«النصرة» و«القاعدة».. ودلالات الانشقاق المنسية

تعليقًا على إعلان «الجولاني»

عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)
عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)
TT

«النصرة» و«القاعدة».. ودلالات الانشقاق المنسية

عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)
عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)

دلالات كثيرة يحملها انشقاق التنظيمات المتشددة - والأصولية عمومًا - بعضها عن بعض، منها ما هو مرتبط بالواقع وضغوطه والتكيف معه، لكن الأهم والأعمق - والمنسي للأسف - هو المدلول الفكري والآيديولوجي لعلاقة هذه التنظيمات بالتاريخ والواقع واضطرارها في النهاية للتكيف معه، بقدرة التاريخ النافذة على كسر جمود التشدد وتكييفه مع حركته. بل تمثل هذه الدلالات المنسية للانشقاق وغيره سندًا في نقد أسس فكرية تتصور التاريخ «يوتوبيا» لا مكان لها، تستطيع كسر الواقع وتغييره دون اعتبار لقواه وقوانينه، وتتعالى عليه بدعاوى الاقتدار والانتصار وتكفير المنطق والعقل، ليثبت التاريخ والواقع في النهاية أنه لا شيء يعمل خارج قانونه وناموسه، وهو يتحرك في زمانه لا خارجه.

