من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»

من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»
TT

من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»

من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»

فشلت التجربة البائسة لأول قومية أوروبية مبنية على مفهوم الأممية المسيحية تحت شعار «إله واحد وإمبراطور واحد» فشلاً كاملاً، بسبب ظهور مفهوم الدولة الوطنية أو القومية المبنية على أساس شخص الملك وسيادته على أرضه. وكان ذلك منذ مطالع القرن الثالث عشر في إنجلترا، وتبعتها فرنسا ثم باقي الدول الأوروبية على مر القرون. ومن ثم قسمت أوروبا دولاً مستقلة ذات سيادة بشكل شبه كامل بحلول أواخر القرن السابع عشر، ولقد تابعنا في الأسبوع الماضي تطوّر هذه التجربة الأممية التي سعت الكنيسة الكاثوليكية إلى تطبيقها بكل قوة بالتعاون مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة في وسط أوروبا، رغم وجود الاختلاف في بعض الأحيان بين الكيانين.
ولقد لعبت حركة الإصلاح الديني (المسيحي) الدور الأكبر في هذا الإطار، إذ فتّتت القدرة السياسية للبابا والإمبراطورية على حد سواء، من خلال كسر احتكار الكنيسة لمفهوم تعاليم الدين، وهو ما أدى إلى ظهور حركة معارضة قوية عُرفت باسم «البروتستانتية»، حدّت من السلطة الروحية للبابا، ثم أضعفت «شرعية» المفهوم القومي للأممية الأوروبية ضمن أمور سياسية أخرى. وكانت الحصيلة اندلاع أول حرب أوروبية شبه شاملة في القارة، هي تلك التي عُرفت بـ«حرب الثلاثين سنة»، التي انتهت باتفاقية «صلح وستفاليا» عام 1648. هذه الاتفاقية أقرت مبدأ سيادة الدول، وأن لا سلطة أعلى من الحاكم، أي سيادة الأخير على أراضيه على أساس مبدأ «الرعية على دين ملوكهم» Cuius regio، eius religio.
وهكذا خرجت أوروبا من مفهوم «الأممية» إلى مفهوم «القومية»، أو «الوطنية القُطرية»، وأصبح حلم القومية الأوروبية على أساس أممي مسيحي غير مطروح من الأساس، بل العكس هو الصحيح، إذ سعت القوى الكبرى إلى محاولة الهيمنة على النظام الإقليمي الأوروبي، مما أدخل القارة في حروب ضروس لا حصر لها منذ ذلك التاريخ وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولكن على الرغم من كل هذه التطورات، حتى أثناء الحروب الدائرة في القارة الأوروبية، كانت هناك أصوات فكرية تنادي بمفهوم «الهوية الأوروبية»، ليس على أساس مفهوم أممي فوقي يُفرض على أوروبا من قبل سلطة دينية متعاونة مع أخرى سياسية، ولكن على أساس البُعدين الثقافي والحضاري للقارة الأوروبية المرتبط بمفهوم «الغرب» (West) ودور أوروبا في صناعته. إذ إن الولايات المتحدة لم تكن خلال هذه الفترة التاريخية قد تطوّرت بعد، بل إن البعض قد يستغرب بشكل كبير أن المسيحية لعبت دورًا محوريًا في تطور هذا المفهوم الأوروبي الجديد، ولكن هذه المرة ليس على أساس سلطة الكنيسة، بل النسيج الثقافي الموحد لغرب أوروبا، باعتباره القاسم المشترك الذي يمكن معه تطوير فكرة أوروبا. والواقع أن دول القارة وإن لم تتكلّم لغة موحدة، فإنها تأثرت تأثرًا كبيرًا بعدد من القواسم المشتركة على رأسها الأصول اللاتينية والهيلينية التي بُنيت عليها، الأولى من خلال القانون الروماني الشهير، والثانية من خلال تطوير الأسس الفكرية اليونانية القديمة على النحو الذي صار واضحًا بعد ذلك.
وعلى الرغم من اندلاع الحروب الأوروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن بعض المفكّرين، من أمثال فولتير (فرنسوا ماري آرويه) وإدموند بورك وغيرهما، لعبوا دورًا هامًا في صياغة الفكر السياسي الأوروبي. ويلاحظ أن فكرة القومية الأوروبية بدأت تظهر مرة أخرى تدريجيًا على أسس مختلفة عن فكرة الأممية المسيحية، إذ بدأ هؤلاء يطورون تدريجيًا فكرة «الأمة الأوروبية» ويركّزون على المفهوم القومي، مستخدمين المسيحية مصدرًا للبعد الثقافي والإنساني المشترك بين الشعوب الأوروبية، ولكن دون السعي في جعل هذه القومية مشروعًا دينيًا. فعليًا، طلّقت أوروبا الدين من السياسة فكريًا، ثم عمليًا في مرحلة تاريخية لاحقة، ونادى المسيحي الشهير ويليام بن (Penn) بفكرة البرلمان الأوروبي المشترك على أساس وجود أسس مشتركة فرضتها المسيحية على كل معتنقيها في أوروبا. ولعل من المفارقات في هذا الصدد أن «البرلمان الأوروبي»، الذي أصبح يمثل آخر مراحل التكوين القومي للاتحاد الأوروبي، لم يأخذ نصيبه من السلطات السياسية إلا بعد أكثر 4 عقود من نشأة مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
