بينما تتدافع مناكب كثير من الشعراء بحثًا عن مكان أو مكانة، أو نشدانًا لمجد ما، مهما كان لا مرئيًا، ثمة أحد ما يكتب القصة القصيرة، هذا الفن المهمش، الذي لا يقربه أحد، المختنق بين الشعر والرواية، اليوم، وأحسب أن من يتجنب الاقتراب من هذا الفن على حق، فهو من أصعب الفنون صناعة وأداء.
تجمع القصة القصيرة أكثر أشكال الفن والتدوين والتوثيق والسينما والرسم، بل الشعر حتى، لو تهيأت لكاتبها تلك القدرة على الاستفادة من الفنون كلها، حتى لإنجاز ومضة سردية، ربما تغني عن رواية تتيح لكاتبها التداعي والاسترسال فوق مساحات عريضة من الورق.
لكن ما الذي نجده لدى العراقي محمد علوان جبر في مجموعته القصصية الجديدة «تراتيل العكاز الأخير» وهو ينبش مواضع القتال، أثناء هدنة يقترحها شخصيًا، ولا تلزم أي طرف، لعله يجد ما أضاعه، هناك، عند جبال تحترق ووهاد احترقت وأنهار سوف تحترق.
الحرب لم تزل تندلع، في الأزمنة الثلاثة كلها، وهذا دخان الذاكرة يغطي الكلام ويحجب الرؤية، لكنه يفتح بابًا للأسئلة والبكاء والضحك، عندما يتقاطع منطق الجنود مع منطق الضباط: لماذا كل هذه المعاول والرفوش، يا سيدي؟
- إنها الحرب.
غالبًا ما يحدث هذا عندما يلتحق الجنود المستجدون بجبهات الحرب التي لا يعرفون عنها شيئًا عدا ما يسمعونه في نشرات الأخبار. لكنهم، حتى عندما يخوضونها، بكل التراب والخوف واليأس، فهم لا يعرفون أعداءهم في الخنادق المقابلة، حيث حروب الحداثة لا تشترط أن ترى وجه عدوك لتعرفه.
في قصته «حفارو الخنادق» ثمة منطقان للحرب: منطق الجنود الذين لا يعرفون ما الذي يفعلونه بهذه المعاول والمجارف، كما طلب منهم الضابط الأمرد القصير، الذي له منطقه المقابل: إنها ضرورة حفر المواضع كما في أي حرب.
«قال أحدنا.. إنها الحرب.. قلنا أي حرب؟».
وما السؤال الأخير إلا إنكارًا غريزيًا، إنكاريًا لا استنكاريًا، حيث لا أحد يريد أن يموت.
أحسب أن تلك هي الرسالة المشفرة قصصيًا، ليأتي تأكيدها لاحقًا، وختامًا: «حينما حلت الحرب التي غطتنا كغيمة سوداء، تساقطنا واحدًا تلو الآخر، ولم تنفع كل الحفر التي حفرناها بالمعاول والمجارف». وأرى أن تنتهي القصة عند هذا الحد.
في «ضوء أزرق عن أسفل الوادي» يقوم القاص بمهمة مترجم وناقد أثناء قراءته في دفتر «العدو» عثر عليه أخوه الجندي «فخري»، في موضع محترق للأعداء، لكن ما بقي سليمًا من الدفتر يكفي لاستنباط أفكار «العدو»، وهو جندي إيراني اسمه «غلام رضا أكبري» مكتوب باللغة الفارسية، طبعًا، ما يستدعي الجندي أن يستعين بأخيه الذي يعرف الفارسية ليترجم له محتويات ذاك الدفتر من رسوم وكلمات ورموز.
في هذه القصة أكثر من بؤرة جديرة بالتأمل، لكنها يمكن أن تقع تحت باب نسميه بـ«التراسل الإنساني» الذي يتيحه ذلك الدفتر، فثمة تراسل بين الجندي، صاحب الدفتر، وحبيبته عبر ما دونه من رسائل ومناجيات شخصية: «حبيبتي، كم أُصاب بالهلع حينما يشتد سقوط السكاكين الساخنة للشظايا على سفح الجبل... حبيبتي في الظهيرة التي تشبه هذه الظهيرة، التي أكتب لك فيها الآن، أراك تقفين في الباب، ربما كنت تفكرين بي كما أفكر بك».
