سيترك رحيل المخرج محمد خان فراغًا كبيرًا في السينما المصرية على الأقل، بمعنى أنه من غير المحتمل أن يقدم سينمائي جديد على التقاط ما تركه المخرج الرائع من أسلوب بصري ومن لغة فنية ليطور، أو ليكمل إذا لم يستطع التطوير، الرحلة الإبداعية للمخرج الراحل.
هذا ناتج عن عاملين مهمين. الأول أن هناك حقبة من السينما المصرية انتهت قبل سنوات كثيرة تميّزت بسعي السينمائيين للعمل تحت مظلة واحدة. في السبعينات، انطلقت مجموعة سمّت نفسها بـ«السينما الجديدة»، وتألفت من كتاب ومخرجين من بينهم علي عبد الخالق وغالب شعث. في الثمانينات، انتقلت «أفلام الصحبة» التي كانت الغطاء لعدد أكبر من السينمائيين الشبّان (حينها) ومن فايز غالي وبشير الديك ومحمد خان وخيري بشارة وسعيد الشيمي.
معظم من ورد اسمه غائب عن العمل أو مغيّب. هناك من رحل (فايز غالي)، وهناك من اتجه للتلفزيون تبعًا للظروف الصعبة التي يجد فيها السينمائي العريق نفسه فيها هذه الأيام (علي عبد الخالق، وخيري بشارة)، وهناك من انقطع عن العمل، مفضلاً النأي عن التنافس على فرص هي في الأصل نادرة لأبناء جيله (غالب شعث على سبيل المثال).
أتاحت تلك الموجة الثنائية للسينما المختلفة عن السائد الوجود وأثراها عمل مخرجيها خصوصًا محمد خان وخيري بشارة وبشير الديك، و(من خارج المجموعة) الراحلين سعيد مرزوق ورأفت الميهي من بين آخرين.
بوصول السينما المصرية إلى عثرة التسعينات ومطلع القرن الحالي، حيث أصر المنتجون على التعامل مع إبداع المخرجين بشروطهم وعبر رؤيتهم الخاصة (غاب الغطاء الإنتاجي المستقل الذي كان وفّره المنتج حسين القلاّ)، انتهى التأثير المباشر لتلك المجموعة، ثم انفرط العقد (وإن لم تنفرط الصداقة) وتولّى كل سينمائي العمل منفصلاً ومتتبعًا مصيره المنفرد.
تأثير سابق
العامل الثاني، بالنتيجة، هو أن غياب التيار المستقل (وبقاء أفلام مستقلة قليلة من حين لآخر)، ترك المخرج الجديد القادم للمرّة الأولى أمام اختيارين: طريق طويل يسلكه بلا نهاية في الأفق، وطريق مختصر ينجز فيه ما يحلم بإنجازه، إنما بطبعة شعبية يمولها المنتج الذي يعرف كل شيء.
معظم هؤلاء اختار الطريق الثاني حتى يبرهن لنفسه ولمن حوله بأنه لم يصرف سنوات دراسته على مستقبل مهدور.
والغريب في الموضوع ولو إلى حد، أن التأثير المنتقل من جيل إلى آخر كان باديا على رعيل السينما المصرية في سنوات نضرتها الأولى في الخمسينات والستينات. والحقيقة أنه كان لكل مخرج في تلك الفترة مرجعه المفضل: صلاح أبو سيف والواقعية التي نشأت على الساحل الجنوبي لإيطاليا في الأربعينات. كمال الشيخ وفيلمه التشويقي ذو اللمسة الهيتشكوكية، نيازي مصطفى وتأثره بالأفلام الهوليوودية، كما حسن الإمام ومشواره مع الأدب الفرنسي، وحسام الدين مصطفى والأسلوب الأميركي العام.
وسواء أنجح البعض (أبو سيف والشيخ) في شق أسلوبه الخاص وتمصير الحكايات على نحو ناجح، أو سقط خلال المحاولة، إلا أن الجميع كان رائدًا، فيما اختار وشهد أتباعًا ساروا في الدروب ذاتها خلال الخمسينات والستينات.
وعلى نحو منفرد، شاهدنا كيف انطلق المخرج يوسف شاهين تدريجيًا من سينما شعبية (كوميدية ومعارك) إلى سينما فنية، مدركًا حاجته إلى التعبير الذاتي، وطرح ذلك على الشاشات العالمية، ثم كيف تأثر به عدد من المخرجين الآخرين ومنهم يسري نصر الله وخالد الحجر وخالد يوسف.
هذا لم يحدث مع تياري «السينما الجديدة» و«أفلام الصحبة»، ولا حتى عندما فرط التحالف الوثيق بين سينمائيي التيارين. فالآتون من بعد، حتى المشتغلون منهم في السينما الفنية، مثل داوود عبد السيد وإبراهيم البطوط، لم يتأثروا بل عمدوا إلى مناهجهم الخاصّة بأساليب تعبير ورؤى غير متّصلة بما وضعه المخرجون السابقون لهم مباشرة ولا حتى بمخرجي الخمسينات والستينات.
لذلك كله، لن يوجد بديل يكمل مشوار أحد. بل هو سينمائي لديه خياران أحدهما قد يضعه في سدة العمل بوصفه معبرا عن جيل حاضر، والآخر سيعود عليه بالنجاح التجاري وحده.