من التاريخ: التجسيد الأول للقومية الأوروبية

كونراد أديناور
كونراد أديناور
TT

من التاريخ: التجسيد الأول للقومية الأوروبية

كونراد أديناور
كونراد أديناور

لقد كان من الصعب على أحد أن يتخيل في صيف 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية أي مشروع سياسي أوروبي موحّد في ظل الخراب الذي لحق بهذه القارة والدمار الذي كانت كثير من المدن الأوروبية تعاني منه. ذلك أن ألمانيا صارت مقسمة بين الاحتلال السوفياتي والحلفاء، وبينما خضعت كيانات شرق أوروبا لسلطة «الدب الروسي» العسكرية سيطرت الولايات المتحدة على أوروبا الغربية. ومن ثم، بدأت عملية إدارة السياسة الدولية تتمحور حول القارة الأوروبية بين أميركيين يرغبون في حفظ الأمن والسلم الغربيين، وأوروبيين يأملون في إيجاد وسيلة تقضي على فرص اندلاع حرب عالمية ثالثة، واتحاد سوفياتي طموح يهدف إلى تغيير البنية السياسية في أوروبا من خلال الاشتراكية والجيش الأحمر.
وبدأت لعبة التوازنات الاستراتيجية والأمنية تسيطر على مجريات القارة الأوروبية، ولم يكن لدى العامة في غرب القارة يومذاك مشروع أممي، بل مجرد أفكار لا تخرج عن الرومانسية السياسية كما تابعنا في الأسبوع الماضي. ولكن في باريس نبتت فكرة «القومية الأوروبية» في ذهن اقتصادي فرنسي متميز هو جان مونيه Monnet، الأب الروحي لـ«القومية الأوروبية» الحديثة ممثلة في الاتحاد الأوروبي. لقد كان منبع فكر مونيه حماية المصالح الفرنسية من خلال التكامل مع ألمانيا، وحقًا خدمت الظروف فكر مونيه وفرنسا بشكل كبير مع انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد انقسمت أوروبا عمليًا وآيديولوجيًا إلى شرق اشتراكي وغرب رأسمالي/ ديمقراطي، وسرعان ما باتت الحرب الباردة على الأبواب. وكان الخطر الشيوعي لا يقلّ عن مخاطر أخرى بالنسبة لغرب أوروبا، إذ سعت الحكومات للعمل على الحفاظ على شرعية نظم الحكم فيها وتفعيل المبادئ المرتبطة بهذه الشرعية، وهو ما أوجد هدفًا أوروبيًا - أميركيًا موحدًا يتمثل في ضرورة إنجاح النموذج التنموي الرأسمالي في أوروبا بعد الحرب. وإلى جانب «مشروع مارشال» الشهير لإعادة بناء الاقتصادات في غرب أوروبا، كانت أوروبا بحاجة إلى مشروع آخر لتضافر الجهود الأوروبية، وبالتالي، أصبحت فكرة التكامل قابلة للتنفيذ لحماية المصالح الاقتصادية المشتركة.. شريطة وجود رؤية واضحة بعيدة عن الرومانسية التي طغت على الفكرة «القومية» على مدار العقود السابقة.
فرنسا كانت من أكثر الدول تأثرًا ولا سيما صراعاتها الممتدة مع ألمانيا. ولم يتيسر احتواء التهديد الألماني لفرنسا من خلال «الكسر السياسي» لألمانيا، كما حدث بعد «صلح فرساي» الذي دفع النازية لتوجيه جام غضبها وآلياتها العسكرية لاحتلال فرنسا بمجرد أن سنحت الفرصة. وعليه، كان الهدف إيجاد وسيلة لضمان التنمية الاقتصادية الألمانية والإيطالية في إطار تكاملي مع فرنسا وباقي الدول الأوروبية في الغرب، وهو الإطار الذي كان كفيلاً بنزع فتيل القومية الألمانية المتطرفة التي ظلت متوهجة على مدار قرن من الزمان. ومن ثم كانت هناك ضرورة لتنفيذ المشروع القومي الألماني من خلال مشروع قومي أوروبي يمكن أن يجمع نواة من الدول الأوروبية تمثل قاعدة لانطلاقة مشروع «الفيدرالية» الأوروبية، وهو سيناريو يصب في مصلحة الجميع لا خاسر فيه إلا التطرف وانعدام التنمية والحرب. ولكن بقي السؤال الأهم.. ألا وهو كيفية إتمام هذا المشروع في ظل الظروف السياسية القائمة في أوروبا وسيطرة الولايات المتحدة عسكريًا واقتصاديًا على القارة.
لقد طرحت فرنسا مشروعها بدايةً خلال اجتماعات وزراء خارجية «اتفاقية بروكسل» وشمل فكرة تأسيس برلمان فيدرالي لدول غرب أوروبا من خلال «مجلس أوروبا»، غير أن الفكرة لم ترق لمستوى التنفيذ، إذ اعتبرها الساسة الأوروبيون حلمًا مثاليًا فوقيًا غير منطقي وغير قابل للتنفيذ. كذلك لم يكن هناك ما يكفي من الحوافز التي تجعل الدول تقبل إدارة فيدرالية فوقية تسيطر على مجريات السياسة بينها، خاصة فكرة التنازل عن السيادة - ولو جزئيًا - لم تكن مطروحة. وهكذا فشلت المبادرة الفرنسية ولكن ليس فكرة القومية ذاتها. إذ أدرك مونيه أن المطلوب هو إيجاد سلسلة من الحوافز العملية القادرة على دفع مشروع القومية قدمًا على أن يتحقق على مراحل، وأنه كان يحتاج إلى عنصرين أساسيين: العنصر الأول، النتائج الإيجابية في قطاع ما بما يساهم في الدفع نحو إنجاح التكامل في قطاع آخر في المشروع القومي أو ما يعرف بال Ramification، أما العنصر الثاني فكان مرتبطًا بتقليل جرعة الانتقاص من «السيادة» لدى الدول الأوروبية، فلن تقبل أية دولة بفكرة الانصياع لمؤسسة فوقية تدير أمورها، خاصة وأن الفكر القومي أو الوطني يكون على أشده بعد الحروب.
