تحكي آثار محافظة الخرج (80 كيلو جنوب العاصمة السعودية)، قصة حضارة مهمة تعود إلى العصر الحجري القديم، ولذلك تواصل البعثة السعودية الفرنسية المشتركة للتنقيب الأثري أعمالها في عدد من المواقع بالمحافظة، أبرزها موقع اليمامة، لكشف جوانب من تاريخ المنطقة والحضارات القديمة التي استوطنتها.
وكانت البعثة التي تضم 18 عضوًا من العلماء والمتخصصين السعوديين والفرنسيين في مجال التنقيب الأثري، اكتشفت في موقع اليمامة بالخرج الذي يتبع للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني على آثار معمارية لمسجد ضخم يعود إلى الفترة الإسلامية المبكرة، بداية من القرن الأول إلى القرن الخامس الهجري، له ثلاثة أروقة مسقوفة ومحرابان وصحن مكشوف ضخم، وهو مسجد كبير تدل المؤشرات على أنه قد يكون الأكبر في الجزيرة العربية بعد الحرمين الشريفين في تلك العصور.
ويتميز المسجد بوجود أعمدة دائرية ضخمة تحمل سقفه، ويزيد قطرها على المترين، وكان له ثلاثة أروقة مسقوفة ربما على أقواس، كما أن له محرابا واضحا، ويبدو صحنه المكشوف ضخمًا، ويظهر خلف الصحن جزء آخر تكونه وحدات معمارية، إضافة إلى ركام طيني في الركن الشمالي الشرقي للمبنى قد يكون من أطلال المئذنة، ويجاور المسجد الأحياء السكنية.
وشمل المسح الميداني للبعثة مستوطنة البنة (الخضرمة)، وتم عمل تخطيط شبكي للموقع داخل السياج الحديدي، إضافة إلى مستوطنة حزم عقيلة، وخمسة مواقع إسلامية متناثرة في امتداد وادي نساح، علاوة على مسح الجبال المطلة على وادي نساح إلى الشمال مباشرة من خط الرياض - وادي الدواسر.
العصر الحجري القديم
وأظهرت نتائج عمل البعثة العثور على عدد من مواقع العصر الحجري القديم، وهي المرة الأولى التي تكتشف فيها مواقع من فترة العصر الحجري القديم في محافظة الخرج، والتي ربما يعود تاريخها لأكثر من 100 ألف عام، وذلك في جبال «الشديدة»، إضافة إلى مواقع العصر الحجري القديم الأعلى.
وعثرت البعثة في الموقع على كسر الأواني الفخارية العادية والمزججة، باللون الأخضر الغامق والأخضر العشبي، ومجموعة من كسر الأساور المصنوعة من عجينة الزجاج والمطعمة بعجائن ذات ألوان أخرى مثل الأصفر والأحمر والأزرق، إضافة إلى كسر قليلة من أواني الحجر الصابوني الرمادي التي يبدو أنها أجزاء من مسارج وأوانٍ صغيرة.
وتدل مجموعة الأواني الفخارية على فترة استيطان من الفترة العباسية، وربما أنها تمثل فترة أواخر ما قبل الإسلام وحتى القرن الخامس الهجري.
ووجد الباحثون آثارًا تعود إلى الفترة الإسلامية المبكرة تتمثل في كميات من كسر الأواني الفخارية، وكسر الفخار المزججة، إضافة إلى مجموعة من كسر الأساور المصنوعة من عجينة الزجاج.
وفي موقع عين الضلع الذي يقع في الجهة الغربية من واحة الخرج تم العثور على آثار سكنى بشري يقدر عمرها بنحو 5000 عام، وحديد يعود إلى بداية الألفية الأولى قبل الميلاد، كما تم العثور على سيف من البرونز يبلغ طوله 56 سم.
وأجرت البعثة مسحًا أثريًا لمستوطنة البنَة (الخِضرمة) ومستوطنة حزم عقيلة إلى الشرق من موقع البنَة، وخط القنوات من عين فرزان حتى السلمية، وتبين وجود عدد من المزارع القديمة ومنشآتها المعمارية يعود تاريخها إلى القرن الخامس الهجري.
جبال ماوان وعين فرزان
وانتقلت البعثة الأثرية إلى الجبال المحيطة بالخرج لإجراء مسح ميداني بحثًا عن مواقع العصور الحجرية، شملت الجبال المطلة على وادي نساح، وجزء من الجبال المطلة على وادي ماوان، وعين فرزان، والجبال المطلة على بلدة الشديدة، واكتشفت مواقع تعود للعصر الحجري القديم في محافظة الخرج يعود تاريخها إلى 100 ألف عام تقريبًا وهي المرة الأولى التي تكتشف فيها مواقع من فترة العصر الحجري القديم في محافظة الخرج، إضافة إلى مواقع تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى.
وتواصل البعثة خلال العام الحالي التنقيب في موقع العصر البرونزي في عين الضلع استكمالا لأعمال موسم 2013، إضافة إلى استمرار أعمال التنقيب في المسجد المكتشف بموقع البنة (الخِضرمة) وكذلك أفران الفترة العباسية بالمجلس الواقع جنوب المسجد، مع استكمال أعمال الرسم والتصوير.
يشار إلى أن البعثة السعودية الفرنسية المشتركة تعمل في إطار الاتفاقية الموقعة بين الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني والجانب الفرنسي في 21 سبتمبر (أيلول) 2011م، وذلك لأعمال التنقيب الأثري في مواقع محافظة الخرج بمنطقة الرياض، ويضم الفريق السعودي الفرنسي في الموسم الحالي 18 عضوًا متخصصًا في مجال البحث الأثري، ويرأس الجانب الفرنسي الدكتور جيرمي شيتيكات، في حين يرأس الجانب السعودي عبد العزيز الحماد.
طبقات جديدة من الحضارات
وكان الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني استقبل مؤخرا في مقر الهيئة بالرياض فريق البعثة السعودية الفرنسية المشتركة للتنقيب في موقع اليمامة بمحافظة الخرج.
وأعرب الأمير سلطان بن سلمان عن تقديره لجهود البعثة مؤكدًا أهمية تهيئة الموقع للزوار ليتمكن أهالي المنطقة المحيطة بالموقع الذين يعتزون بآثار منطقتهم والمواطنين كافة من زيارته، وذلك في إطار جهود «الهيئة» لربط المواطنين بتاريخ بلادهم وهو المسار الذي تعمل عليه الهيئة ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري، ويحقق توجيهات خادم الحرمين الشريفين بالعناية بالآثار وتعريف المواطنين بها، والإسراع في إطلاق برنامج شامل للعناية بالتراث وتهيئة مواقعه لعرض التاريخ الوطني ومواقع التاريخ الإسلامي ومواقع الآثار الأخرى.
وأكد أن الدولة ممثلة في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني تعمل على مشروع شامل للتعريف بما تمتاز به السعودية من ثقل حضاري وغنى تراثي وعمق تاريخي، مشيرًا إلى أن بعثات التنقيب العاملة الآن في مناطق المملكة والتي تضم علماء سعوديين مع نظرائهم من دول عدة تستكشف كل يوم طبقات من حضارات عريقة، تبرز أهمية هذه المنطقة في التاريخ الإنساني عبر العصور، وتبرهن على أن هذه الأرض كانت منذ القدم مركز ثقل سياسي واقتصادي وحضاري، وقدرها أن تبقى كذلك، لافتًا إلى أن مواطني هذه البلاد ورثة لمن أدوا دورًا رئيسيًا في اقتصاد العالم وطرق التجارة.
حضارات جديس وكندة وحنيفة
وأكد الدكتور عبد العزيز الغزي أستاذ الآثار بجامعة الملك سعود رئيس الجانب السعودي في الموسم الأول للبعثة، أن هذه البعثة تعد الأولى من نوعها في وسط السعودية من حيث التكوين، وعدد المتخصصين، ودرجاتهم العلمية، وريادتهم في أبحاث الآثار على مختلف أنواعها، أما السبق الزمني فسُبقت بأعمال عدة لعل من أقدمها بعثة فيلبي - ركمانز - ليبنز التي نفذت عام 1951، رحلة استطلاعية إلى نجران، بدأتها من مدينة جدة، وفي عودتها مرت بمواقع أثرية عدة ربما أن من أهمها قرية الفاو في محافظة وادي الدواسر وجبل مأسل في محافظة الدوادمي، وسبق أن قدم هاري سنت جون فيلبي عددًا من الدراسات الميدانية عن أنظمة الري في الأفلاج، وآثار قرية الفاو، ونشر دي جوري مقالة عن المقابر الركامية في موقع عين الضلع، بعده نشر هولدش مقالاً عن ذات الموضوع، ثم جاءت مناقشة للموضوع نفسه نشرها ديفيد هوجارث رئيس المكتب السياسي البريطاني في مصر في أوائل القرن الماضي، كما نشر حمد الجاسر قصة حفره لإحدى تلك المقابر عام 1360هـ. وأجرى في سبعينات القرن الماضي الباحث الأميركي ألبرت جام على دراسة النقوش والرسوم الصخرية القديمة في قرية الفاو، نشر دراسات في ذات الخصوص.
وأشار إلى أن مشروع هذه البعثة المشتركة يبقى الأكبر، إذ إنه حسب الاتفاقية الموقعة من الطرفين السعودي والفرنسي سيستمر خمس سنوات، وربما أكثر، ما سيتيح الوقت الكافي للكشف عن الكثير من المواقع التي لا تزال ترقد تحت الرمال والأتربة، والعمل على حفر أجزاء كبيرة منها لتفصح عن تاريخها، ووقع اختيار الفريق على موقع من أهم المواقع في شبه الجزيرة العربية هو «الخضرمة» (يعرف محليًا باسم البنّة) الذي يحتل مساحة من التاريخ القديم والتاريخ الإسلامي لوسط السعودية تمتد من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى ربما القرن السابع الهجري، فعلى سبيل المثال عُرف عن الموقع أنه كان مقرًا لأمة جديس، ولأمة كندة، ولأمة حنيفة فيما قبل الإسلام على التوالي، واستمر مستقرًا لبني حنيفة حتى القرن الرابع الهجري عندما أصبح مقرًا لدولة الأخيضريين التي عاشت قرابة القرنين قبل أن تنتهي على يد القرامطة في معركة حاسمة حدثت في الخرج قرب المستوطنة ذاتها.
وقال د. الغزي: «هذا التراكم الزمني الاستيطاني الطويل الذي يتوفر في الموقع والذي لا نعرف منه إلا القليل، سيفصح العمل الأثري التنقيبي فيه، إن استمر لوقتٍ كافٍ، عن مواد أثرية ستساعد في إعادة كتابة وبناء تاريخ وسط المملكة العربية السعودية من جديد، كما سيجعلنا نُعيد النظر في صراعات القبائل العربية وحروبها فيما قبيل الإسلام، فضلاً عن أنه سيقدم مادة أثرية وتسلسلاً طبقيًا ربما يلعب دورًا كبيرًا في تأكيد ما يعرف عن استيطان الموقع أو يصححه أو ينفيه أو ينفي جزءًا منه».