الانشقاقات والمراجعات والمواءمات التنظيمية والفردية، لدى تيارات التطرف العنيف، ملامح ثلاثة بارزة على هذا التكييف التاريخي، بعيدًا عن دعوى الاقتدار وصناعة التاريخ التي تدعيها باستقامة وصلابة عند تأسيساتها وبيعاتها الأولى، واضطرارها في مسارها للتكيف معه. وينطبق هذا بدءًا من مراجعات «الجماعة الإسلامية المصرية»، كبرى الجماعات المصرية المتشددة أواخر التسعينات القرن الماضي، التي استمرت عقدًا كاملاً تصحيحًا واعتذارًا عن تصوراتها السابقة.. ووصولاً إلى مراجعات «الجماعة الليبية المقاتلة»، التي صدرت بعنوان «دراسات تصحيحية» عام 2009، مرورًا بمراجعات كلية وجزئية لمنظرين، كان بعضهم الأبرز والأهم في الساحة الراديكالية الإسلامية، شأن عبد القادر بن عبد العزيز (د. فضل)، أو القيادي الجزائري الراديكالي حسن حطاب، الذي تحولت الحركة التي أسسها للدعوة والقتال في الجزائر فيما بعد إلى «قاعدة المغرب العربي» عام 2007، وغيرهما كثيرون. وهذا يدلل على عدم يقينية الوعي وخطأ ما يدّعونه في بداياتهم من حقائق مطلقة ومسار لا يعرف الانعطافات.
ومن المواءمات كذلك - التي تمثل مراجعات جزئية بدرجة ما - قبول كثير من المتشددين والراديكاليين بالحزبية والعمل السياسي، بعد تكفيرهم إياها، فشاهدنا تأسيس عدد من الراديكاليين والمتشددين ومشاركتهم في تأسيس عدد من الأحزاب السياسية عقب زلزال الانتفاضات العربية عام 2011 في مصر وليبيا وغيرهما، ممن كانوا يكفّرون الانتماء لها كما يكفّرون الديمقراطية وسبلها، ويعتبرونها دينًا مناقضًا للإسلام يكفّر من انتمى إليه أصلاً.
وتشمل الانشقاقات كل الحركات الأصولية المتشددة، وتنشط عند الأزمات والمغانم، وتخفت عند المكاسب والمغارم، لكنها تظل حاضرة وممكنة دائمًا، ويكشف ظهورها وبزوغها مساحات الاختلاف الكامنة بين عناصر التنظيم وقياداته، ويضرب في مقتل دعوى التطابق والانتماء الصلب الذي لا يعرف اللين أو المرونة، ويدّعي استقامة خط رفيع للطائفة المنصورة التي تنسبها كل جماعة لنفسها وفكرها وأميرها، يبدع ويتهم كل مخالف لها، قريبًا كان أو بعيدًا. ولكنها تحتمل كذلك الصراع والقتال فيما بينها، ليتحولوا لصفين متحاربين بعد أن كانوا في صف واحد ضد غيرهم.
هذا ما حدث بين المختلفين في صفوف «الجماعة الإسلامية المصرية»، وهو ما حدث بين قادة «الجهاد المصري» من مؤيدي مراجعات فضل ومعارضيها، وهو ما حدث بشكل أوضح بين «داعش» و«القاعدة» ومعها «جبهة النصرة» بشكل أوضح، بعد خلافهما في أبريل (نيسان) 2012، حول بيعة «النصرة» لأبو بكر البغدادي أمير «داعش» أم أيمن الظواهري أمير «القاعدة».. التنظيم الأم!
بل إن جدل البيعة والانشقاق نفسه لا يخلو من براغماتية ظاهرة في كثير من الأحيان. فكثير من التنظيمات الفرعية والصغيرة تبايع حسب المتوقع لصالحها من التنظيم الأم الذي تبايعه، ولم تكن بيعات «ولاية سيناء المصرية» أو «بوكو حرام» النيجيرية أو بعض المجموعات المتشددة في اليمن وغيرها، لتنظيم «داعش» بعد إعلانه خلافته وتصدره المشهد العالمي، إلا رغبة فيما يملكه هذا التنظيم الأم من قدرة على التمويل والدعم الإعلامي واللوجيستي للتنظيم الفرع.
وفي الإطار البراغماتي نفسه كانت البيعات تتوالى لـ«القاعدة» في فترة زعامة أسامة بن لادن لها، قبل مقتله في مايو (أيار) 2011، لما امتلكه من حضور في صفوف المتشددين وقدرته على التمويل والدعم اللوجيستي والاجتماع حوله من مختلف القيادات، وهو ما كان عكسه أثناء فترة خليفته أيمن الظواهري، الذي لا يتمتع بنفس الحضور والتأثير، ويبدو محاصرًا مأزومًا بعد مقتل سلفه.. وهو بالتالي عاجز عن دعم حلفائه بما يحتاجونه، بل إنه يعجز أحيانًا عن التعليق على أحداث مهمة يتعرضون لها، نظرًا لظروف التنظيم، الذي سحب «داعش» فعليًا البساط من تحت قدميه في كثير من المناطق.
من هنا تبدو الانشقاقات والخلافات، دلالة بينة على خطأ ما تدعيه هذه التنظيمات وعناصرها من صلابة، وما تكرره وتدعو إليه من دعوة الوحدة والتوحّد والبيعة، تنظيمًا وأمة، لأمير بعينه، وهشاشة كامنة في مبدأ «السمع والطاعة» و«الولاء والبراء» لدى هذه التنظيمات تؤكده صراعاتها وقتالاتها النظرية والميدانية، رغم التطابق في الإطار الفكري المؤسس، وهو في حالتنا الراديكالية المقاتلة التي تجمع بين «النصرة» و«القاعدة»، كما تجمع بينهما وبين تنظيم «داعش»، مع اختلافات جزئية أو تفصيلية وتأويلية صغيرة فيما بينها، كما تجمع الثلاثة بتنظيمات غيرها في الساحة السورية والعراقية وغيرهما، إلا أن الانشقاق والاختلاف وإمكانية الفصل والانفصال، عناصر أكثر من ادعاءات الوحدة والاتحاد، أو الوصل والاتصال.
يوم الخميس 28 يوليو (تموز) الماضي، جاء انشقاق «جبهة النصرة» في سوريا، وفك ارتباطها بشبكة «القاعدة»، على لسان زعيمها أبو محمد الجولاني، وإعلان الجولاني عن تشكيل جماعة جديدة تحت اسم «جبهة فتح الشام». وهو ما قوبل بشماتة من تنظيم داعش وعناصرها، وكذلك تشكيك في زعامتها وطلبه للانفراد بالقيادة.
لكن زعيم «جبهة النصرة» - أو «جبهة فتح الشام» - أبو محمد الجولاني حاول مسبقًا نفي ذلك، معلنًا في خطاب تلفزيوني مسجل بثته قناة الجزيرة القطرية، في أول ظهور علني له، قبول تنظيم «القاعدة» وقيادته قرار «النصرة» بفك الارتباط، وتفهمهم قرار فك الارتباط وشكرهم على ذلك. إذ قال الجولاني إن قرار فك الارتباط جاء «نزولاً عند رغبة أهل الشام في دفع الذرائع التي يتذرع بها المجتمع الدولي، وعلى رأسه أميركا وروسيا، في قصفهم وتشريدهم عامة المسلمين في الشام، بحجة استهداف جبهة النصرة التابعة لتنظيم قاعدة الجهاد، فقد قررنا إلغاء العمل باسم جبهة النصرة، وإعادة تشكيل جماعة جديدة ضمن جبهة عمل تحمل اسم جبهة فتح الشام».
وتابع الجولاني كلامه معلنًا أن «هذا التشكيل الجديد ليست له علاقة بأي جهة خارجية»، في إشارة غير مباشرة منه إلى تصحيح صورة جماعته وعلاقتها بـ«الإرهاب المعولم»، وتصحيح وضعيتها في الساحة السورية، سواءً من قبل قوات التحالف الدولي التي استمرت في تصنيفها جماعة إرهابية، أو سائر الفصائل الموجودة في سوريا.
وازداد هذا الإلحاح على وطنية حركيته ومركزية القضية السورية فيها بشكل واضح، حين عدّد الجولاني أهداف هذه الخطوة، قائلاً إن أبرزها «العمل على التوحد مع الفصائل لرص صف المجاهدين، ولنتمكن من تحرير أرض الشام من حكم الطواغيت والقضاء على النظام وأعوانه».
وقد أتى إعلان الجولاني قبول «القاعدة» وتفهمها قراره تأكيدًا من كلا الجماعتين على تكيفهما مع الأوضاع الجديدة، خصوصًا مع ظهور الغلو الداعشي الشقيق لهما، والمقاتل لكليهما معًا، ومع التصنيف الدولي المساوي بينهما، تأكيدًا على الفروق بين «داعش» وكليهما لدى مختلف المراقبين والمتابعين والمشاركين في الشأن السوري. لكن يظهر أن إعلان فك الارتباط كان منسقًا بين الطرفين بشكل واضح، لمنع شبهة أي انتصار داعشي حين إعلانه في صراعها مع «القاعدة» على قيادة العنف الأصولي عالميًا أو سوريًا، ويضعها في حرج الجمود مقابل قدرتهما معًا على التكيف والتوافق.
من ناحية ثانية، رغم مطالبة مختلف الفصائل على الساحة السورية، «جبهة النصرة»، بإعلان انفصالها عن «القاعدة» منذ وقت مبكر في أبريل 2012، بعد إعلانها بيعتها منفصلة عن «القاعدة في العراق» - «داعش» فيما بعد - فإن الاستجابة جاءت متأخرة جدًا ومدفوعة بظروف الواقع وتحدياته في أعقاب تقدم روسيا وبقايا نظام الأسد والميليشيات الإيرانية على جبهة حلب، بشمال سوريا، وعدد من المناطق التي كانت في حوزتها، كما أتى منسقًا كما ذكرنا بما لا يبدو معه خلافات بين «النصرة» و«القاعدة»، ويعطي فرصة أكبر لـ«داعش»، لاستثمارها.
كانت الإشارة أو المباركة الأولى من المنظر المتشدد أبو محمد المقدسي يوم الثلاثاء 19 يوليو الماضي، حين دعا «جبهة النصرة» للاستجابة لمطالب الشعب والعلماء والناصحين، وتغيير اسمها وفك ارتباطها بـ«القاعدة». وقال المقدسي في تغريدات له على «تويتر»: «مراعاة المطلب إن صار مطلبًا للشعب أو العلماء والناصحين، مهم ويدل على مرونة وفطنة المجاهدين، خصوصًا إن كان مطلبًا مشروعًا ليس فيه أي تنازل عن ثوابت».
وعن التسمية الجديدة يبدو الإرهاص بها في تغريدة للمقدسي في التاريخ نفسه، حين دعا «جبهة النصرة» لتغيير اسمها قائلاً: «وكذلك اسم (جبهة النصرة) أو غيره، إن صار عائقًا أو سببًا لاستهداف أهله، فتغييره أو التنازل عنه ليس تنازلاً عن قرآن، وفك الارتباط ليس ردة عند الحاجة إليه». وأضاف: «من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فلا يهمه الاسم، إنما يهمه وضوح هذه الغاية ومن جاهد لأجل اسم، وفارق لتغيره، فلا يحزن عليه». وبيّن: «نعلم أن اسم النصرة والارتباط ليس هو السبب الحقيقي لاستهداف الجبهة وأمثالها، بل السبب هو الراية والغاية وعدم الخضوع لمشاريع الأميركان وأذنابهم».
وتابع في تأكيد وتبرير هذا التحوّل بضغوط التحالف الدولي وقصفه مواقع «النصرة» واستهدافه لها بقوله: «أكثر أعداء الجبهة يدّعي أن المسمى والارتباط سبب مشاركة أميركا بالقصف، وانطلى هذا على الناس، فالإجراء الذي نصحت به إن لم يكف بأس أميركا، أبطل الدعوى».
أما الإشارة الثانية فكانت قبل إعلان الجولاني بساعات عبر تسجيل صوتي نشره تنظيم القاعدة، وتوجّه فيه أحمد حسن أبو الخير، «نائب» أيمن الظواهري وفق التسجيل، إلى «جبهة النصرة» بالقول: «نوجه قيادة جبهة النصرة إلى المضي قدمًا بما يحفظ مصلحة الإسلام والمسلمين ويحمي جهاد أهل الشام، ونحثهم على اتخاذ الخطوات المناسبة تجاه هذا الأمر».
وهكذا يجبر التاريخ والواقع، الانغلاق والتصلب الظاهر لجماعات التطرف العنيف على تغيير ارتباطاتها وهوياتها، بل وأسمائها، وإن كان اسم «جبهة النصرة» نفسه نابعًا من تنظيم داعش لوليده «النصرة»، حين أرسله «نصرة للشعب السوري» ضد الميليشيات الطائفية والإيرانية المساندة لنظام بشار الأسد ضد شعبه، وما زالت تسانده بدعم روسي.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