الكاتب الفرنسي الشهير فولتير ركّز على فكرة القومية الأوروبية من خلال وصفه القارة الأوروبية بأنها «جمهورية كبيرة مقسّمة إلى مجموعة دول، إما ملكية أو مختلطة لها جميعًا نفس الأسس الدينية. وهي حتى إن انقسمت إلى مذاهب مختلفة، فهي جميعًا لها نفس مبادئ القانون والسياسة المعروفة لدى الدول الأخرى». وتبعه الكاتب الفرنسي الشهير جان جاك روسو بالتأكيد على أنه لم يعد هناك فرنسي أو إنجليزي أو هولندي.. فقط أوروبي، وحتى رائد الفكر المحافظ «بورك»، أكد أنه لا يمكن لأوروبي أن يكون معزولاً في أي بقعة في أوروبا.
وهكذا انتشرت فكرة «الهوية أو القومية الأوروبية» دون وضع إطار محدد لنشأتها، سواء جغرافيًا أو سياسيًا أو ثقافيًا. فالبعد الجغرافي ظل يداعب الحلم القومي الأوروبي بشكل واضح، خصوصًا بعد ظهور الدولة الروسية القوية ودفع قادتها منذ القيصر بطرس الأكبر إلى القيصرة كاترينا الكبرى بالهوية الأوروبية لهذه الدولة، التي تناقضت بعض الشيء مع الهوية السلافية/ الأرثوذكسية لها. ومع ذلك اعتنق كثير من المفكرين المفهوم السائد والمعروف بمحور الأطلسي - الأورال، أي من المحيط الأطلسي إلى سلاسل جبال الأورال شرقًا، واعتبر حفنة من المفكرين روسيا امتدادًا طبيعيًا لهذا المشروع، بينما رفضه آخرون.
أما من الناحية الثقافية، فإن أي مفكر لم يخلط الواقع بالفكرة. إذ اعتبر الجميع أن أوروبا يمكن صناعتها على الأسس المشتركة المبنية على الهوية المسيحية والقانون الروماني والروح الهيلينية لتمييزها عن الباقي، فقد عبّر الأديب البريطاني الأميركي الشهير ت. إس. إيليوت عن هذا من خلال وصفه الثقافة على اعتبارها «شيئًا حيًا، مثل الشجرة التي لا يمكن بناؤها، ولكن يمكن وضع بذرتها وريها ورعايتها لتصبح شجرة مع مرور الوقت». ووصف المسيحية في أوروبا على أنها الأساس الثقافي وتحتها روافدها المختلفة.
وعلى الرغم من هذا، فإن مفهوم «القومية الأوروبية» دخل في منحنى خطير للغاية على الأقل فكريًا مع دخول القرن العشرين. ذلك أن الأساس المسيحي للآليات الاجتماعية المشتركة بين الشعوب الأوروبية بدأ يهتز بقوة، بسبب ظهور آيديولوجيات جديدة هي النازية والفاشية والشيوعية. وهي ثلاث آيديولوجيات لم تأبه كثيرًا بالهوية الأوروبية أو الهوية المسيحية، خصوصًا الشيوعية التي أعلن مؤسسها صراحة «أن الدين أفيون الشعوب»، وهو ما بات يهدد الإرث والمخزون الثقافي المسيحي داخل القارة الأوروبية ويفتح المجال أمام التكامل أو التوحّد الأوروبي على أساس طبقي مرتبط بالطبقة العاملة أو البروليتاريا.
كذلك لوحظ ظهور رصيد من الأفكار غير المرتبطة بالأساس الثقافي للمسيحية، وعلى الرغم من طرح البعض في فترة ما بين الحربين العالميتين مشروع القومية الأوروبية على أساس أنه المشروع الواقي للقارة الأوروبية من الحروب المدمرة، فإن قوة السلاح ودخان الحروب وبروز الآيديولوجيات الثلاث ترك المنادين بهذا الفكر على هامش الواقع، وبالأخص، مع دخول الحرب العالمية الثانية وبروز الدول السلطوية المرتبطة بالفاشية والنازية. عند هذا الحد فقط أصبحت الأرض ممهدة لفكرة «القومية الأوروبية»، لا سيما أن أوروبا شهدت من الدمار ما لم تشهده في تاريخها الحديث أو القديم، وأصبحت اقتصاداتها في حالة يرثى لها وبنيتها الأساسية شبه منتهية.
واقع الأمر أن أشباح الحروب الكبرى ولّدت قناعة أوروبية بأن الماضي لا يمكن تكراره، ومن ثم ضرورة استشراق مستقبل مبني على فكر جديد يقي القارة الأوروبية ويلات تكرار الحروب، وحقًا وجد الأوروبيون في «القومية الأوروبية» والتكامل الاقتصادي بينهم الضمان الوحيد للسلام. ولكن مشروع الاتحاد الأوروبي لم يكن له خريطة فكرية واضحة المعالم وقوية البنيان وقت انطلاقه، بعكس يومنا هذا الذي تنتشر فيه الرؤى المختلفة في علم التكامل الدولي والإقليمي في العلاقات الدولية والاقتصادية، منها «المدرسة الوظيفية» (Functionalism)، و«الوظيفية الجديدة» (Neo - Functionalism)، ونظرية «المجتمعات الآمنة» (Security Community)، إلخ... وكلها بنيت على خلفية الاتحاد الأوروبي، وأصبحت في أغلبها لاحقة للفكرة وليست سابقة لها، وذلك على عكس الفكر القومي العربي على سبيل المثال، ولكن لهذا الأمر حديث آخر بعد أن نتفقد نشأة وتطور الاتحاد الأوروبي.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».