«داعش ـ ليبيا» بين الهجمات الأميركية والفرنسية

كيف تتعامل القوى الغربية مع التنظيم في دولة مفككة؟

استعراض قوة لعناصر «داعش» في سرت («الشرق الأوسط»)
استعراض قوة لعناصر «داعش» في سرت («الشرق الأوسط»)
TT

«داعش ـ ليبيا» بين الهجمات الأميركية والفرنسية

استعراض قوة لعناصر «داعش» في سرت («الشرق الأوسط»)
استعراض قوة لعناصر «داعش» في سرت («الشرق الأوسط»)

بإعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الاثنين، الأول من أغسطس (آب) 2016، أن الجيش الأميركي شن أولى ضرباته الجوية على مناطق يسيطر عليها تنظيم داعش في ليبيا، تكون الاستراتيجية الأميركية لمحاربة الإرهاب قد توسعت عمليًا، لتبدأ في مجال حيوي جيو - استراتيجي هو شمال أفريقيا. وإذا كان هذا التحرك العسكري الأخير يذكرنا بالهجمات التي انطلقت يوم الثلاثاء 23 سبتمبر (أيلول) 2014 ضد تنظيم البغدادي، بغارات جوية في سوريا والعراق بواسطة قوات التحالف تحت قيادة الولايات المتحدة، وبدعم كبير من بعض الدول العربية، فإن ذلك لا يعني تطابق وجهات نظر القوى الغربية حول «داعش» ليبيا وكيفية التعامل مع تغلغل هذا التنظيم في دولة مفككة تفتقد لسلطة سياسية موحدة، وتنتشر فيها عشرات المجموعات المسلحة المتناحرة والمسيطرة على مناطق متعددة من البلاد.
يبدو أن إدارة الرئيس باراك أوباما واعية بهذا التعقيد السياسي والعسكري على الأرض، ولذلك اعتمدت في سياستها داخل ليبيا منذ 2013 على تقوية الشق الاستخباراتي، إذ اعتقل مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) خلال العام الحالي، القيادي الليبي المتشدد نزيه الرقيعي المعروف بـ«أبو أنس الليبي» قرب بيته في العاصمة طرابلس. كذلك استعملت الدبلوماسية للحفاظ على مصالحها الحيوية في ليبيا بالتوازي مع محاربة ظاهرة الإرهاب التي انتقلت من العراق وسوريا إلى ليبيا، عبر الضغط على أطراف النزاع للتفاوض وإيجاد حل سياسي ينهي الفوضى السياسية والعسكرية التي يستفيد منها «داعش» ليبيا في التوسع وكسب الأنصار.
لدى العودة إلى الأهداف الاستراتيجية الأميركية لمواجهة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإننا نجدها تعتمد على الجانب العسكري الذي يقوم على بناء تحالف عسكري إقليمي دولي ينفذ ضربات جوية مكثفة. كذلك تحتفظ أميركا لنفسها بتنفيذ «عمليات خاصة»، وممارسة نشاط استخباراتي مستقل عن التحالف الدولي. ومن جانب آخر، تقوم إدارة أوباما بتدريب وتسليح وإسناد للجيش العراقي والبيشمركة الكردية، وبعض فصائل المعارضة السورية.
في الحالة الليبية، لا يمكن اعتبار هذه الهجمات العسكرية الأميركية ضد «داعش - ليبيا» هي الأولى من نوعها إلا من جهة كونها نفذت بالتنسيق مع «حكومة الوفاق الوطني» الليبية. ذلك أنه سبق لوزارة الدفاع الأميركية أن أعلنت عدة مرات عن شن هجمات في ليبيا ضد معاقل من وصفتهم بـ«الإرهابيين». ففي يونيو (حزيران) 2015، نفذت مقاتلات قاذفة أميركية هجومًا على مقر يعتقد أن يضم مختار بلمختار القيادي الجزائري في تنظيم القاعدة. أما آخرها فهي الضربة التي شنتها طائرات أميركية على معسكر لتنظيم داعش في مدينة صبراتة وسجلت يوم 23 فبراير (شباط) 2016، وأسفرت عن مقتل 49 من «الإرهابيين».
لقد سعت وزارة الدفاع (البنتاغون) وأيضًا أوباما لوضع بعض معالم الرؤية الأميركية فيما يخص مواجهة الإرهاب في مدينة سرت ونواحيها. وفي بيان يتعلق بالموضوع قال المتحدث باسم «البنتاغون» بيتر كوك، أن بداية الغارات الأميركية جاءت «بطلب من حكومة الوفاق الوطني الليبية، ولقد شن جيش الولايات المتحدة غارات محددة على أهداف لتنظيم داعش في سرت بليبيا لدعم قوات هذه الحكومة في مسعاها لهزم (داعش) داخل معقلها الأساسي في ليبيا».
كذلك ذكر بيان «البنتاغون» أن الرئيس باراك أوباما وافق على تنفيذ هذه الضربات بناء على توصية من كل من وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر ورئيس هيئة الأركان الجنرال جوزيف دانفورد. واعتبر أن الضربات الأميركية ضد التنظيم في سرت «ستمكّن حكومة الوفاق الوطني من تحقيق تقدم حاسم واستراتيجي». أما جوناثان وينر، مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى ليبيا، فلقد غرد على موقع «تويتر» مسجلا أن «القوات الأميركية لن تشارك في العمليات البرية»، موضحا أن بلاده لا تعتزم المشاركة على الأرض في مواجهة التنظيم الإرهابي، ومشددًا: «نحن لا نتوقع أن تكون القوات الأميركية جزءا من هذه العملية المحددة».
ولكن كل أن هذا لا يعني الامتناع عن تقوية التنسيق مع «قوات البنيان المرصوص» التابع لـ«حكومة الوفاق الوطني الليبية. ذلك أن العمل المشترك بين الجانبين بدأ فعليًا ويهمّ شقّين أساسيين: الأول، يتعلق بالجانب الاستعلامي إذ تزود أميركا المجموعات المسلحة التابعة لحكومة فايز السراج (الوفاقية) بمعلومات حول التحركات وأماكن وجود عناصر (داعش). أما الشق الثاني، فيتصل بالإسناد الجوي وضرب أماكن محددة بالتنسيق مع المكلف بالشؤون العسكرية في الحكومة الليبية». وفي هذا السياق قال المتحدث باسم «البنتاغون» بيتر كوك في مؤتمر صحافي: «الضربات التي نفذت استهدفت موقعا محددا لدبابة كما استهدفت ضربة ثانية سيارتين للتنظيم». وأشار إلى أن أقل من1000 مقاتل، وربما بضع مئات من «الدواعش» لا يزالون متحصنين في سرت.
من جانب آخر، يمكن القول إن الغارات الأميركية على سرت تتجاوز المواجهة المباشرة مع الإرهاب لتحمل دلالات سياسية كبيرة، وتكشف بعض خلافات القوى الدولية الكبرى والدول الإقليمية حول الوضع المعقد بليبيا، وضمنه كيفية مواجهة «داعش - ليبيا». فالمبادرة الأميركية التي جاءت بموافقة رئيس الوزراء فايز السراج، فهم منها اعتراف ودعم أميركي بهذه الحكومة التي ما زالت عاجزة عن على السيطرة على الوضع، كما أن هذه الخطوة تأتي بعد خلافات كبيرة بين كل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا مع حكومة السراج.
ويمكن التأكيد أن التفاعلات الأخيرة التي تتعلق بالدعم العسكري التي تقدمه الدول الثلاث، المشار إليها أعلاه، لجناح الجنرال خليفة حفتر عجّل في الطلب الليبي لتوفير المساعدة الأميركية لقوات «البنيان المرصوص». وهذا يعني، بالخصوص، أن «حكومة الوفاق الوطني» تبحث عن ظهير دولي لمحاربة التشدد والإرهاب، وكسب التأييد الدولي واللعب في ذلك على تناقضات المصالح الفرنسية - الأميركية في شمال أفريقيا عامة، وفي ليبيا على وجه الخصوص.
فقبل أيام فقط من إدانة حكومة السراج التدخل الفرنسي ليبيا، الذي عاد إلى الواجهة بعد تحطم طائرة هليكوبتر في مدينة بنغازي ومقتل ثلاثة من أفراد «القوات الخاصة الفرنسية» في يوليو (تموز) الفائت، معتبرا إياه تدخلاً أجنبيًا مرفوضًا و«قضية حساسة» بالنسبة لليبيين. ثم دافعت الحكومة نفسها عن تدخل أجنبي آخر، كانت وراء دعوته للتدخل، وهو ما يؤكد أن قضية الإرهاب تحولت إلى صراع بين قوى خارجية وداخلية. ذلك أن فرنسا تقف إلى جانب حفتر بثقلها العسكري وتهاجم قوات موالية للسراج، في حين تركز الولايات المتحدة على منع تمدد «داعش» ومنعه من السيطرة على المناطق خصوصًا النفطية.
ويبدو أن حكومة السراج ترفض المبرّرات الفرنسية الزاعمة أنها إنما تساند القوات التابعة للجنرال حفتر لكونها تحارب «داعش - ليبيا»، إذ إنها لم تكتف بالإشارة في بيانها الصادر بخصوص إسقاط الطائرة الفرنسية شرق البلاد، بل جاء في بيانها المتعلق بالهجمات الأميركية الأخيرة كلام يرسخ شرعية «سلطة أحادية»، أي «الحكومة الوفاقية» المدعومة من الأمم المتحدة، التي تقاتل «داعش» منذ مايو (أيار) 2016، والقول إن هذه الحكومة مَن «طلبت من الولايات المتحدة شن ضربات جوية ضد تنظيم داعش في سرت، وأن أولى الضربات نفذت اليوم الاثنين الأول من أغسطس الحالي».
من جهته، كشف السراج لـ«سي إن إن العربية» أن هدف حكومته من الحرب هو «القضاء على هذا التنظيم الوافد على ليبيا من الخارج واجتثاثه». وأضاف أنه من الضروري «ألا ترك ليبيا تواجه هذا العدو بمفردها»، معربًا عن أمله في أن «تتمكن ليبيا من دحر هذا التنظيم وإنهاء وجوده على أرضها، وبالتالي، إنهاء حلمه بالتمدد في دول الجوار التي تعلم جيدًا مخاطر وجود التنظيم الإرهابي في ليبيا».
وبناء عليه، يمكن القول إن الخطوات التنسيقية بين حكومة فايز السراج (الوفاقية) والولايات المتحدة المتعلقة بمحاربة الإرهاب، لا تخرج عن الاستراتيجية الأميركية المتعلقة بالمحافظة على المصالح العليا الأميركية في شمال أفريقيا. ولذلك سارعت واشنطن إلى الظهور بمظهر المحارب الفعلي للإرهاب، وفي الوقت نفسه، التمتع بشرعية الحركة والفعل داخل ليبيا بمساندة حكومة تدعمها الأمم المتحدة. وهو ما يتوقع مراقبون أن يمكّن واشنطن من تجاوز الصعوبات التي تواجهها القوات الفرنسية، ويمنح للهجمات الأميركية بعدًا عسكريًا بغطاء أخلاقي وقانوني، الشيء الذي قد يتطور سريعًا من مجرد الإسناد وتقديم المعلومات، إلى تدريب للقوات الموالية لحكومة السراج، وتسليحها بهدف القضاء على «داعش - ليبيا».
* أستاذ علوم سياسية، جامعة محمد الخامس



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