إسرائيل تصادر كافكا

طه حسين أول من عرّف بأعماله عربيًا مقارنًا بينه وبين المعري

كافكا  -  قبر كافكا في براغ
كافكا - قبر كافكا في براغ
TT

إسرائيل تصادر كافكا

كافكا  -  قبر كافكا في براغ
كافكا - قبر كافكا في براغ

قضت المحكمة العليا في إسرائيل قبل أيام بوجوب نقل مجموعة من الكتابات التي كتبها فرانز كافكا، بشكل دائم، إلى المكتبة الوطنية في إسرائيل، منهية بذلك معركة قانونية طويلة استمرت ثماني سنوات. وكان كافكا، الذي توفي بمرض السل في عام 1924في مدينة براغ، قد أوصى ماكس فرود بحرق كتاباته،، وطلب منه أن يحرقها. لكن برود لم يفعل. وعندما هرب الأخير من براغ لفلسطين في عام 1939، أخذ معه حقيبة مليئة بكتابات كافكا. وعند وفاته عام 1968 في تل أبيب، أصبحت الأوراق جزءا من الميراث الذي تركه لسكرتيرته، ولكن المحكمة العليا حكمت بأنها جزء من تراث إسرائيل بعد معركة قانونية استمرت ثماني سنوات

المقابر أكثر شاعرية من صالات الأفراح. هكذا قلت وأنا أفكر بزيارة قبر اليهودي التائه لأقرأ عنده بعضا من قصائد السوري رياض الصالح الحسين.
لنذهب باكرا إلى المقبرة، اقترحت رفيقتي وهي تنظر إلى الخريطة. إنها بعيدة في الدائرة السابعة من المدينة قريبة من الضواحي.
من مالسترنكا إلى جالفسبو سبع محطات في المترو الذي يودي إلى ضواحي براغ، أبنية متشابهة من العهد السابق، والمساكن الشيوعية التي بنتها الدولة، مسبقة الصنع، بشعة متشابهة وكأنها لا تخص براغ.
مائتا كراون ثمن باقة من الورود، ودخلنا في مهابة إلى المقبرة اليهودية المظللة بأشجار لبلاب عملاقة، على الباب مباشرة غرفة بتوسطها حارس المقبرة، رمقني بعينين «قزّازتين»، وقال: «إني لا أستطيع الدّخول حتى أرتدي القبعة اليهودية على رأسي»، يقصد تلك القلنسوة الزرقاء بنجمة سداسية، جعلت جسدي يقشعر. من المستحيل دخول المقبرة أو أي معبد أو مكان ديني يهودي دونها، علي ستر فروة شعري بينما يمكن لرفيقتي أن تدخل بشعر مفلوش ولا أحد يستوقفها، أرشدني إلى مكان وجود القلانيس الزرقاء بحزم، أخذت القلنوسة من الصّندوق الكبير في جوار الباب. ووقفت صامتا لا أعرف ماذا أفعل، ضاق تنفسي فجأة وشعرت أن علي الخروج من هذا المكان، وفعلا فعلت، اجتزت البوابة الكبيرة وصرت خارجا واقفا بذهول، وغضب ولا أعرف لماذا؟
أحمل القلنسوة بين يدي وأشعر أن هناك شيئًا غير عادل، لم يكن كافكا يوما متدينًا يهوديًا، وكان موقفه سلبيًا تمامًا من الصهيونية وتثير لديه الغثيان. ولكن قراءة كافكا المجيرة لمصلحة الصهيونية هي ببساطة تعني تصنيفه وقتله وصلبه. فهو القائل بوضوح لا يحمل أي ريب. ماذا يجمعني باليهود؟ لا أكاد أرى شيئًا يجمعني بنفسي.
«كافكا - كاتب يهودي من وجهة نظر عربية» كتاب صدر بالألمانية للباحث عاطف بطرس، وفيه يتناول المؤلف تاريخ استقبال أدب أحد أشهر الكتاب في العالم، كما يشرح خلفيات النقاش العربي الحاد الذي اندلع حول «صهيونية كافكا».
يسهب الكتاب في الأسباب التي جذبت أعمال فرانز كافكا المثقفين في المنطقة العربية منذ منتصف القرن العشرين. وكان أول من عرف القراء على أعماله باللغة العربية للدكتور طه حسين، وذلك في مقال صدر في منتصف الأربعينات، قارن فيه بين أجواء عالم كافكا والشاعر أبي العلاء المعري معتبرًا أن كلا الأديبين عاش عصرًا من الاضطراب والأزمات والفساد، وأن كليهما عاش متأرجحا بين اليأس والأمل.
