خلافة البغدادي في سنة 2016 تراجع جغرافي ونزيف بشري مستمر

تكريسًا لمسلسل الانتصارات على «داعش» بعد استعادة الفلوجة وغيرها

جندي افغاني في شرق ولاية ننجرهار يوجه سلاحه إلى عناصر داعش في عملية أمنية ضد عناصر التنظيم الإرهابي {غيتي}
جندي افغاني في شرق ولاية ننجرهار يوجه سلاحه إلى عناصر داعش في عملية أمنية ضد عناصر التنظيم الإرهابي {غيتي}
TT

خلافة البغدادي في سنة 2016 تراجع جغرافي ونزيف بشري مستمر

جندي افغاني في شرق ولاية ننجرهار يوجه سلاحه إلى عناصر داعش في عملية أمنية ضد عناصر التنظيم الإرهابي {غيتي}
جندي افغاني في شرق ولاية ننجرهار يوجه سلاحه إلى عناصر داعش في عملية أمنية ضد عناصر التنظيم الإرهابي {غيتي}

شكلت سنة 2016 بداية حقيقية لتراجع خلافة البغدادي الإسلامية، مساحة ودعوة وموارد بشرية وإمكانيات مالية. ويأتي هذا المسار الإيجابي ليوقف التوسع الجغرافي والسياسي لتنظيم داعش، في العراق، وسوريا وليبيا؛ مستغلا بذلك تناقض وصراعات القوى الداخلية، والإقليمية والدولية حول معالجة أزمة تلك الدول. وتكريسا لمسلسل الانتصارات على «داعش» بعد استعادة الفلوجة وغيرها، بدأت القوات العسكرية العراقية من عدة محاور، وبمساندة جوية جد مكثفة من التحالف الدولي، يوم السبت 13 أغسطس (آب) 2016 عملية عسكرية للسيطرة على ناحية مدينة القيارة، التي تفصل بين محافظتي صلاح الدين وجنوب الموصل. ويأتي هذا بعد تمكن قيادة تحرير نينوى من السيطرة على 4 قرى جنوب المدينة المشار إليها.
وتأتي المعارك في المناطق الخاضعة «لخلافة البغدادي»، لتفسر مجمل التطورات التي شهدها شريط المواجهة الدولية للإرهاب منذ بداية هذه السنة. حيث أكدت عدة تقارير، أن التطور النوعي في عملية مكافحة التنظيمات الإرهابية التي انتقلت سنة 2016، من سياسة الحصار المكاني والمادي، لتصل لهزائم كبيرة لفكرة «الخلافة»، على أرض العراق وسوريا، مما يشكل بداية حقيقية لاستعادة السيطرة على الوضع بالمنطقة. خاصة أمام تراجع إمكانيات «داعش» المالية المعتمدة على تجارة النفط، وانعكاسها على جلب الموارد البشرية وعملية التسليح، وهذا أدى بدوره لتقلص جغرافية «الخلافة» بنحو 12 في المائة، وأظهر تنظيم البغدادي بمظهر العجز عن الدفاع عن أرض دولته المزعومة.
مجموع هذه الخسائر، يعني الكثير على المستوى المعنوي، ففكرة الخلافة ترتبط ارتباطا جذريا وميكانيكيا بالأرض في الفكر والتنظير «الداعشي» للدولة. فخسائر «داعش» في محافظة الأنبار غرب العراق، ومدينة الفلوجة، وشمال سوريا، والتضييق المتزايد على الرقة «عاصمة» تنظيم البغدادي بسوريا؛ تعني أن الانحسار الجغرافي لا يؤشر فقط على تقلص الخريطة الداعشية، وإنما يهدد بنسف فكرة «الخلافة»، الملهمة للجيل الجديد من الإرهابيين العالميين من أساسها، ويصيبها بالشلل.
وحسب مؤسسة «IHS للأبحاث وتحاليل الصراعات»، فإن «داعش» سيطرت على نحو 78 ألف كيلومتر مربع من مساحة العراق وسوريا في بداية في 2015؛ لكنها تراجعت بسرعة سنة 2016 إلى ما يقارب 68.3 ألف كيلومتر مربع. بمعنى أكثر وضوحًا، فإننا نشهد انهيار دفاعات التنظيم الإرهابي، الذي كان يمارس منذ 2014 استراتيجيته الهجومية التوسعية. وإلى حدود شهر مايو (أيار) الماضي خسرت خلافة البغدادي، أكثر من 45 في المائة من أراضيها بالعراق و20 في المائة من مجال سيطرتها بسوريا، كما أنها ما زالت تفقد أراضي جراء المعارك المستمرة؛ حيث تمكنت الوحدات الكردية يوم الجمعة 12 / 08 / 2016 من تحرير مدينة منبج بالكامل من سيطرة «داعش» بعد 73 يوما من المواجهات؛ وتأتي الأهمية الاستراتيجية لهذه المدينة في كونها تبعد بنحو 40 كيلومترًا عن الحدود التركية، و80 كيلومترًا شمال شرقي مدينة حلب.
ورغم أن كثيرا من المحللين والباحثين في قضايا الإرهاب توقعوا أن تكون ليبيا هي «جنة دولة الخلافة»، بعد التراجع الواضح بالعراق وسوريا؛ فإن تمدد التنظيم بالحدود الليبية التونسية وبالشرق الليبي وجنوبه، سرعان ما واجه رفضًا شعبيًا متزايدًا وقوى مسلحة حاربته بشراسة. ويبدو أن دخول «داعش» ليبيا لمدينة مصراتة، كانت بداية التراجع، حيث شكلت هذه الخطوة الإرهابية حافزا قويا للمجموعات المحلية المتحاربة لتشكيل جبهة موحدة ضد «داعش»، مما مهد لظهور قوات عسكرية خاصة لمواجهة تمدد التنظيم الإرهابي، بمدينة سرت أكبر معقل للتنظيم بليبيا.
وعلى خلاف معركة تحرير مصراتة من الإرهابيين، التي اعتمدت على الإمكانيات الذاتية للسكان المحليين، بشكل أبهر القوى الإقليمية والدولية. تخوض القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني «البنيان المرصوص»، معاركها المتواصلة ضد «داعش»، بسرت بمساندة الطيران الأميركي، مما مكنها من الدخول لوسط المدينة والسيطرة على أهم مرافقها، بما فيها مركز الإذاعة يوم السبت 17 - 08 - 2016.
من جانب آخر، تمثل الخسائر البشرية التي مني بها تنظيم البغدادي في بداية النصف الثاني من هذه السنة، مؤشرًا قويًا على انكساراته وهزائمه الميدانية. فبالإضافة لعودة نحو 30 في المائة من المقاتلين الأوروبيين لبلدانهم؛ فإن الهجمات الجوية ما زالت تحقق نتائج نوعية، آخرها ما أعلن عنه مسؤول في «البنتاغون» الجمعة 12 / 08 / 2016، فقد قتل زعيم تنظيم داعش في أفغانستان وباكستان حافظ سعيد بغارة أميركية نفذتها طائرة أميركية دون طيار في إقليم بشرق أفغانستان.
أما السفير الأفغاني لدى باكستان عمر زخيلوال فأكد لوكالة «رويترز»، «أن حافظ سعيد خان زعيم ولاية خراسان التابعة لتنظيم داعش قتل مع كبار قادته ومقاتليه في ضربة نفذتها طائرة أميركية دون طيار في 26 يوليو (تموز) في منطقة كوت بإقليم ننكرهار الأفغاني».
وفي العراق وبعد مقتل أبو علي الأنباري، تلقى التنظيم الإرهابي أقوى ضربة له بمقتل «وزير الحرب»، في دولة البغدادي؛ وكانت وكالة «أعماق» التابعة للتنظيم قالت إن الشيشاني قتل في معركة بمدينة الشرقاط العراقية أثناء «مشاركته في صد الحملة العسكرية على مدينة الموصل». ولا تكمن أهمية الشيشاني في قربه الشديد من زعيم «دولة الخلافة» وما تولاه من مناصب عسكرية؛ بل تتعدى ذلك، لتعكس الدور الريادي الذي تلعبه القيادات غير العراقية والسورية داخل «داعش».
وعلى المحور الليبي تلقى التنظيم ضربة لا تقل قسوة من تلك التي أصيب بها مركزيا؛ حيث قتل محمد القذافي القيادي في الفرع الليبي لتنظيم داعش الذي يتزعم المحور الشرقي لمدينة سرت، خلال معركة مع «قوات البنيان المرصوص» في سرت يوم الثلاثاء 15 - 7 - 2016. والتي تهدف تحرير المدينة من قبضة التنظيم الإرهابي الذي يسيطر عليها منذ ما يقارب العام.
ورغم النجاح الكبير الذي أحرزته معارك هذه السنة ضد البغدادي في ليبيا وسوريا والعراق، فيجب التنبيه أن تنظيم البغدادي، يمتلك فرصا حقيقية للمناورة في المناطق الصحراوية خاصة، والتي تعتبر نقطة تشترك فيها الجغرافيا العراقية والليبية أساسا، بينما يجد صعوبة على الأراضي السورية. كما أن استمرار الصراع الداخلي بين مختلف الفرقاء السياسيين والعسكريين بليبيا، وسلبية التدخلات الأجنبية الإقليمية والدولية، ودورها البارز في استمرار فشل الدولة الليبية يزيد من قدرة «داعش» على المناورة وربما استرداد المبادرة عسكريا.
فالمعارك التي خاضتها بليبيا وانهزمت فيها، لم تؤدِّ لإضعاف التنظيم بشكل كبير، حيث استغلت ميلشياته فشل الدولة وشساعة الصحراء لتنقل بالمعدات العسكرية، باتجاه سرت والجنوب الشرقي، محافظة بذلك على مواردها البشرية. والتي يرى المركز الليبي لمتابعة الإرهاب، أنها تتكون من ليبيين، وبضعة آلاف من المقاتلين الأجانب، أغلبهم من تونس المجاورة، ويبلغ عددهم نحو 3200 مقاتل، ومن دولة مالي نحو699 فردا، والسودان 455 مقاتلا، ومصر المجاورة 111 مقاتلا، إضافة لجنسيات تشادية وموريتانية وأفريقية وخليجية أخرى. غير أنه يلاحظ استئثار الليبيين والتونسيين أساسا بقيادة التنظيم متبوعين بالمقاتلين المصريين.
لا يرتبط سقوط خلافة البغدادي بإضعاف تنظيمه الإرهابي، عبر محاصرته عسكريا، وقطع موارده المالية والبشرية؛ بل يرتبط أساسا بقدرة المنظومة الدولية على تطوير أساليب الصراعات الدولية، وسبل حلها توافقيا. ذلك أن ظهور تنظيم داعش، لا يفسر فقط تطور المجتمع العراقي وحالة فشل الدولة، وإنما يكشف أساليب الصراع الإقليمي والدولي وتناقضات مصالحه في منطقة الشرق الأوسط. هذا الوضع التناقضي والتقاطبي الدولي الإقليمي، استغله «داعش» وما زال ليتمدد، ويناور في جغرافية الحروب السياسية الممتدة من الشرق الأوسط لشمال أفريقيا؛ واستمرار التراجع الذي يشهده تنظيم البغدادي وخلافته المزعومة، يستوجب تطويرا سريعا لديناميات المساومات والتفاهمات الإقليمية السنية الشيعية، بقيادة المملكة العربية السعودية وتركيا، وإيران، والدولية بزعامة موسكو وواشنطن. وأي ضعف أو تراجع عن مسار التفاهمات هذه، يعني منح مزيد من فرص الحياة «لداعش»، وتمكينها من المناورة، وخلق دورة جديدة من موجات الإرهاب بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.