وعند هذا الحد طرح الفرنسيون مشروعين أساسيين، الأول من رينيه بليفان Plevin الذي تجسد في «الجماعة الأمنية الأوروبية» التي ضمنت نوعًا من الحد الأدنى للدفاع المشترك للدول الأوروبية ولاقت بعض النجاح المحدود للغاية. وفي الوقت نفسه تقريبًا طرح وزير الخارجية الفرنسي روبير شومان (عام 1950) الخطة التي كان مونيه قد صاغها وهي «جماعة الفحم والصلب الأوروبية». وكان لب الفكرة خلق كيان فيدرالي بين ألمانيا وفرنسا لإدارة إنتاج الفحم والصلب، كون هذه الصناعة هي الأساس الاقتصادي لأي إنتاج حربي. وهنا بدأ التكامل بين الفحم والصلب يخلق التكامل بين فرنسا وألمانيا من خلال مشروع يوفر المكاسب المشتركة للدولتين، ويسيطر في نفس الوقت على المُدخل الأول لصناعة الأسلحة من خلال إيجاد سلطة عليا تدير هذا القطاع عبر قوانين منافسة مشتركة وإدارة إنتاج موحّدة والتدخل في التسعير إذا ما لزم الأمر. وكانت الفكرة تدفع نحو أن تكون صناعة الصلب وإنتاج الفحم الأداة الأولى للتكامل الاقتصادي بين الدولتين بمشاركة دول أخرى. ومع أن رئيس الوزراء الألماني كونراد أديناور كان يدرك أن «الجماعة» المطروحة ستفيد فرنسا أكثر من ألمانيا، لكن بُعد نظر هذا السياسي الداهية جعله يقبل الفكرة ويتحمس لها، خصوصا أن ألمانيا كانت مقسمة وكان أديناور يعتقد أن نجاح فكرة التكامل الأوروبي أحد الأدوات السياسية الأساسية التي كانت ستسمح له بتوحيد ألمانيا مستقبلاً. وفعلاً صدق حدس الرجل وتم ذلك لأسباب مختلفة من ضمنها وجود ألمانيا كقوة دفع أساسية في الاتحاد الأوروبي بعد ذلك.
قبل أديناور «خطة» شومان الذي كان قد أعلن عند طرحها أن «جماعة الفحم والحديد» بداية للفيدرالية الأوروبية، وتم التوقيع على اتفاقية إنشاء «جماعة الفحم والصلب» في مايو (أيار) 1951 وانضمت لها ست دول هي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا. ومع أن الولايات المتحدة لم تكن رافضة لهذه الفكرة من الأساس، خصوصًا أنها كانت تدفع نحو تطوير الاقتصاد الأوروبي وإعادة تأهيله، كان لبريطانيا تحفظاتها. فبريطانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية مؤمنة بـ«العلاقة عبر الأطلسية الخاصة» Transatlantic Link مع أميركا على حساب المكوّن الأوروبي. ومعلوم أن بريطانيا - الدولة الجزيرية - بنت سياستها الخارجية تقليديًا على تفتيت القارة الأوروبية سياسيًا. ومن ثم، فهي لم تكن تحبذ فكرة الفيدرالية وإن كانت قد قبلت بفكرة التكامل فقط. كذلك رأت لندن أن الكيان الجديد سيمثل خطرًا على صناعة الصلب البريطانية التي كانت مؤممة وتديرها الدولة. ولذا تباطأت لندن في قبول الفكرة وصارت تماطل في المفاوضات أملاً في وأدها. وساعد على ذلك أن بريطانيا خرجت من الحرب كأقوى اقتصاد نسبي في القارة الأوروبية وكانت فرنسا بالإضافة لحلفائها مدينين لها، وكانت التسويات تجري على أساس ما هو معروف بـ«منطقة الإسترليني Sterling Area»، ومن ثم لم تتحمس كثيرًا لفكرة التوحد في هذا المجال. وعندما أيقن الفرنسيون والألمان أن لندن تماطل، وُضع سقف زمني للمفاوضات، وعندما لم تنجح المفاوضات مع بريطانيا، أعلنت فرنسا وألمانيا تأسيس «الجماعة» على الفور تحت أساس فيدرالي بحت، ولم تعد فرنسا أو ألمانيا أو أي من الدول الأربع الأعضاء قادرة على التحكم في صناعات الصلب أو إنتاج الفحم بمعزل عن الدول الأخرى من خلال إدارة عليا مشتركة لهاتين الصناعتين. وكانت هذه هي بداية القومية الأوروبية ممثلة في الاتحاد الأوروبي، وسرعان ما دفع النجاح في هذا القطاع إلى نجاحات أخرى في قطاعات أخرى إلى أن وصلنا لمحطة الاتحاد الأوروبي كما سنرى.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.