طه حسين قرأ كافكا بوصفه كاتبًا كونيًا، متخلصًا من قصر النظر الذي يسعى للتصنيف والقتل الشخصي، وبالتالي إعدام المنتج سلفًا.
ووجد طه حسين في أعمال كافكا حقائق موجعة لكن لا يمكن إنكارها تتمثل في استحالة ربط الإنسان بالرب وعدم فهم الذنب البشري، وعدم معرفة مغزى الحياة، فالتشاؤم يحمي الناس من الكبر والغطرسة.
نشر طه حسين في مايو (أيار) 1933 في مجلة «نجم الشرق» مقالا بعنوان «الاحتقار» التي أجرى فيها سجالا مع آيديولوجية المذهب القومي الاشتراكي (النازي) المناهضة للفكر، ولقد نادى باحتجاجات دولية عقب حرق كتب الكتاب اليهود في برلين، وقام طه حسين بدعوة من يودا ماجنيس رئيس الجامعة العبرية بزيارة القدس عام 1943 (قبل قيام دولة الكيان)، وأظهر تعاطفًا كبيرًا مع مصير اليهود الذين قام النازيون بمطاردتهم وقتلهم. ويهمل الأدب العربي وكتاب السيرة ما فعله عميد الأدب التنويري، طه حسين حقا. ولكن دون أدنى شك كان لهذا الموقف الأثر الأكبر بفتح الثقافة العربية على أدب فرانز كافكا.
غير أن قصة ذات مستوى ضئيل من أدب كافكا اعتمدها البعض، لإدانته واعتباره كاتبا صهيونيا، هي قصة «بنو آوى وعرب».
قام بعض الكتّاب العرب بالمناداة بحظر كتب كافكا، وهناك كتاب عرب تمسكوا بكافكا بقوة بمنتجه، ولم ينتهِ السجال وليس آخره ما كتبه عاطف بطرس بالألمانية أنهى كتابه بالجملة الختامية من قصة كافكا «ورقة قديمة». هذا سوء فهم، سيؤدي بنا جميعا إلى الهلاك.
برسائل كافكا إلى خطيبته سيرد فيها إفصاح عن بعض رغباته بالذهاب للعمل في فلسطين، ولكنه لم يفعلها وتورد لديه جملة متناقضة، يقول فيها: «أنا معجب بالصهيونية، أنا مشمئز منها»، وهي جملة توضح التناقض برأيه حول الصهيونية كحركة تحررية في أوروبة، وحركة استعمارية في فلسطين. فهي كان لها خطابان مختلفان؛ واحد لنصرة اليهود في أوروبا الذين تعرضوا حقًا لأكبر لمأزق وجودي، والآخر كيف تحولت الصهيونية التحريرية في أوروبا إلى شبيه لمن تكافحه في فلسطين.
كل هذا خطر ببالي وأنا واقف أتأمل القلنسوة اليهودية. وأفكر بحجم الشرخ الحقيقي الذي صنعته الصهيونية، بين اليهود والعرب فعلاً. كانت كل الزيارة مهددة، وكل هذا التعب صار على المحك. لا يمكن لي أن أضع هذه الخوذة على الرأسي: قلت لرفيقتي.
كان رفضي حتميًا، فصورة المستوطنين في فلسطين، وهم يحملون رشاشات «العوزي»، ويتقلّسونها هي ما يرتبط في وجداني بهذه القلنسوة. هناك سوء فهم عميق تكرس وتجذر وشخصيًا أنا لا أستطيع البدء بالتفهم، تحت أي اسم لست مؤهلا نفسيا ولا عقليا لذلك. كان علينا أن نهدأ ونتوقف لنشرب بعضا من القهوة ونفكر ماذا يمكن أن نعمل؟ تذكرت فجأة أني قرأت في الموسوعة اليهودية فكرة قد تكون هي الحل.
كل ما في الأمر علي أن أضع قبعتي الرياضية على رأسي، وقد يمكنني المرور. يعني المهم تغطية الرأس، وليس مهما بقلنسوة زرقاء عليها نجمة سداسية أم لا.. وفعلاً أخرجت القبعة الرياضية من الحقيبة ووضعتها على رأسي، وشائنًا من جديد إلى المقبرة. دخلنا بهدوء، ودون النظر إليه مررت بجانب الحارس لم يحرك ساكنًا، كانت مقبرة عظيمة ذات مهابة لونها الأخضر من أغرب الألوان التي رأيتها في حياتي، قبورها عملاقة راسخة، نظيفة جميلة ومرتبة بعناية مدهشة. «المقبرة بتشهي الواحد يموت»، قلت لشريكتي في الرحلة هامسًا.
وصلنا إلى القطاع رقم 21 رقم حظي، بجوار السياج كان قبر فرانز كافكا يجثم هناك تحت سطح من الحصى الأبيض. بجواره قبر أبيه ومقابله قبر صديقه ماكس الذي له الفضل بإبقاء جزء كبير من تراث كافكا حيًا، إذ لم ينفذ طلبه بإحراق مخطوطاته.
هذه الأيام انتشر على وسائل الإعلام الخبر التالي: قضت المحكمة العليا في إسرائيل بوجوب نقل مجموعة من الكتابات التي كتبها الكاتب فرانز كافكا، بشكل دائم، إلى المكتبة الوطنية في إسرائيل، منهية بذلك معركة قانونية طويلة. وكان برود، المنفذ لوصية كافكا، تجاهل الوصية بالحرق، ونشر كثير من أعمال الكاتب، الذي كان يكتب بالألمانية.
عندما هرب ماكس برود من براغ إلى فلسطين في عام 1939، أخذ معه حقيبة مليئة بكتابات كافكا.
وعندما توفي برود عام 1968 في تل أبيب، كانت الأوراق جزءًا من الميراث الذي تركه لسكرتيرته استير هوف، التي أورثتها بدورها لابنتيها، إيفا هوف وروث فيسلر.
وأصرت الأختان المقيمتان في تل أبيب على الاحتفاظ بمجموعة واسعة من الوثائق النادرة، ولكن السلطات دفعت بأنها كانت جزءًا من تراث إسرائيل، ويجب أن تذهب إلى المكتبة الوطنية في القدس.
وبعد معركة قانونية استمرت ثماني سنوات، قضت المحكمة العليا أنه وفقًا لإرادته، لم يكن برود يرغب بأن يتم بيع ممتلكاته بأعلى سعر، ولكن أن تذهب تركته الأدبية إلى المكتبة الوطنية.
وكانت استير هوف باعت بالفعل مخطوطة عمل كافكا الأكثر شهرة «المحاكمة» مقابل مليوني دولار أميركي. واحتفظت العائلة بمعظم المجموعة في بنوك بإسرائيل وسويسرا.
في المقبرة أجد قبر ماكس برود يقابل قبر كافكا كأنه حارسه الأبدي.
ورائي جاء الحارس يسعى، ينظر إلينا بعينين مرتابتين، لم نأبه له، لم أكن على استعداد أن أفرط بقيمة تلك اللحظات بجوار القبر. وبينما انضم إلينا زائر آخر قادم من إنجلترا كان يرتدي قبعة، تشاركنا معا تلك اللحظات العالية من الصمت، تقاسمنا التأمل والنظر إلى القبر. وتبادلنا الابتسامات الودودة قبل أن يغادر بهدوء.
بقيت لأتمم مراسم الزيارة، رتبت باقة الزهر وأسندتها إلى كعب الشاهدة ثم بدأت بالقراءة بصوت جهوري مسموع جعل الحارس يأتي مرة أخرى لينظر إلي «شزرا مزرا»، ويتمتم ببضع كلمات ويمضي. تذكرت قصيدة لرياض الصالح الحسين:
لرجل مات
الخنجر في القلب
والابتسامة بين الشفتين
الرجل مات
الرجل يتنزه في قبره
ينظر إلى الأعلى
ينظر إلى الأسفل
ينظر حوله
لاشيء سوى التراب
لا شيء سوى القبضة اللامعة
للخنجر في صدره
يبتسم الرجل الميت
ويربت على قبضة الخنجر
الخنجر صديقه الوحيد
الخنجر
ذكرى عزيزة من الذين في الأعلى
وضعت رسالة رياض في قلب القبر، بين حجرين ثابتين، وانتقيت 12 حصاة بيضاء أخذتها تعويذة من المقام الجليل، سأقدم بعضها لمن يستحق حبَّ كافكا حين أعود. في حضرة القبر والمقبرة كان علي أن أسند ظهري لشاهدة القبر وأرقش انطباعاتي عن عوالمه. وأكتب كيف أراه وأحسه وأقرأه.. وأقول للعالم على الأقل هذه قراءتي. أعكر صفو عزلته الأبدية فهو الذي قال: لا أعتزلُ الناس لأنني أريد أن أعيش بِسلام، بل لأنني أريد أن أموت بِسلام.

* كاتب من سوريا



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي