كنوج.. عاصمة صناعة العطور في الهند منذ 5 آلاف سنة

250 معملاً تعمل منذ العصور الوسطى بالطريقة والمعدات نفسها

تعبأ العطور بعد تقطيرها في أوعية من جلد الجاموس - تستخدم أفخر أنواع القوارير - عطر ميتي - عطور خالية من الكحول
تعبأ العطور بعد تقطيرها في أوعية من جلد الجاموس - تستخدم أفخر أنواع القوارير - عطر ميتي - عطور خالية من الكحول
TT

كنوج.. عاصمة صناعة العطور في الهند منذ 5 آلاف سنة

تعبأ العطور بعد تقطيرها في أوعية من جلد الجاموس - تستخدم أفخر أنواع القوارير - عطر ميتي - عطور خالية من الكحول
تعبأ العطور بعد تقطيرها في أوعية من جلد الجاموس - تستخدم أفخر أنواع القوارير - عطر ميتي - عطور خالية من الكحول

تعد مدينة كنوج بولاية أوتار براديش الهندية مركزًا تاريخيًا لصناعة العطور من شتى أنواع الأزهار والأعشاب منذ ما يزيد على 5 آلاف سنة؛ تحديدًا عصر حضارة وادي السند.
وتتميز كنوج داخل الهند بمكانة تكافئ تلك الخاصة بمدينة غراس بفرنسا، بمعنى أنها عاصمة العطور على مستوى البلاد.
اليوم، إذا ما سرت عبر شوارع المدينة، سيكون بمقدورك رؤية واجهات دور إنتاج العطور المتداعية التي يعود تاريخها إلى قرون مضت التي تضفي على المدينة بأسرها صبغة مميزة تحمل عبق العصور الوسطى. بصورة إجمالية، تضم كنوج أكثر من 250 معملا لإنتاج العطور، ويبدو أن المدينة بأكملها تشترك بصورة أو بأخرى في عملية صناعة العطر.
وداخل سوق فيجاي، التي تغلب عليها حالة فوضوية، تنهمك الأيدي والأنوف في مزج عناصر نادرة وفريدة لصناعة عطور مميزة، في الوقت الذي ينشغل فيه آخرون في ترتيب أكوام من الزهور والأعشاب بهدف استخدامها في إنتاج مثل هذه الروائح المتميزة التي ربما لا يوجد لها مثيل على سطح الكوكب بأكمله.
ومع تنقلك عبر جنبات السوق، يحرص أصحاب المتاجر على الخروج للترحيب بك عبر إلقاء قطرات خفيفة عليك من مختلف أنواع الروائح والعطور: الياسمين والورد وتشامباك وكيوره وثلاثة أنواع مختلفة من اللوتس والخولنجان وغاردينيا وبلوميريا واللافندر وروزماري والغرنوقي، وكثير من النباتات الأخرى التي ربما لم تسمع بها قط. واللافت أن كثيرا من العطور التي تنتجها المدينة لم يطرأ عليها أدنى تغيير عما كانت عليه في الحقبة المغولية.

تاريخ العطور
من المعتقد أن كنوج كانت تقع مباشرة على الطرق التي جرت العادة على استخدامها في نقل العطور والتوابل والمعادن والحرير والأحجار الكريمة من الهند إلى الصين والشرق الأوسط. كانت المدينة قد بلغت ذروة مجدها وتألقها خلال القرن السابع الميلادي عندما أصبحت عاصمة للإمبراطورية التي قادها هارشا فاردهان. وفي تلك الفترة، بدأت في الاضطلاع بدور مهم في عالم صناعة العطور. ولاحقًا، شجع المغول على صناعة العطور، لدرجة دفعت الإمبراطور «أكبر» لاستحداث وزارة مخصصة لهذه الصناعة.
من جهتها، أوضحت قمر علام علي، التي تتولى إدارة مؤسسة «أزام علي علام علي للعطور»: «تملك العطور القدرة على التأثير على الذهن وتجديد نشاطه. وقد ورد ذكر العطور الطبيعية (الخالية من الكحول) في القرآن الكريم. كما أن عبقها الساحر يساعد في جعل المكان مناسبًا لإقامة الصلاة».
يذكر أن قمر متزوجة منذ أربعة عقود من شخص ينتمي لعائلة تعمل بمجال صناعة العطور، وتعد بمثابة موسوعة بشرية بمجال العطور وأسرار صناعتها، وقد أشارت إلى أن وصفات إعداد العطور العتيقة لا تزال من الأسرار التي يحرص جميع أفراد العائلة على التكتم عليها. وقد توارثت الأجيال واحدًا بعد الآخر مهارة صناعة العطور ومزجها.
من ناحية أخرى، فإن الغالبية العظمى من المقيمين في كنوج يرتبطون بصورة أو بأخرى بصناعة العطور؛ بدءًا من الحرفيين الذين يتولون تسخين الأوراق التويجية للزهور والورود على البخار فوق نيران متصاعدة من خشب محترق، داخل أوان نحاسية ضخمة، وصولاً إلى الأمهات اللائي يقمن بلف عصي البخور في الظل، بينما يستلقي أطفالهن بالجوار.
وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، قال شاكي فيناي شوكلا، مدير المركز الهندي لتنمية العطور والنكهات: «لا يزال يجري إنتاج عطور كنوج بنفس الأسلوب تمامًا الذي كان متبعًا منذ قرون، بل وبالمعدات ذاتها».
والملاحظ بالفعل أنه لم يطرأ أدنى تغيير على صناعة العطور منذ قرون ماضية، خصوصا أن جميع المحاولات للاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة في صناعة العطور داخل المدينة باءت بالفشل. كما أن «ديغ بهبكاس» (الأواني المستخدمة في صنع العطور) داخل كنوج تتميز بالتصميم نفسه الذي جرى استخدامه في حضارة وادي السند.
يذكر أنه جرى التنقيب والكشف عن كثير من أجهزة التقطير المستخدمة في صناعة العطور والمنتمية لحقبة حضارة وادي السند بمواقع تقع داخل الأراضي الباكستانية الآن، ومحفوظة حاليًا في متحف تاكسيلا بمدينة لاهور الباكستانية.

العملية
عندما تصل كمية جديدة من الزهور، يضع العاملون كميات ضخمة من الورود أو الياسمين أو الأوراق التويجية الأخرى في أوعية ضخمة، ويغمرونها بالماء، ثم يضعون غطاءً على رأس الإناء، ويحكمون إغلاقه بالطين. بعد ذلك، يشعلون مجموعة من الأخشاب أسفل القدر، ويضيفون إلى الوعاء زيت خشب الصندل الذي يعمل أساسا للعطور. ينقسم الوعاء إلى جزأين عبر أنبوب مجوف من خشب الخيزران، ويعمل الأنبوب على نقل البخار المتصاعد من الجزء الكبير من الوعاء الذي يضم الأزهار أو الورود لينقلها إلى جزء آخر يضم زيت خشب الصندل. وبوجه عام، تتطلب عملية صناعة العطور قدرا كبيرا من الصبر والمهارة، خصوصا أن النباتات عادة ما يجري تقطيرها في آنية نحاسية ضخمة يجري تسخينها فوق نار تتصاعد من أخشاب محترقة.
ويسهم مزيج الخشب والمعدن في إضافة رائحة مميزة إلى العطر، تصعب محاكاتها عبر استخدام الآلات الحديثة.

عطر الورد الشهير
ورد ذكر صناعة العطور في السيرة الذاتية للإمبراطور المغولي «أكبر»، التي وضعها أبو الفضل، وجرى اكتشافها حديثًا بمحض الصدفة. كان أحد الخدم في قصر الإمبراطور المغولي قد لاحظ وجود بعض قطرات من زيت الورد تطفو فوق السطح داخل حوض استحمام الملكة. وخلص الرجل، وكان من كنوج، إلى أن الزيت ينشأ عن اتصال الأوراق التويجية للوردة مع الماء الدافئ، ونجح في صياغة تصور لعملية التبخير والتكثيف لاستخراج هذا الزيت.
وحتى اليوم، فإنه من أجل استخراج رائحة «روح القلوب» الشهيرة، يجري التقاط براعم الورود يدويًا قبل الفجر ووضعها في إناء ضخم مفتوح. وتستغرق عملية استخراج الزيت من طن واحد من الورود ما يزيد على الشهر ولا توفر سوى بضعة ملليغرامات قليلة من الزيت.
وعن هذا، قالت قمر: «يقال إن كل نقطة من هذا الزيت تعادل وزنها ذهبًا»، مشيرة إلى أن بعض الشخصيات من منطقة الشرق الأوسط تطلب من شركة «باكارا كريستال» الفرنسية المعنية بإنتاج الأواني الكريستالية الفاخرة، توفير زجاجات جميلة لتخزين العطر.
من جانبه، ينتج فيجاي فيرغيا، الذي يعمل بمجال العطور ويمثل الجيل الخامس من عائلته يعمل بالمجال ذاته، أكثر من 700 زجاجة من الزيوت الأساسية ومشتقاتها. كان فيرغيا قد درس صناعة العطور بمدينة غراس في فرنسا، ونجح في مزج روائح تقليدية بأخرى حديثة، وتوصل إلى سبل فريدة لجعل الحياة العادية اليومية أكثر عطرًا.
وأوضح فيرغيا أن «مثل هذه النوعية من العطور تحظى بإقبال كبير من جانب صفوة أثرياء الشرق الأوسط الذين يبدون استعدادهم لدفع مبالغ كبيرة مقابل الحصول على عطور تبقى ملاصقة للجسد وكأنها طبقة ثانية من الجلد».
تقليديًا، يجري تخزين العطور في جيوب مصنوعة من جلود الجمال بعد تقطيرها. أما الآن، فأصبح يجري تخزينها في قوارير مصنوعة من جلود الجاموس.
أما العكر المستخرج من عملية التقطير الأخيرة، فيوضع تحت أشعة الشمس، بحيث تتبخر منه المياه الزائدة ويتحول العطر إلى مركب دافئ وعضوي وغني بالمعادن.

رائحة المطر
بجانب العطور القديمة التي لطالما اشتهروا بها، ورث أبناء كنوج عن أجدادهم مهارة متميزة: بإمكانهم الاحتفاظ برائحة الأمطار الهندية - تحديدًا رائحة الأرض بعد سقوط المطر عليها - في صورة عطر يعرف باسم «ميتي».

كيف يصنع عطر «ميتي»؟
عملت أسرة سيارام في بيع رائحة الأرض بعد امتزاج الأمطار بها من قطعة أرض تقع خلف منزلهم، إلى جهات محلية تعمل بمجال صناعة العطور. خلال فترة الأمطار الموسمية، تغطي هذه القطعة من الأرض الأمطار، بعد أن تكون قد جفت خلال فترة الصيف. ويعمد أفراد أسرة سيارام - الأب والأم والأطفال - إلى استخدام عصي خشبية في كسر قطع من الأرض الجافة وصب الماء عليها من بحيرة بالجوار بالاعتماد على مضخة تعمل بالديزل، مع العمل على تقسيم شكل قطع الأرض إلى أقراص، التي يقومون بتسخينها لاحقًا داخل موقد بدائي، ثم يغمرونها بالماء داخل قدور نحاسية، والتي تغلق بالطمي بعد ذلك. وبعد هذا، توقد نار أسفل القدور تعتمد على روث الأبقار كوقود لها، وينتقل البخار عبر أنابيب الخيزران ليجري تكثيفه في إناء آخر يضم زيت خشب الصندل ليتكون العطر. ولا ينتهي العمل من إعداد عطر «ميتي» إلا بعد أن يجري صبه داخل قارورة خاصة مصنوعة من جلد الجمال أو الجاموس تدعى «كوبي»، ويغلق عليه بالداخل.
من ناحيته، أوضح أشفق، الذي يشكل الجيل الـ16 من عائلته الذي يعمل بهذا المجال، أن عطر «ميتي» الذي لا يجري تخزينه في «كوبي» يفسد. وأبدى أشفق الذي تخرج في مدرسة عامة، قلقه إزاء تقنيات التصنيع الحديثة، خصوصا أي شيء يتعلق بالبلاستيك. وأضاف مؤكدًا أن «اللحظة التي تضع فيها العطر داخل قارورة جلدية بالغة الأهمية، بل لا تقل أهمية عن اللحظة التي تضع العطر على جسدك، حيث تسمح القارورة الجلدية للعطر بالتخلص من أي رطوبة متبقية به وامتلاك الرائحة الحقيقية المرغوبة؛ وهي في هذه الحالة رائحة المطر الممزوج بالأرض».
من ناحية أخرى، أعرب بعض مالكي محلات العطور عن اعتقادهم بوجود فوائد علاجية لعطر «ميتي»، مشيرين إلى أنه يسهم في علاج من يعانون من اضطرابات ذهنية.
وعن هذا، قال أشفق: «هناك أمر ما بخصوص هذا العطر يساعد في تهدئة الأعصاب وبث روح من النشاط بها. وقد ورثنا هذه المعلومة عن أجدادنا القدامى».

العطور المعتمدة على خشب الصندل
كما سبق أن أشرنا، يعتمد مصنعو العطور في كنوج على زيت خشب الصندل بوصفه مادة تشكل القاعدة للعطور التي ينتجونها، لما يتمتع به من خاصية ثبات قوية وقدرته على الإبقاء على العطر الخاص بالورود أو الأزهار المستخدمة لفترة طويلة.
وعليه، عندما تسير عبر شوارع كنوج يخالجك شعور بوجود معمل لتقطير زيت خشب الصندل عند كل ناصية، ذلك أن عبق خشب الصندل يملأ الأجواء. وكل صباح، تحرص مجموعة من الرجال على الاستحمام في المياه التي تخلص منها أحد معامل التقطير ولا تزال تحمل جزيئات خشب الصندل.
من بين هؤلاء، بوشبراج الذي أعرب عن اعتقاده بأن بقايا خشب الصندل الممتزجة بالمياه تساعد في الوقاية من الأمراض.

الطريقة المثلى لوضع العطر
احرص على تجنب استنشاق العطر مباشرة من القارورة، فنظرًا لأن العطر مكثف للغاية، فإن نقطة واحدة منه كافية للغاية لتعطير الجسد بأكمله. أما الطريقة المثلى لوضع العطر، فهي حك أطراف الأصابع في نقطة منه ومسحها برفق على الملابس.
جدير بالذكر أن مصنعي العطور في كنوج ينتجون ما بين 8 آلاف و10 آلاف برميل من العطور يوميًا، حسب موسم الأزهار. ويضم كل برميل قرابة مائتي لتر من العطر.
أما الوجهات الرئيسة للتصدير، فهي دول الشرق الأوسط وأوروبا واليابان والصين والولايات المتحدة، علاوة على قرابة 50 دولة أخرى بشتى أرجاء العالم.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».