«النصرة» و«القاعدة».. ودلالات الانشقاق المنسية

تعليقًا على إعلان «الجولاني»

عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)
عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)
TT

«النصرة» و«القاعدة».. ودلالات الانشقاق المنسية

عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)
عناصر من «جبهة النصرة» قبل الانشقاق عن «القاعدة» في سوريا («الشرق الأوسط»)

دلالات كثيرة يحملها انشقاق التنظيمات المتشددة - والأصولية عمومًا - بعضها عن بعض، منها ما هو مرتبط بالواقع وضغوطه والتكيف معه، لكن الأهم والأعمق - والمنسي للأسف - هو المدلول الفكري والآيديولوجي لعلاقة هذه التنظيمات بالتاريخ والواقع واضطرارها في النهاية للتكيف معه، بقدرة التاريخ النافذة على كسر جمود التشدد وتكييفه مع حركته. بل تمثل هذه الدلالات المنسية للانشقاق وغيره سندًا في نقد أسس فكرية تتصور التاريخ «يوتوبيا» لا مكان لها، تستطيع كسر الواقع وتغييره دون اعتبار لقواه وقوانينه، وتتعالى عليه بدعاوى الاقتدار والانتصار وتكفير المنطق والعقل، ليثبت التاريخ والواقع في النهاية أنه لا شيء يعمل خارج قانونه وناموسه، وهو يتحرك في زمانه لا خارجه.

الانشقاقات والمراجعات والمواءمات التنظيمية والفردية، لدى تيارات التطرف العنيف، ملامح ثلاثة بارزة على هذا التكييف التاريخي، بعيدًا عن دعوى الاقتدار وصناعة التاريخ التي تدعيها باستقامة وصلابة عند تأسيساتها وبيعاتها الأولى، واضطرارها في مسارها للتكيف معه. وينطبق هذا بدءًا من مراجعات «الجماعة الإسلامية المصرية»، كبرى الجماعات المصرية المتشددة أواخر التسعينات القرن الماضي، التي استمرت عقدًا كاملاً تصحيحًا واعتذارًا عن تصوراتها السابقة.. ووصولاً إلى مراجعات «الجماعة الليبية المقاتلة»، التي صدرت بعنوان «دراسات تصحيحية» عام 2009، مرورًا بمراجعات كلية وجزئية لمنظرين، كان بعضهم الأبرز والأهم في الساحة الراديكالية الإسلامية، شأن عبد القادر بن عبد العزيز (د. فضل)، أو القيادي الجزائري الراديكالي حسن حطاب، الذي تحولت الحركة التي أسسها للدعوة والقتال في الجزائر فيما بعد إلى «قاعدة المغرب العربي» عام 2007، وغيرهما كثيرون. وهذا يدلل على عدم يقينية الوعي وخطأ ما يدّعونه في بداياتهم من حقائق مطلقة ومسار لا يعرف الانعطافات.
ومن المواءمات كذلك - التي تمثل مراجعات جزئية بدرجة ما - قبول كثير من المتشددين والراديكاليين بالحزبية والعمل السياسي، بعد تكفيرهم إياها، فشاهدنا تأسيس عدد من الراديكاليين والمتشددين ومشاركتهم في تأسيس عدد من الأحزاب السياسية عقب زلزال الانتفاضات العربية عام 2011 في مصر وليبيا وغيرهما، ممن كانوا يكفّرون الانتماء لها كما يكفّرون الديمقراطية وسبلها، ويعتبرونها دينًا مناقضًا للإسلام يكفّر من انتمى إليه أصلاً.
وتشمل الانشقاقات كل الحركات الأصولية المتشددة، وتنشط عند الأزمات والمغانم، وتخفت عند المكاسب والمغارم، لكنها تظل حاضرة وممكنة دائمًا، ويكشف ظهورها وبزوغها مساحات الاختلاف الكامنة بين عناصر التنظيم وقياداته، ويضرب في مقتل دعوى التطابق والانتماء الصلب الذي لا يعرف اللين أو المرونة، ويدّعي استقامة خط رفيع للطائفة المنصورة التي تنسبها كل جماعة لنفسها وفكرها وأميرها، يبدع ويتهم كل مخالف لها، قريبًا كان أو بعيدًا. ولكنها تحتمل كذلك الصراع والقتال فيما بينها، ليتحولوا لصفين متحاربين بعد أن كانوا في صف واحد ضد غيرهم.
هذا ما حدث بين المختلفين في صفوف «الجماعة الإسلامية المصرية»، وهو ما حدث بين قادة «الجهاد المصري» من مؤيدي مراجعات فضل ومعارضيها، وهو ما حدث بشكل أوضح بين «داعش» و«القاعدة» ومعها «جبهة النصرة» بشكل أوضح، بعد خلافهما في أبريل (نيسان) 2012، حول بيعة «النصرة» لأبو بكر البغدادي أمير «داعش» أم أيمن الظواهري أمير «القاعدة».. التنظيم الأم!
بل إن جدل البيعة والانشقاق نفسه لا يخلو من براغماتية ظاهرة في كثير من الأحيان. فكثير من التنظيمات الفرعية والصغيرة تبايع حسب المتوقع لصالحها من التنظيم الأم الذي تبايعه، ولم تكن بيعات «ولاية سيناء المصرية» أو «بوكو حرام» النيجيرية أو بعض المجموعات المتشددة في اليمن وغيرها، لتنظيم «داعش» بعد إعلانه خلافته وتصدره المشهد العالمي، إلا رغبة فيما يملكه هذا التنظيم الأم من قدرة على التمويل والدعم الإعلامي واللوجيستي للتنظيم الفرع.
وفي الإطار البراغماتي نفسه كانت البيعات تتوالى لـ«القاعدة» في فترة زعامة أسامة بن لادن لها، قبل مقتله في مايو (أيار) 2011، لما امتلكه من حضور في صفوف المتشددين وقدرته على التمويل والدعم اللوجيستي والاجتماع حوله من مختلف القيادات، وهو ما كان عكسه أثناء فترة خليفته أيمن الظواهري، الذي لا يتمتع بنفس الحضور والتأثير، ويبدو محاصرًا مأزومًا بعد مقتل سلفه.. وهو بالتالي عاجز عن دعم حلفائه بما يحتاجونه، بل إنه يعجز أحيانًا عن التعليق على أحداث مهمة يتعرضون لها، نظرًا لظروف التنظيم، الذي سحب «داعش» فعليًا البساط من تحت قدميه في كثير من المناطق.
من هنا تبدو الانشقاقات والخلافات، دلالة بينة على خطأ ما تدعيه هذه التنظيمات وعناصرها من صلابة، وما تكرره وتدعو إليه من دعوة الوحدة والتوحّد والبيعة، تنظيمًا وأمة، لأمير بعينه، وهشاشة كامنة في مبدأ «السمع والطاعة» و«الولاء والبراء» لدى هذه التنظيمات تؤكده صراعاتها وقتالاتها النظرية والميدانية، رغم التطابق في الإطار الفكري المؤسس، وهو في حالتنا الراديكالية المقاتلة التي تجمع بين «النصرة» و«القاعدة»، كما تجمع بينهما وبين تنظيم «داعش»، مع اختلافات جزئية أو تفصيلية وتأويلية صغيرة فيما بينها، كما تجمع الثلاثة بتنظيمات غيرها في الساحة السورية والعراقية وغيرهما، إلا أن الانشقاق والاختلاف وإمكانية الفصل والانفصال، عناصر أكثر من ادعاءات الوحدة والاتحاد، أو الوصل والاتصال.
يوم الخميس 28 يوليو (تموز) الماضي، جاء انشقاق «جبهة النصرة» في سوريا، وفك ارتباطها بشبكة «القاعدة»، على لسان زعيمها أبو محمد الجولاني، وإعلان الجولاني عن تشكيل جماعة جديدة تحت اسم «جبهة فتح الشام». وهو ما قوبل بشماتة من تنظيم داعش وعناصرها، وكذلك تشكيك في زعامتها وطلبه للانفراد بالقيادة.
لكن زعيم «جبهة النصرة» - أو «جبهة فتح الشام» - أبو محمد الجولاني حاول مسبقًا نفي ذلك، معلنًا في خطاب تلفزيوني مسجل بثته قناة الجزيرة القطرية، في أول ظهور علني له، قبول تنظيم «القاعدة» وقيادته قرار «النصرة» بفك الارتباط، وتفهمهم قرار فك الارتباط وشكرهم على ذلك. إذ قال الجولاني إن قرار فك الارتباط جاء «نزولاً عند رغبة أهل الشام في دفع الذرائع التي يتذرع بها المجتمع الدولي، وعلى رأسه أميركا وروسيا، في قصفهم وتشريدهم عامة المسلمين في الشام، بحجة استهداف جبهة النصرة التابعة لتنظيم قاعدة الجهاد، فقد قررنا إلغاء العمل باسم جبهة النصرة، وإعادة تشكيل جماعة جديدة ضمن جبهة عمل تحمل اسم جبهة فتح الشام».
وتابع الجولاني كلامه معلنًا أن «هذا التشكيل الجديد ليست له علاقة بأي جهة خارجية»، في إشارة غير مباشرة منه إلى تصحيح صورة جماعته وعلاقتها بـ«الإرهاب المعولم»، وتصحيح وضعيتها في الساحة السورية، سواءً من قبل قوات التحالف الدولي التي استمرت في تصنيفها جماعة إرهابية، أو سائر الفصائل الموجودة في سوريا.
وازداد هذا الإلحاح على وطنية حركيته ومركزية القضية السورية فيها بشكل واضح، حين عدّد الجولاني أهداف هذه الخطوة، قائلاً إن أبرزها «العمل على التوحد مع الفصائل لرص صف المجاهدين، ولنتمكن من تحرير أرض الشام من حكم الطواغيت والقضاء على النظام وأعوانه».
وقد أتى إعلان الجولاني قبول «القاعدة» وتفهمها قراره تأكيدًا من كلا الجماعتين على تكيفهما مع الأوضاع الجديدة، خصوصًا مع ظهور الغلو الداعشي الشقيق لهما، والمقاتل لكليهما معًا، ومع التصنيف الدولي المساوي بينهما، تأكيدًا على الفروق بين «داعش» وكليهما لدى مختلف المراقبين والمتابعين والمشاركين في الشأن السوري. لكن يظهر أن إعلان فك الارتباط كان منسقًا بين الطرفين بشكل واضح، لمنع شبهة أي انتصار داعشي حين إعلانه في صراعها مع «القاعدة» على قيادة العنف الأصولي عالميًا أو سوريًا، ويضعها في حرج الجمود مقابل قدرتهما معًا على التكيف والتوافق.
من ناحية ثانية، رغم مطالبة مختلف الفصائل على الساحة السورية، «جبهة النصرة»، بإعلان انفصالها عن «القاعدة» منذ وقت مبكر في أبريل 2012، بعد إعلانها بيعتها منفصلة عن «القاعدة في العراق» - «داعش» فيما بعد - فإن الاستجابة جاءت متأخرة جدًا ومدفوعة بظروف الواقع وتحدياته في أعقاب تقدم روسيا وبقايا نظام الأسد والميليشيات الإيرانية على جبهة حلب، بشمال سوريا، وعدد من المناطق التي كانت في حوزتها، كما أتى منسقًا كما ذكرنا بما لا يبدو معه خلافات بين «النصرة» و«القاعدة»، ويعطي فرصة أكبر لـ«داعش»، لاستثمارها.
كانت الإشارة أو المباركة الأولى من المنظر المتشدد أبو محمد المقدسي يوم الثلاثاء 19 يوليو الماضي، حين دعا «جبهة النصرة» للاستجابة لمطالب الشعب والعلماء والناصحين، وتغيير اسمها وفك ارتباطها بـ«القاعدة». وقال المقدسي في تغريدات له على «تويتر»: «مراعاة المطلب إن صار مطلبًا للشعب أو العلماء والناصحين، مهم ويدل على مرونة وفطنة المجاهدين، خصوصًا إن كان مطلبًا مشروعًا ليس فيه أي تنازل عن ثوابت».
وعن التسمية الجديدة يبدو الإرهاص بها في تغريدة للمقدسي في التاريخ نفسه، حين دعا «جبهة النصرة» لتغيير اسمها قائلاً: «وكذلك اسم (جبهة النصرة) أو غيره، إن صار عائقًا أو سببًا لاستهداف أهله، فتغييره أو التنازل عنه ليس تنازلاً عن قرآن، وفك الارتباط ليس ردة عند الحاجة إليه». وأضاف: «من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فلا يهمه الاسم، إنما يهمه وضوح هذه الغاية ومن جاهد لأجل اسم، وفارق لتغيره، فلا يحزن عليه». وبيّن: «نعلم أن اسم النصرة والارتباط ليس هو السبب الحقيقي لاستهداف الجبهة وأمثالها، بل السبب هو الراية والغاية وعدم الخضوع لمشاريع الأميركان وأذنابهم».
وتابع في تأكيد وتبرير هذا التحوّل بضغوط التحالف الدولي وقصفه مواقع «النصرة» واستهدافه لها بقوله: «أكثر أعداء الجبهة يدّعي أن المسمى والارتباط سبب مشاركة أميركا بالقصف، وانطلى هذا على الناس، فالإجراء الذي نصحت به إن لم يكف بأس أميركا، أبطل الدعوى».
أما الإشارة الثانية فكانت قبل إعلان الجولاني بساعات عبر تسجيل صوتي نشره تنظيم القاعدة، وتوجّه فيه أحمد حسن أبو الخير، «نائب» أيمن الظواهري وفق التسجيل، إلى «جبهة النصرة» بالقول: «نوجه قيادة جبهة النصرة إلى المضي قدمًا بما يحفظ مصلحة الإسلام والمسلمين ويحمي جهاد أهل الشام، ونحثهم على اتخاذ الخطوات المناسبة تجاه هذا الأمر».
وهكذا يجبر التاريخ والواقع، الانغلاق والتصلب الظاهر لجماعات التطرف العنيف على تغيير ارتباطاتها وهوياتها، بل وأسمائها، وإن كان اسم «جبهة النصرة» نفسه نابعًا من تنظيم داعش لوليده «النصرة»، حين أرسله «نصرة للشعب السوري» ضد الميليشيات الطائفية والإيرانية المساندة لنظام بشار الأسد ضد شعبه، وما زالت تسانده بدعم روسي.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.