شكلت سنة 2016 بداية حقيقية لتراجع خلافة البغدادي الإسلامية، مساحة ودعوة وموارد بشرية وإمكانيات مالية. ويأتي هذا المسار الإيجابي ليوقف التوسع الجغرافي والسياسي لتنظيم داعش، في العراق، وسوريا وليبيا؛ مستغلا بذلك تناقض وصراعات القوى الداخلية، والإقليمية والدولية حول معالجة أزمة تلك الدول. وتكريسا لمسلسل الانتصارات على «داعش» بعد استعادة الفلوجة وغيرها، بدأت القوات العسكرية العراقية من عدة محاور، وبمساندة جوية جد مكثفة من التحالف الدولي، يوم السبت 13 أغسطس (آب) 2016 عملية عسكرية للسيطرة على ناحية مدينة القيارة، التي تفصل بين محافظتي صلاح الدين وجنوب الموصل. ويأتي هذا بعد تمكن قيادة تحرير نينوى من السيطرة على 4 قرى جنوب المدينة المشار إليها.
وتأتي المعارك في المناطق الخاضعة «لخلافة البغدادي»، لتفسر مجمل التطورات التي شهدها شريط المواجهة الدولية للإرهاب منذ بداية هذه السنة. حيث أكدت عدة تقارير، أن التطور النوعي في عملية مكافحة التنظيمات الإرهابية التي انتقلت سنة 2016، من سياسة الحصار المكاني والمادي، لتصل لهزائم كبيرة لفكرة «الخلافة»، على أرض العراق وسوريا، مما يشكل بداية حقيقية لاستعادة السيطرة على الوضع بالمنطقة. خاصة أمام تراجع إمكانيات «داعش» المالية المعتمدة على تجارة النفط، وانعكاسها على جلب الموارد البشرية وعملية التسليح، وهذا أدى بدوره لتقلص جغرافية «الخلافة» بنحو 12 في المائة، وأظهر تنظيم البغدادي بمظهر العجز عن الدفاع عن أرض دولته المزعومة.
مجموع هذه الخسائر، يعني الكثير على المستوى المعنوي، ففكرة الخلافة ترتبط ارتباطا جذريا وميكانيكيا بالأرض في الفكر والتنظير «الداعشي» للدولة. فخسائر «داعش» في محافظة الأنبار غرب العراق، ومدينة الفلوجة، وشمال سوريا، والتضييق المتزايد على الرقة «عاصمة» تنظيم البغدادي بسوريا؛ تعني أن الانحسار الجغرافي لا يؤشر فقط على تقلص الخريطة الداعشية، وإنما يهدد بنسف فكرة «الخلافة»، الملهمة للجيل الجديد من الإرهابيين العالميين من أساسها، ويصيبها بالشلل.
وحسب مؤسسة «IHS للأبحاث وتحاليل الصراعات»، فإن «داعش» سيطرت على نحو 78 ألف كيلومتر مربع من مساحة العراق وسوريا في بداية في 2015؛ لكنها تراجعت بسرعة سنة 2016 إلى ما يقارب 68.3 ألف كيلومتر مربع. بمعنى أكثر وضوحًا، فإننا نشهد انهيار دفاعات التنظيم الإرهابي، الذي كان يمارس منذ 2014 استراتيجيته الهجومية التوسعية. وإلى حدود شهر مايو (أيار) الماضي خسرت خلافة البغدادي، أكثر من 45 في المائة من أراضيها بالعراق و20 في المائة من مجال سيطرتها بسوريا، كما أنها ما زالت تفقد أراضي جراء المعارك المستمرة؛ حيث تمكنت الوحدات الكردية يوم الجمعة 12 / 08 / 2016 من تحرير مدينة منبج بالكامل من سيطرة «داعش» بعد 73 يوما من المواجهات؛ وتأتي الأهمية الاستراتيجية لهذه المدينة في كونها تبعد بنحو 40 كيلومترًا عن الحدود التركية، و80 كيلومترًا شمال شرقي مدينة حلب.
ورغم أن كثيرا من المحللين والباحثين في قضايا الإرهاب توقعوا أن تكون ليبيا هي «جنة دولة الخلافة»، بعد التراجع الواضح بالعراق وسوريا؛ فإن تمدد التنظيم بالحدود الليبية التونسية وبالشرق الليبي وجنوبه، سرعان ما واجه رفضًا شعبيًا متزايدًا وقوى مسلحة حاربته بشراسة. ويبدو أن دخول «داعش» ليبيا لمدينة مصراتة، كانت بداية التراجع، حيث شكلت هذه الخطوة الإرهابية حافزا قويا للمجموعات المحلية المتحاربة لتشكيل جبهة موحدة ضد «داعش»، مما مهد لظهور قوات عسكرية خاصة لمواجهة تمدد التنظيم الإرهابي، بمدينة سرت أكبر معقل للتنظيم بليبيا.
وعلى خلاف معركة تحرير مصراتة من الإرهابيين، التي اعتمدت على الإمكانيات الذاتية للسكان المحليين، بشكل أبهر القوى الإقليمية والدولية. تخوض القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني «البنيان المرصوص»، معاركها المتواصلة ضد «داعش»، بسرت بمساندة الطيران الأميركي، مما مكنها من الدخول لوسط المدينة والسيطرة على أهم مرافقها، بما فيها مركز الإذاعة يوم السبت 17 - 08 - 2016.
من جانب آخر، تمثل الخسائر البشرية التي مني بها تنظيم البغدادي في بداية النصف الثاني من هذه السنة، مؤشرًا قويًا على انكساراته وهزائمه الميدانية. فبالإضافة لعودة نحو 30 في المائة من المقاتلين الأوروبيين لبلدانهم؛ فإن الهجمات الجوية ما زالت تحقق نتائج نوعية، آخرها ما أعلن عنه مسؤول في «البنتاغون» الجمعة 12 / 08 / 2016، فقد قتل زعيم تنظيم داعش في أفغانستان وباكستان حافظ سعيد بغارة أميركية نفذتها طائرة أميركية دون طيار في إقليم بشرق أفغانستان.
أما السفير الأفغاني لدى باكستان عمر زخيلوال فأكد لوكالة «رويترز»، «أن حافظ سعيد خان زعيم ولاية خراسان التابعة لتنظيم داعش قتل مع كبار قادته ومقاتليه في ضربة نفذتها طائرة أميركية دون طيار في 26 يوليو (تموز) في منطقة كوت بإقليم ننكرهار الأفغاني».
وفي العراق وبعد مقتل أبو علي الأنباري، تلقى التنظيم الإرهابي أقوى ضربة له بمقتل «وزير الحرب»، في دولة البغدادي؛ وكانت وكالة «أعماق» التابعة للتنظيم قالت إن الشيشاني قتل في معركة بمدينة الشرقاط العراقية أثناء «مشاركته في صد الحملة العسكرية على مدينة الموصل». ولا تكمن أهمية الشيشاني في قربه الشديد من زعيم «دولة الخلافة» وما تولاه من مناصب عسكرية؛ بل تتعدى ذلك، لتعكس الدور الريادي الذي تلعبه القيادات غير العراقية والسورية داخل «داعش».
وعلى المحور الليبي تلقى التنظيم ضربة لا تقل قسوة من تلك التي أصيب بها مركزيا؛ حيث قتل محمد القذافي القيادي في الفرع الليبي لتنظيم داعش الذي يتزعم المحور الشرقي لمدينة سرت، خلال معركة مع «قوات البنيان المرصوص» في سرت يوم الثلاثاء 15 - 7 - 2016. والتي تهدف تحرير المدينة من قبضة التنظيم الإرهابي الذي يسيطر عليها منذ ما يقارب العام.
ورغم النجاح الكبير الذي أحرزته معارك هذه السنة ضد البغدادي في ليبيا وسوريا والعراق، فيجب التنبيه أن تنظيم البغدادي، يمتلك فرصا حقيقية للمناورة في المناطق الصحراوية خاصة، والتي تعتبر نقطة تشترك فيها الجغرافيا العراقية والليبية أساسا، بينما يجد صعوبة على الأراضي السورية. كما أن استمرار الصراع الداخلي بين مختلف الفرقاء السياسيين والعسكريين بليبيا، وسلبية التدخلات الأجنبية الإقليمية والدولية، ودورها البارز في استمرار فشل الدولة الليبية يزيد من قدرة «داعش» على المناورة وربما استرداد المبادرة عسكريا.
فالمعارك التي خاضتها بليبيا وانهزمت فيها، لم تؤدِّ لإضعاف التنظيم بشكل كبير، حيث استغلت ميلشياته فشل الدولة وشساعة الصحراء لتنقل بالمعدات العسكرية، باتجاه سرت والجنوب الشرقي، محافظة بذلك على مواردها البشرية. والتي يرى المركز الليبي لمتابعة الإرهاب، أنها تتكون من ليبيين، وبضعة آلاف من المقاتلين الأجانب، أغلبهم من تونس المجاورة، ويبلغ عددهم نحو 3200 مقاتل، ومن دولة مالي نحو699 فردا، والسودان 455 مقاتلا، ومصر المجاورة 111 مقاتلا، إضافة لجنسيات تشادية وموريتانية وأفريقية وخليجية أخرى. غير أنه يلاحظ استئثار الليبيين والتونسيين أساسا بقيادة التنظيم متبوعين بالمقاتلين المصريين.
لا يرتبط سقوط خلافة البغدادي بإضعاف تنظيمه الإرهابي، عبر محاصرته عسكريا، وقطع موارده المالية والبشرية؛ بل يرتبط أساسا بقدرة المنظومة الدولية على تطوير أساليب الصراعات الدولية، وسبل حلها توافقيا. ذلك أن ظهور تنظيم داعش، لا يفسر فقط تطور المجتمع العراقي وحالة فشل الدولة، وإنما يكشف أساليب الصراع الإقليمي والدولي وتناقضات مصالحه في منطقة الشرق الأوسط. هذا الوضع التناقضي والتقاطبي الدولي الإقليمي، استغله «داعش» وما زال ليتمدد، ويناور في جغرافية الحروب السياسية الممتدة من الشرق الأوسط لشمال أفريقيا؛ واستمرار التراجع الذي يشهده تنظيم البغدادي وخلافته المزعومة، يستوجب تطويرا سريعا لديناميات المساومات والتفاهمات الإقليمية السنية الشيعية، بقيادة المملكة العربية السعودية وتركيا، وإيران، والدولية بزعامة موسكو وواشنطن. وأي ضعف أو تراجع عن مسار التفاهمات هذه، يعني منح مزيد من فرص الحياة «لداعش»، وتمكينها من المناورة، وخلق دورة جديدة من موجات الإرهاب بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس
خلافة البغدادي في سنة 2016 تراجع جغرافي ونزيف بشري مستمر
تكريسًا لمسلسل الانتصارات على «داعش» بعد استعادة الفلوجة وغيرها
خلافة البغدادي في سنة 2016 تراجع جغرافي ونزيف بشري مستمر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة