فرنسا في مواجهة الإرهاب

حرب السياسيين وتحذيرات الأكاديميين

انتشار أمني فرنسي عقب هجمات باريس (أ.ف.ب)
انتشار أمني فرنسي عقب هجمات باريس (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب

انتشار أمني فرنسي عقب هجمات باريس (أ.ف.ب)
انتشار أمني فرنسي عقب هجمات باريس (أ.ف.ب)

أظهرت الأحداث الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا منذ عام 2015م أن هذه الدولة الأوروبية أصبحت مسرحًا للإرهاب المعولم. فلوقت قريب كانت فرنسا في طليعة دول البحر الأبيض المتوسط القوية المواجهة للإرهاب في عقر داره في أفغانستان، وفي الصحراء الأفريقية كذلك، خاصة مالي، وفي العراق، وأخيرا في سوريا وليبيا. في كل هذه الجغرافية الواسعة كانت الوحدات الخاصة والجيش الفرنسي تخوض حربًا حقيقية ضد التنظيمات والجماعات التي تعتبرها باريس إرهابية. ومنذ غزو أفغانستان والعراق، انغمست فرنسا بشكل انفرادي تارة، وعن طريق نسج تحالفات على الأرض مع بعض القوى الغربية تارة أخرى في حرب عسكرية، لم يعلنها السياسيون ولم يكشفوا عنها وعن دوافعها للشعب الفرنسي، إلا أخيرًا عندما تعرضت فرنسا لما يعتبره الإرهابيون غزوة باريس في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 التي راح ضحيتها 129 قتيلا و200 جريح.
طبول الحرب ضد الإرهاب المعلوم، المتسربل زورًا سربال الإسلام، لم يعلنها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند لوحده، فقد انضم إليه رئيس حكومته منذ البداية، كما أعلن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي بدوره أنها «حرب» و«ليس لنا خيار إلا الانتصار فيها». يأتي هذا المسار السياسي إذن بعد سلسلة من الهجمات النوعية التي تعرضت لها كل من باريس ونيس (يوم الخميس 15‏ / 07‏ / 2016)، ووصلت مثل هذه الجرائم لهوامش المدن في عملية كنيسة النورماندي بشمال غربي فرنسا الثلاثاء 26 يوليو (تموز)، أسفرت عن قتل قس ذبحًا على يد المهاجمين؛ محققة بذلك رعبًا عامًا في البلاد مما دفع الفرنسيين إلى التزام منازلهم وعدم النزول للاحتفالات العامة، وهو مؤشر مقلق يدل على إحساس مجتمعي عميق بفقدان الأمن داخل حدود الدولة.
في ظل هذا الوضع العام، تدخلت النخب السياسية لاستثمار التعبئة العامة ضد الإرهاب لأهداف حزبية انتخابية، ونادى الرئيس اليميني السابق نيكولا ساركوزي بضرورة تشديد الترسانة القانونية المتعلقة بالأجانب والإرهاب. وذهب اليمين المتطرف أبعد من ذلك حينما اقترح روزنامة من الإجراءات أكثر مصادرة للحقوق والحريات، من تلك التي يقترحها ساركوزي. غير أن الأكاديميين المتخصصين في قضايا الإرهاب بفرنسا، سبحوا منذ البداية ضد طروحات النخبة الحزبية، وخطابها السياسي والإعلامي، وحذّروا من مغبة تشجيع ثقافة اليمين واليمين المتطرف الفرنسي، التي أسست لظاهرة «الإسلاموفوبيا» في فرنسا، والتي وقفت ضد بعض الحقوق والحريات الدينية مثل لبس الحجاب والرموز الدينية في الفضاءات العامة.
أكثر من ذلك رفض كل من جيل كيبيل وأولييفيه روا، وهما أبرز الخبراء الأكاديميين المتخصصين في قضايا الإرهاب والشرق الأوسط، مقولة النخبة السياسية القائلة بأن فرنسا في «حرب» ضد «داعش» والإرهاب. إذ اعتبر كيبيل أن النخبة الحزبية والإعلامية الفرنسية ليست مؤهلة لمعرفة تطورات الثقافة السياسية والتنظيمية للحركات الإرهابية، وأن هذا كاف لحدوث الارتباك الذي تعيشه السياسة الفرنسية في مواجهتها للإرهاب، ولذلك تزعم أننا في «حرب»؛ فهذه الدعوة دليل على عجز السياسيين على فهم طبيعة تحول الإرهاب زمن العولمة. ومن ثم أشار كيبيل في كتابه: «رعب في فرنسا، نشأة الجهاد الفرنسي» الصادر عن دار النشر الفرنسية «غاليمار» 2016، إلى أن «الجيل الجديد» من الإرهابيين الفرنسيين استفاد من تطورات الفكر «الراديكالي» في الثمانينات من القرن العشرين، لكنه شهد انعطافا كبيرا مع الحرب بالجزائر خلال تسعينات ذلك القرن، حين انضم الشباب الفرنسي من أصول جزائرية للتنظيمات الإرهابية وبدأت النشاط في الأراضي الفرنسية. لكن ما لم تستوعبه النخب الحزبية والإعلامية، حسب أستاذ العلوم السياسية كيبيل، هو «عالمية وعولمية» الإرهاب. ذلك أن تنظيم داعش عالمي، وهو يتعايش مع العولمة، ولذا يخوض المواجهة في أوروبا بقصد تدميرها من الداخل، باستعمال «جنود» من الجيل الثالث والرابع من مسلمي فرنسا. هذا - كما يرى كيبيل - يجعل المواجهة شرسة، وتحتاج لاستيعاب وإعادة نظر في السياسات العامة الموجهة للمسلمين بأوروبا، وفرنسا تحديدا، بشكل يسحب البساط من تحت «داعش» والفكر المتطرف عمومًا. وهذا الهدف الاستراتيجي لن يتحقق من دون اندماج الجيل الجديد من الشباب في المجتمع الأوروبي والفرنسي وتمتعه بحقوق المواطنة.
وفي مقاربة أكثر تفسيرية يقدم أوليفييه روا، باعتباره كبير المتخصصين الفرنسيين في التنظيمات الإرهابية، أطروحة تناقش طبيعة المواجهة بين فرنسا والإرهاب. ويعتقد روا أن كلمة «الحرب» غير واقعية ولا تعبر عن الحدث الواقع. إذ إن «داعش» تهاجم فرنسا باستمرار في عقر دارها، لكن هذا التنظيم ليس «دولة» تشبه دولة «طالبان» في أفغانستان إبان الهجوم على نيويورك 2001. بل إن تنظيم البغدادي نموذج لحلم الخلافة المتوهمة، وحينما يقول الرئيس الفرنسي الحالي هولاند والرئيس السابق ساركوزي: «إننا في حرب»، فإن الإشكال يبدأ في أسلوب المواجهة. ومن ثم يرى أستاذ العلوم السياسية روا أنه «لا سبيل إلى الفوز بالحرب من غير اللجوء للقوات برية، ويبدو أن فرنسا وحدها مَن يرغب في القضاء على (داعش)». ولكنها لا تستطيع تحقيق مرادها، كما أنها غير قادرة على شن حرب على جبهتين: الشرق الأوسط ومنطقة الساحل الأفريقي. وعليه فلسان حال فرنسا اليوم هو «العين بصيرة واليد قصيرة». وفي المقابل حال «داعش» من حال فرنسا. فـ«داعش» لا يملك القدرة على بلوغ أهدافه. وإثر سيطرته السريعة على رقعة أراض واسعة في الشرق الأوسط، تقتصر نجاحاته اليوم على تصدّره عناوين الصحف وانشغال رواد وسائط التواصل الاجتماعي به، بشكل أكثر من اهتمامهم بنجاحات «القاعدة». ويمكن القول حاليا إن «داعش» بلغ أقصى ما يمكنه بلوغه.
علينا أن نستحضر أن الإرهاب الداعشي وهو يكرّر ضرباته في فرنسا، إنما يحاول بذلك الظهور بمظهر المنتصر في الوقت الذي يفقد فيه بريقه في الشرق الأوسط، خاصة في العراق، كما أنه يواجه مشكلات الحصار في سوريا.
ولكن علينا كذلك أن نأخذ بعين الاعتبار أيضًا، استراتيجيته العولمية في الانتماء والتجنيد، حيث يخترق الفعل الداعشي جغرافية الولادة والانتماء العربي الإسلامي. ويرى الخبير روا أن هذا المنهج يتحول إلى هوية غير محددة و«يبدو هذا اللاّ انتماء جليًّا عندما ندرس منفذي العمليات الانتحارية اجتماعيًا. هذا ما اسميته «اللاإقليمية / اللاترابية»: فهم لا يقاتلون مطلقًا من أجل جماعة ملموسة من المسلمين، لا يندمجون مطلقًا مع هذه الجماعة. هم يمارسون الترحال الراديكالي، وغالبًا إلى محيط العالم الإسلامي (الشيشان، أفغانستان، الساحل، البوسنة). ويأتون غالب الوقت من المحيط الغربي (أوروبا، الولايات المتحدة). مسارهم يضم غالبًا ثلاثة بلدان (بلد الأصل الذي تنحدر منه عائلتهم، بلد منشئهم، وبلد فعلهم وعملياتهم). ومن بينهم عدد كبير من معتنقي الإسلام (والنسبة آخذة في التزايد: يبدو أنها تبلغ ثلث الشبان الذين يغادرون إلى سوريا، وكانت في تسعينات القرن الماضي تدور حول نسبة 20 في المائة)».
يبدو كذلك أن ما تعيشه فرنسا، يتطلب مقاربة جديدة تتجاوز اللقاءات مع مختلف ممثلي الديانات، ومع المؤسسات الدينية التي ترعى وتتحكم فرنسا في هياكلها، عبر التوجيه المباشر أو التحكم عن بعد. فالجيل الإرهابي الجديد لا علاقة له بمؤسسات المسلمين المعترف بها، ولا علاقة لهم بالمساجد، والجمعيات الإسلامية المدنية المختلفة. إنهم شباب راديكالي ضد الحركات الإسلامية مثلما هم ضد الغرب الذي يعتبرونه صليبيًا.
وهكذا، علينا ونحن نواجه الإرهاب أن نأخذ بعين الاعتبار قضية مركزية يلخصها أوليفييه روا في «التمييز بين الحركات والأحزاب الإسلامية المعتدلة، والتنظيمات الإرهابية». وفي ذلك يقول روا «والحق يقال، لم تحضن الحركات الإسلامية السياسية الغلو الراديكالي، لا في الجزائر مع جبهة الإنقاذ الإسلامية، ولا في المغرب مع حزب العدالة والتنمية، ولا في فرنسا أو سوريا أو الأردن أو حركة النهضة التونسية أو جماعتي إسلامي بباكستان. وفي أفغانستان، اغتيل الإخواني عبد الله عزام، رائد الحركة الراديكالية ضد السوفيات، في 1989، لأنه عارض الانحراف الإرهابي والمناهض للغرب الذي رفع لواءه خالف عزام، أسامة بن لادن. ولم يكن بن لادن إخوانيًا، في يوم من الأيام. إن «الراديكالية» الإسلامية اليوم هي ثمرة العولمة واضمحلال الثقافة الإسلامية، وليست وليدة الأحزاب الإسلامية، على ما وصفت في كتابي «الإسلام المعولم» – والكلام لا يزال لروا.
من ناحية أخرى، يبدو أن تبني تنظيم «داعش» للجريمة البشعة التي استهدفت كنيسة النورماندي، واعتبار منفذي الهجوم الإرهابي «جنديين من جنود التنظيم في فرنسا، نفذا العملية «استجابة لنداءات استهداف دول التحالف الصليبي» يؤكد أن المواجهة المفتوحة بين «داعش» والتنظيمات الإرهابية مع باريس ستطول، ويطول معها النقاش السياسي. وستزداد أيضًا الهوة بين السياسيين والأكاديميين المتخصصين في الإرهاب. ذلك أن همجية الفكر والفعل الإرهابي، يجد أمامه في فرنسا ثقافة غير متسامحة مع الدين، تتحول لموجات متتالية من الإسلاموفوبيا يغذيها اليمين واليمين المتطرف الفرنسي؛ وهو ما يحقق حسب أوليفييه روا، وجيل كيبيل هدف «داعش» الرامي لتقسيم المجتمعات وتدميرها بالحرب الداخلية.
* أستاذ العلوم السياسية - جامعة محمد الخامس، الرباط



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.