حلب.. شهادة بين الحصار ومعركة فك الحصار عنها

«الأسد أو نحرق البلد» مكتوبة على جدار إحدى الغرف التي حررت من النظام

مقاتل من المعارضة في معركة الراموسة التي انطلقت بحلب يوم 6 أغسطس لفك الحصار عن المناطق الشرقية فيها («الشرق الأوسط»)
مقاتل من المعارضة في معركة الراموسة التي انطلقت بحلب يوم 6 أغسطس لفك الحصار عن المناطق الشرقية فيها («الشرق الأوسط»)
TT

حلب.. شهادة بين الحصار ومعركة فك الحصار عنها

مقاتل من المعارضة في معركة الراموسة التي انطلقت بحلب يوم 6 أغسطس لفك الحصار عن المناطق الشرقية فيها («الشرق الأوسط»)
مقاتل من المعارضة في معركة الراموسة التي انطلقت بحلب يوم 6 أغسطس لفك الحصار عن المناطق الشرقية فيها («الشرق الأوسط»)

يقفز «البيك آب» إلى الأعلى ثم يعود إلى الأرض، ويميل بنا السائق محمد أبو الشيخ يمنة ويسرة لتفادي الحفر الناتجة عن القصف الجوي، قلبي يزداد خفقانًا كلما اقتربنا من حي الراموسة؛ آخر المناطق المتبقية لفك الحصار عن الأحياء المحررة في حلب. كان ذلك يوم يوم 6 أغسطس (آب)، حيث انطلقت المرحلة الثالثة من المعركة.
ترتفع أصوات الاشتباكات كلما اقتربنا أكثر، ولا أستطيع تخمين أين نحن بالتحديد؟ فكل شيء أراه من النافذة عبارة عن خيوط أفقية؛ تنقطع مرات ثم ما تلبث أن تعود، يرفع «أبو الشيخ» صوت المسجل، «جبينك عالي وما بينطال يا هالجيش السوري الحر» تقول الأغنية؛ فيصدح بها كل من في «البيك آب»، شعورٌ غريب يجمع بين القلق، والفرح، والحماسة.
نصل حي الراموسة، لقد محيت معالمه تمامًا بعد أن تحول إلى جبهة قتال منذ دخول الجيش الحر إلى مدينة حلب في يوليو (تموز) 2012، فيدخلنا «أبو الشيخ» في متاهة؛ خنادق وممرات وسط المعامل المدمرة.
ننزل من «البيك آب»؛ أنا، و«فادي»، و«أبو الشيخ»، و«خليل» وووو.. ولا أدري كيف وسعنا داخله! ثم ارتدي الدرع الذي كتب عليه «PRESS»، وندخل في صالة كبيرة تحت الأرض ترتاح فيها عناصر من الجيش الحر، ويغط بعضهم في نوم عميق؛ وكأنهم لا يسمعون الانفجارات العنيفة التي تهز المكان. يعصب جميع المقاتلين رؤوسهم بشارة قريبة إلى اللون البرتقالي؛ إنها ضرورية في المعركة لتمييز الأصدقاء عن الأعداء، وترتسم على وجوههم ابتسامة خفيفة، ويرفعون إشارة النصر؛ كلما اقترب منهم «فادي» ليلتقط صورة.
المعركة كانت قد بدأت قبل ثلاث ساعات من وصولنا، انهارت الخطوط الدفاعية الأولى لقوات الأسد وأحرز الجيش الحر تقدمًا واسعًا، لا نستطيع الذهاب لخطوط الاشتباك المتقدمة؛ حتى لا ندخل مباني ترصدها النيران، وينبغي أن يرشدنا مقاتل خاض هذه المعركة إلى الطريق.
أثناء انتظارنا، أتأمل وجوه عناصر الجيش الحر التي يعلوها التفاؤل، وأتكئ على الحائط الذي كُتب عليه «يسقط الأسد.. عاشت سوريا حرة»؛ لتعود الذاكرة بي أيامًا إلى الوراء؛ عندما كانت وجوه جميع المحاصرين خائفة ومترقبة. في ذلك اليوم، بدت قوات الأسد، وقوات حلفائه: روسيا، وإيران، و«حزب الله» منتصرة في حلب، لا سيما عندما سيطرت على حيي «بني زيد» و«الليرمون» شمال حلب، فأطبق الحصار على الأحياء المحررة تمامًا. وبدأنا حينها - أنا ورفاقي - بالتفكير جديًّا في اتخاذ خطوات للتأقلم مع الحصار؛ الذي ربما قد يطول كثيرًا. تمكنت قوات النظام من حصار الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة، في 7 يوليو، ومنذ ذلك الحين بات دخول عربة خضار أو صهريج وقود أمرًا يستحق الاحتفال، الدخول إلى حلب كان أشبه بمحاولة انتحار، لكن بعد مضي أيام قليلة بات أمرًا مستحيلاً تمامًا. الخضراوات وكثير من المواد الغذائية بدأت بالنفاد من الأسواق، ماذا عسانا أن نفعل لمواجهة شبح الحصار؟ «خلونا نزرع».. جاءت الإجابة سريعة من صديقي «شامل». لكن أين نزرع؟ «في الطابق الأرضي هناك حوض للأزهار، نقلعها ونزرع مكانها؛ الكوسا والبندورة والخيار»، لم يكن باقي أصدقائي متحمسين للفكرة؛ فقد كانت قوتنا وعزيمتنا خائرتين تمامًا؛ فتقدم النظام جعل معنوياتنا في الحضيض.
لا خيار آخر؛ إما أن تزرع وتعمل، وإما أن تتضور جوعًا إذا ما استمر الحصار، استجمعنا قوانا في صبيحة اليوم التالي ونزلنا جميعًا للعمل.
حوض الأزهار كان تحفة نادرة، تفوح الروائح الجميلة من شجرتي «الغاردينيا» والياسمين؛ لكن هذا الجمال لا يقوى على مواجهة شبح الحصار، أو بالأحرى شبح الجوع؛ فقلعناها جميعًا، لكن وقبل أن نبدأ بالزراعة، سبقنا «جيش الفتح»، وفصائل أخرى معه في بدء معركة فك الحصار عن حلب في 31 يوليو.
دخول «جيش الفتح» إلى جانب «فيلق الشام» قلب موازين المعركة؛ فقد تمكنا في مارس (آذار) 2015 من تحرير محافظة إدلب بكامل ثكناتها العسكرية، وجبالها التي استعصت لفترة طويلة. في اليوم الأول للمعركة 31 يوليو، تمكنت الفصائل من تحرير تَلَّتَي «مؤتة» و«أحد»، و«مشروع 1070» التابع لحي الحمدانية جنوب حلب؛ هذا التقدم كان كفيلاً برفع معنويات المحاصرين إلى السماء.. لم أتمكن من النوم تلك الليلة؛ ليس بسبب أصوات الانفجارات، بل بانتظار أخبار التحرير. في صبيحة اليوم الثاني؛ كانت سماء حلب ملبدة بغيمة سوداء، المدنيون يساعدون الثوار لحجب الرؤية عن الطيران، من خلال إشعال إطارات السيارات. الجوامع كلها تكبّر. ومع حلول العصر تبدأ المعارك؛ لتختفي الحركة من الشوارع؛ ليس بسبب القصف فقط؛ فشغف متابعة أخبار المعركة يتملك الجميع هنا.
خمسة أيام، أحرز الثوار خلالها تقدمًا واسعًا، فاق التوقعات: «كلية المدفعية»، «تل المحروقات»، «قرية العامرية»، وغيرها باتت مناطق محررة. تبقى تحرير «حي الراموسة»؛ ليفك الحصار عن حلب، لكن الدور هنا كان من نصيب الثوار المحاصرين داخل حلب.
تنتشلني صرخات «أبو الشيخ» من بحر خيالاتي: «يلا بسرعة.. بسرعة»، فقد أتى مقاتل لجلب المياه وسيعود للمعركة، نتبعه؛ ندخل أحد الأنفاق، ونركض عندما نعبر منطقة مكشوفة، ونصل نقاط قوات النظام التي حُرِّرَتْ قبل ساعات. «الأسد أو نحرق البلد»، كانت مكتوبة وسط إحدى الغرف، وتحتها كومة من علب «المتة» وبدلات عسكرية.
أنبطح كلما سمعت صوت «شخرة» صاروخ «الفيل» عند انطلاقه، أو صوت قذيفة تشق طريقها في السماء، بحسب الفيزياء: القذيفة التي تصيبك لا تسمع صوتها؛ فهي أسرع من صوتها؛ لكن هذه القاعدة لا تقنع أفعالي اللاإرادية، إلا أنني في النهاية سلمت أمري للقدر.
على الخط الأول، يجتمع مجموعة من القادة الميدانيين يضعون خريطة أمامهم، «السيطرة على الفرن ومبنى البلدية تعني وصولنا إلى (جيش الفتح) في الطرف الآخر، وفك الحصار»، يضعون خطة سريعة، ومن ثم ينقسم المقاتلون إلى ثلاث مجموعات؛ كل مجموعة تذهب لاقتحام محور مختلف.
يطلق «معيوف أبو بحر» القيادي في الجيش الحر، قذيفة «آر بي جي»؛ معلنًا بدء الهجوم، وتتعالى صيحات التكبير، فيتبعه نحو عشرة اقتحاميين للهجوم على مبنى يرصد طريق الثوار، إلى «كلية التسليح»، حيث «جيش الفتح». تحتدم الاشتباكات، وأرى الرصاص على شكل خطوط حمراء؛ تعبر فوقنا لترتطم بالمبنى المجاور، يوثق «فادي» بكاميراته المعركة لحظة بلحظة، ونظل متابعين للتطورات من خلال أجهزة اللاسلكي، بينما تقصف الطائرات الروسية الخطوط الخلفية للاشتباك.
أقل من نصف ساعة مرت؛ ليعلن أحدهم عبر اللاسلكي: «الفرن صديق، البلدية صديق»، لم أصدق هذا الخبر؛ فهو لا يعني سوى شيء واحد؛ أن الحصار عن حلب قد كُسِر!
بعد دقائق يصرخ أحدهم عبر اللاسلكي؛ وهو يتلعثم بالكلام، فهمت مما قاله بصعوبة: «التقى الجيشان!»؛ أي الجيش الحر وجيش الفتح!! الكلمات تعجز هنا عن وصف شعورنا، وشعور من حولنا من المقاتلين، فرحة عارمة لم أشعر بمثلها في حياتي قط، يتبادل المقاتلون العناق، ويسجدون شكرًا لله، لا أدري كيف جاء أحدهم بعلبة من الحلويات العربية، وراح يوزعها على كل من يراه. فُكَّ الحصار عن أحياء حلب المحررة، قبل أن يتم الحصار شهره الأول، وانتهت معاناة ومخاوف 350 ألف مدني، المعركة لم تنته هنا، فمرحلة جديدة من المعركة قد بدأت، والهدف تحرير ما تبقى من حلب، ليست معركة سهلة، فإن النظام وحلفاءه لن يستغنوا عن العاصمة الاقتصادية بسهولة.. أعدكم بالكتابة عن تفاصيلها إن كان بالعمر بقية.



