكثير من الأحاديث التي يتماس فيها العقل مع النقل.. فإلى حلقة ثانية متممة ومكملة، إن شاء الله.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.