التراسل الآخر يجيء عبر الجندي العراقي و«عدوّه» عبر الدفتر، ثم عبر الأخ المترجم وأخيه، ضمن فضاء إنساني أوسع، يتمثل بأنسنة كائنات حية يرقبها الجندي، وهو يتمثل تناسل الأفاعي في «رقصة جميلة». أو عندما يكتب: «من مكمني، في الجبل، أرى يرقات فراشات تسير قريبًا من ساق شجرة في السفح الذي بدأ يخضر بعد ذوبان الثلج، يرقات معلمة بشرائح حمراء وصفراء مع ألواح من الأزرق الغامق».
هذا التأمل الحميم للطبيعة وكائناتها بمثابة حيلة دفاعية ضد الحرب، وما هو إلا أسلوب آخر لإنكارها وطردها حتى من المخيلة، واستبدالها بجمال الألوان وعلاقات الأرواح الحية، بديلاً عن روح الحرب الميتة. أو قل هو الهرب من جحيم الواقع المشتعل إلى جنة الخيال الخلاق، وإن بدا على شكل «حيلة دفاعية» حسب المصطلح الفرويدي.
يأخذ «التراسل» شكلاً أكثر اتساعًا عندما يتساءل الجندي، بعد أن رأى صخرة على السفح نحتتها الطبيعة، أو نحتها خياله، على شكل «امرأة زرقاء على الطريق الصاعدة إلى القمة وهي تدير رأسها بيننا وبينهم. أحيانًا أكاد أسمع همسها في أذني وهي تحدثني بألم: إن الحرب بدأت توجع خاصرتها».
لتأتي خاتمة «التراسل» بين الأرواح المتطلعة للسلام والحب بقول «فخري» الجندي العراقي الذي عثر على دفتر «العدو»، وهو يتعاطف مع آدميته المحصورة في هيئة جندي أجبر على أن يخوض مثل هذه الحرب: «كنت أتعمد حديثًا مفترضًا مع الفضاءات الزرقاء، وأطالع انحداراتها، وأبعث له بتحية لا أعلم هل تصل أم لا، وأتخيله وهو يقف في المكان الذي يقابلني، وهو يتطلع إلى فضاءات الجانب الآخر من الجبل، محاولاً إخفاء انهماكه برد التحية لي، كما أفعل أنا».
ثمة بنية كلية تنتظم إيقاع المجموعة، تتمثل في الشجن الدافق الذي يغذي السرد وهو يأخذ القارئ نحو عالم موازٍ بديل، يخفف من وطأة القسوة والعنف، عبر كشف الوجه اللا مرئي للقسوة؛ كأنه وجهها الآخر، في كتابة يكفلها خيال غير متكلف، ويستنقذ البشر من تلك الظلمة التي تخيم على العالم.
ساق صناعية يضعها جامع السيقان الصناعية لنفسه، فتقوده إلى بيت تلك الأرملة، أرملة صاحب الساق الأصلية، رغمًا عنه كلما حاول السير باتجاه مختلف، كأن روح صاحبها قد تقمصته لتقوده إلى بيته، كما في قصة «تراتيل العكاز الأخير» عنوان المجموعة، حيث للعكاز تراتيله يتلوها بنبرة خافتة.
يكتب محمد علوان جبر حكاياته المشجونة، وهو في حالة سهل ممتنع، حتى في أشد لحظات وجعه، حيث الواقع الأصم يملي على البشر مزيدًا من ابتكارات المقاومة، وإن جاءت على شكل «حيل دفاعية».
الحرب لا تزال مندلعة يا إخوتي الجنود
محمد علوان جبر في قصصه «تراتيل العكاز الأخير»
الحرب لا تزال مندلعة يا إخوتي الجنود
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة