بإعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الاثنين، الأول من أغسطس (آب) 2016، أن الجيش الأميركي شن أولى ضرباته الجوية على مناطق يسيطر عليها تنظيم داعش في ليبيا، تكون الاستراتيجية الأميركية لمحاربة الإرهاب قد توسعت عمليًا، لتبدأ في مجال حيوي جيو - استراتيجي هو شمال أفريقيا. وإذا كان هذا التحرك العسكري الأخير يذكرنا بالهجمات التي انطلقت يوم الثلاثاء 23 سبتمبر (أيلول) 2014 ضد تنظيم البغدادي، بغارات جوية في سوريا والعراق بواسطة قوات التحالف تحت قيادة الولايات المتحدة، وبدعم كبير من بعض الدول العربية، فإن ذلك لا يعني تطابق وجهات نظر القوى الغربية حول «داعش» ليبيا وكيفية التعامل مع تغلغل هذا التنظيم في دولة مفككة تفتقد لسلطة سياسية موحدة، وتنتشر فيها عشرات المجموعات المسلحة المتناحرة والمسيطرة على مناطق متعددة من البلاد.
يبدو أن إدارة الرئيس باراك أوباما واعية بهذا التعقيد السياسي والعسكري على الأرض، ولذلك اعتمدت في سياستها داخل ليبيا منذ 2013 على تقوية الشق الاستخباراتي، إذ اعتقل مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) خلال العام الحالي، القيادي الليبي المتشدد نزيه الرقيعي المعروف بـ«أبو أنس الليبي» قرب بيته في العاصمة طرابلس. كذلك استعملت الدبلوماسية للحفاظ على مصالحها الحيوية في ليبيا بالتوازي مع محاربة ظاهرة الإرهاب التي انتقلت من العراق وسوريا إلى ليبيا، عبر الضغط على أطراف النزاع للتفاوض وإيجاد حل سياسي ينهي الفوضى السياسية والعسكرية التي يستفيد منها «داعش» ليبيا في التوسع وكسب الأنصار.
لدى العودة إلى الأهداف الاستراتيجية الأميركية لمواجهة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإننا نجدها تعتمد على الجانب العسكري الذي يقوم على بناء تحالف عسكري إقليمي دولي ينفذ ضربات جوية مكثفة. كذلك تحتفظ أميركا لنفسها بتنفيذ «عمليات خاصة»، وممارسة نشاط استخباراتي مستقل عن التحالف الدولي. ومن جانب آخر، تقوم إدارة أوباما بتدريب وتسليح وإسناد للجيش العراقي والبيشمركة الكردية، وبعض فصائل المعارضة السورية.
في الحالة الليبية، لا يمكن اعتبار هذه الهجمات العسكرية الأميركية ضد «داعش - ليبيا» هي الأولى من نوعها إلا من جهة كونها نفذت بالتنسيق مع «حكومة الوفاق الوطني» الليبية. ذلك أنه سبق لوزارة الدفاع الأميركية أن أعلنت عدة مرات عن شن هجمات في ليبيا ضد معاقل من وصفتهم بـ«الإرهابيين». ففي يونيو (حزيران) 2015، نفذت مقاتلات قاذفة أميركية هجومًا على مقر يعتقد أن يضم مختار بلمختار القيادي الجزائري في تنظيم القاعدة. أما آخرها فهي الضربة التي شنتها طائرات أميركية على معسكر لتنظيم داعش في مدينة صبراتة وسجلت يوم 23 فبراير (شباط) 2016، وأسفرت عن مقتل 49 من «الإرهابيين».
لقد سعت وزارة الدفاع (البنتاغون) وأيضًا أوباما لوضع بعض معالم الرؤية الأميركية فيما يخص مواجهة الإرهاب في مدينة سرت ونواحيها. وفي بيان يتعلق بالموضوع قال المتحدث باسم «البنتاغون» بيتر كوك، أن بداية الغارات الأميركية جاءت «بطلب من حكومة الوفاق الوطني الليبية، ولقد شن جيش الولايات المتحدة غارات محددة على أهداف لتنظيم داعش في سرت بليبيا لدعم قوات هذه الحكومة في مسعاها لهزم (داعش) داخل معقلها الأساسي في ليبيا».
كذلك ذكر بيان «البنتاغون» أن الرئيس باراك أوباما وافق على تنفيذ هذه الضربات بناء على توصية من كل من وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر ورئيس هيئة الأركان الجنرال جوزيف دانفورد. واعتبر أن الضربات الأميركية ضد التنظيم في سرت «ستمكّن حكومة الوفاق الوطني من تحقيق تقدم حاسم واستراتيجي». أما جوناثان وينر، مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى ليبيا، فلقد غرد على موقع «تويتر» مسجلا أن «القوات الأميركية لن تشارك في العمليات البرية»، موضحا أن بلاده لا تعتزم المشاركة على الأرض في مواجهة التنظيم الإرهابي، ومشددًا: «نحن لا نتوقع أن تكون القوات الأميركية جزءا من هذه العملية المحددة».
ولكن كل أن هذا لا يعني الامتناع عن تقوية التنسيق مع «قوات البنيان المرصوص» التابع لـ«حكومة الوفاق الوطني الليبية. ذلك أن العمل المشترك بين الجانبين بدأ فعليًا ويهمّ شقّين أساسيين: الأول، يتعلق بالجانب الاستعلامي إذ تزود أميركا المجموعات المسلحة التابعة لحكومة فايز السراج (الوفاقية) بمعلومات حول التحركات وأماكن وجود عناصر (داعش). أما الشق الثاني، فيتصل بالإسناد الجوي وضرب أماكن محددة بالتنسيق مع المكلف بالشؤون العسكرية في الحكومة الليبية». وفي هذا السياق قال المتحدث باسم «البنتاغون» بيتر كوك في مؤتمر صحافي: «الضربات التي نفذت استهدفت موقعا محددا لدبابة كما استهدفت ضربة ثانية سيارتين للتنظيم». وأشار إلى أن أقل من1000 مقاتل، وربما بضع مئات من «الدواعش» لا يزالون متحصنين في سرت.