​تنسيق عربي - أميركي لحلحلة الأزمة السودانية

شاحنة تحمل مسلحين سودانيين تابعين للجيش يوم الاثنين في ولاية القضارف شرق البلاد (أ.ف.ب)
شاحنة تحمل مسلحين سودانيين تابعين للجيش يوم الاثنين في ولاية القضارف شرق البلاد (أ.ف.ب)
TT

​تنسيق عربي - أميركي لحلحلة الأزمة السودانية

شاحنة تحمل مسلحين سودانيين تابعين للجيش يوم الاثنين في ولاية القضارف شرق البلاد (أ.ف.ب)
شاحنة تحمل مسلحين سودانيين تابعين للجيش يوم الاثنين في ولاية القضارف شرق البلاد (أ.ف.ب)

كشف مصدر مصري مسؤول لـ«الشرق الأوسط» عن جهود عربية - أميركية جديدة لدفع جهود التهدئة في السودان. وقال المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إن دول «السعودية ومصر والإمارات تعمل مع الولايات المتحدة، على التنسيق على أمل حلحلة الأزمة السودانية».

وأفاد المصدر المصري بأن «اجتماعاً ضم مسؤولين من الدول الأربع، استضافته السعودية نهاية الأسبوع الماضي، ناقش دفع الجهود المشتركة؛ لتحقيق انفراجة بالأزمة».

وسبق أن شاركت الدول الأربع في اجتماعات «جنيف»، التي دعت لها واشنطن لإنهاء الحرب بالسودان، منتصف أغسطس (آب) الماضي، إلى جانب ممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، غير أنها لم تحقق تقدماً، في ظل مقاطعة الحكومة السودانية المحادثات.

غير أن المصدر المصري، قال إن «اجتماع السعودية، الذي عقد يومي الخميس والجمعة الماضيين (ليس امتداداً لمبادرة جنيف)، وإن الآلية الرباعية الحالية هي للدول صاحبة التأثير في المشهد السوداني، وتستهدف دفع الحلول السلمية للأزمة». ورجح المصدر «انعقاد اجتماعات أخرى؛ لدفع جهود الدول الأربع، نحو وقف الحرب، وإيصال المساعدات الإغاثية للمتضررين منها».

صورة جماعية بختام اجتماعات جنيف حول السودان في أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

ويشهد السودان منذ أبريل (نيسان) 2023 حرباً داخلية، بين الجيش السوداني، و«قوات الدعم السريع»، راح ضحيتها آلاف المدنيين، ودفعت «ما يفوق 10 ملايين سوداني للفرار داخلياً وخارجياً لدول الجوار»، حسب تقديرات الأمم المتحدة.

وعقب اندلاع الحرب، استضافت مدينة جدة العام الماضي، بمبادرة سعودية - أميركية، محادثات بين الجيش السوداني، و«قوات الدعم السريع»، أفضت إلى توقيع «إعلان جدة الإنساني»، الذي نصّ على حماية المدنيين، والمرافق الخاصة والعامة، والامتناع عن استخدامها لأغراض عسكرية. وتتمسك الحكومة السودانية بتنفيذ مخرجات «اتفاق جدة»، قبل الانخراط في أي مفاوضات مباشرة مع «قوات الدعم السريع».

توحيد الجهود

وترى مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفيرة منى عمر، أن «توحيد جهود الأطراف الدولية الفاعلة في الأزمة السودانية، سيسهم في تحريك حلول وقف إطلاق النار»، موضحة: «أدى تضارب الرؤى والمسارات الدولية، بسبب كثرة المبادرات والتدخلات التي خرجت من دول أفريقية وإقليمية ودولية، إلى إضعاف أي تحركات لوقف الحرب السودانية».

وقالت لـ«الشرق الأوسط»، إن «التنسيق الرباعي بين مصر والإمارات والسعودية والولايات المتحدة، سيسهم في دفع جهود إيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب على الأقل بصورة أكثر فاعلية»، مشيرة إلى أن «هناك مناطق مثل الفاشر في دارفور وولاية الجزيرة، تعاني من أوضاع إنسانية مأساوية».

ودعت إلى ضرورة تركيز تحرك الرباعي الدولي على «جهود وقف إطلاق النار، وأعمال الإغاثة، وصياغة خريطة طريق سياسية، تنهي الأزمة السودانية».

سودانيون يتلقون العلاج في مستشفى ميداني أقيم بمدينة أدري التشادية المحاذية للحدود مع السودان أغسطس 2023 (أ.ف.ب)

ويواجه السودان «واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية حالياً»، حسب تقديرات الأمم المتحدة، وأشار مدير عام منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم، إلى أن «أكثر من نصف سكان السودان، يواجه خطر المجاعة والكوارث الطبيعية، مما يؤدي لانتشار الأوبئة»، وخلال زيارته لمدينة بورتسودان، في سبتمبر (أيلول) الماضي، شدّد على أن «الأزمة الإنسانية بالسودان، لا تجد اهتماماً كافياً دولياً».

دول مؤثرة

وباعتقاد الباحث السياسي السوداني المقيم في مصر، صلاح خليل، فإن «تشكيل رباعية من الدول صاحبة التأثير في الساحة السودانية، قد يحرك مسار الحلول السلمية، وتفعيل مسار جدة»، مشيراً إلى أن «توحيد جهود هذه الأطراف، سيسهم في تغيير مسار الأزمة السودانية»، منوهاً بأن «الدول الأربع تؤيد العودة لمسار جدة».

ورجح خليل، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، مشاركة الحكومة السودانية في مسار مفاوضات «الآلية الرباعية حال العودة إلى مسار جدة، ولن تقاطعه كما فعلت في مبادرة جنيف».

وأشار إلى أن «فوز المرشح الجمهوري دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية، قد يغير من معادلة التأثير الدولي في الحرب داخل السودان».

وكان السفير السوداني في القاهرة عماد الدين عدوي، شدّد على «تمسك بلاده بمسار جدة، بوصفه آلية للتفاوض لوقف الحرب»، وقال في ندوة استضافتها نقابة الصحافيين المصرية نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إن «بلاده ترفض المشاركة في أي مبادرة أفريقية، إلا بعد عودة عضوية السودان للاتحاد الأفريقي».