من جانب آخر، يمكن القول إن الغارات الأميركية على سرت تتجاوز المواجهة المباشرة مع الإرهاب لتحمل دلالات سياسية كبيرة، وتكشف بعض خلافات القوى الدولية الكبرى والدول الإقليمية حول الوضع المعقد بليبيا، وضمنه كيفية مواجهة «داعش - ليبيا». فالمبادرة الأميركية التي جاءت بموافقة رئيس الوزراء فايز السراج، فهم منها اعتراف ودعم أميركي بهذه الحكومة التي ما زالت عاجزة عن على السيطرة على الوضع، كما أن هذه الخطوة تأتي بعد خلافات كبيرة بين كل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا مع حكومة السراج.
ويمكن التأكيد أن التفاعلات الأخيرة التي تتعلق بالدعم العسكري التي تقدمه الدول الثلاث، المشار إليها أعلاه، لجناح الجنرال خليفة حفتر عجّل في الطلب الليبي لتوفير المساعدة الأميركية لقوات «البنيان المرصوص». وهذا يعني، بالخصوص، أن «حكومة الوفاق الوطني» تبحث عن ظهير دولي لمحاربة التشدد والإرهاب، وكسب التأييد الدولي واللعب في ذلك على تناقضات المصالح الفرنسية - الأميركية في شمال أفريقيا عامة، وفي ليبيا على وجه الخصوص.
فقبل أيام فقط من إدانة حكومة السراج التدخل الفرنسي ليبيا، الذي عاد إلى الواجهة بعد تحطم طائرة هليكوبتر في مدينة بنغازي ومقتل ثلاثة من أفراد «القوات الخاصة الفرنسية» في يوليو (تموز) الفائت، معتبرا إياه تدخلاً أجنبيًا مرفوضًا و«قضية حساسة» بالنسبة لليبيين. ثم دافعت الحكومة نفسها عن تدخل أجنبي آخر، كانت وراء دعوته للتدخل، وهو ما يؤكد أن قضية الإرهاب تحولت إلى صراع بين قوى خارجية وداخلية. ذلك أن فرنسا تقف إلى جانب حفتر بثقلها العسكري وتهاجم قوات موالية للسراج، في حين تركز الولايات المتحدة على منع تمدد «داعش» ومنعه من السيطرة على المناطق خصوصًا النفطية.
ويبدو أن حكومة السراج ترفض المبرّرات الفرنسية الزاعمة أنها إنما تساند القوات التابعة للجنرال حفتر لكونها تحارب «داعش - ليبيا»، إذ إنها لم تكتف بالإشارة في بيانها الصادر بخصوص إسقاط الطائرة الفرنسية شرق البلاد، بل جاء في بيانها المتعلق بالهجمات الأميركية الأخيرة كلام يرسخ شرعية «سلطة أحادية»، أي «الحكومة الوفاقية» المدعومة من الأمم المتحدة، التي تقاتل «داعش» منذ مايو (أيار) 2016، والقول إن هذه الحكومة مَن «طلبت من الولايات المتحدة شن ضربات جوية ضد تنظيم داعش في سرت، وأن أولى الضربات نفذت اليوم الاثنين الأول من أغسطس الحالي».
من جهته، كشف السراج لـ«سي إن إن العربية» أن هدف حكومته من الحرب هو «القضاء على هذا التنظيم الوافد على ليبيا من الخارج واجتثاثه». وأضاف أنه من الضروري «ألا ترك ليبيا تواجه هذا العدو بمفردها»، معربًا عن أمله في أن «تتمكن ليبيا من دحر هذا التنظيم وإنهاء وجوده على أرضها، وبالتالي، إنهاء حلمه بالتمدد في دول الجوار التي تعلم جيدًا مخاطر وجود التنظيم الإرهابي في ليبيا».
وبناء عليه، يمكن القول إن الخطوات التنسيقية بين حكومة فايز السراج (الوفاقية) والولايات المتحدة المتعلقة بمحاربة الإرهاب، لا تخرج عن الاستراتيجية الأميركية المتعلقة بالمحافظة على المصالح العليا الأميركية في شمال أفريقيا. ولذلك سارعت واشنطن إلى الظهور بمظهر المحارب الفعلي للإرهاب، وفي الوقت نفسه، التمتع بشرعية الحركة والفعل داخل ليبيا بمساندة حكومة تدعمها الأمم المتحدة. وهو ما يتوقع مراقبون أن يمكّن واشنطن من تجاوز الصعوبات التي تواجهها القوات الفرنسية، ويمنح للهجمات الأميركية بعدًا عسكريًا بغطاء أخلاقي وقانوني، الشيء الذي قد يتطور سريعًا من مجرد الإسناد وتقديم المعلومات، إلى تدريب للقوات الموالية لحكومة السراج، وتسليحها بهدف القضاء على «داعش - ليبيا».
* أستاذ علوم سياسية، جامعة محمد الخامس
«داعش ـ ليبيا» بين الهجمات الأميركية والفرنسية
كيف تتعامل القوى الغربية مع التنظيم في دولة مفككة؟
«داعش ـ ليبيا» بين الهجمات الأميركية والفرنسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة