فرنسا في مواجهة الإرهاب

حرب السياسيين وتحذيرات الأكاديميين

انتشار أمني فرنسي عقب هجمات باريس (أ.ف.ب)
انتشار أمني فرنسي عقب هجمات باريس (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب

انتشار أمني فرنسي عقب هجمات باريس (أ.ف.ب)
انتشار أمني فرنسي عقب هجمات باريس (أ.ف.ب)

أظهرت الأحداث الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا منذ عام 2015م أن هذه الدولة الأوروبية أصبحت مسرحًا للإرهاب المعولم. فلوقت قريب كانت فرنسا في طليعة دول البحر الأبيض المتوسط القوية المواجهة للإرهاب في عقر داره في أفغانستان، وفي الصحراء الأفريقية كذلك، خاصة مالي، وفي العراق، وأخيرا في سوريا وليبيا. في كل هذه الجغرافية الواسعة كانت الوحدات الخاصة والجيش الفرنسي تخوض حربًا حقيقية ضد التنظيمات والجماعات التي تعتبرها باريس إرهابية. ومنذ غزو أفغانستان والعراق، انغمست فرنسا بشكل انفرادي تارة، وعن طريق نسج تحالفات على الأرض مع بعض القوى الغربية تارة أخرى في حرب عسكرية، لم يعلنها السياسيون ولم يكشفوا عنها وعن دوافعها للشعب الفرنسي، إلا أخيرًا عندما تعرضت فرنسا لما يعتبره الإرهابيون غزوة باريس في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 التي راح ضحيتها 129 قتيلا و200 جريح.
طبول الحرب ضد الإرهاب المعلوم، المتسربل زورًا سربال الإسلام، لم يعلنها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند لوحده، فقد انضم إليه رئيس حكومته منذ البداية، كما أعلن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي بدوره أنها «حرب» و«ليس لنا خيار إلا الانتصار فيها». يأتي هذا المسار السياسي إذن بعد سلسلة من الهجمات النوعية التي تعرضت لها كل من باريس ونيس (يوم الخميس 15‏ / 07‏ / 2016)، ووصلت مثل هذه الجرائم لهوامش المدن في عملية كنيسة النورماندي بشمال غربي فرنسا الثلاثاء 26 يوليو (تموز)، أسفرت عن قتل قس ذبحًا على يد المهاجمين؛ محققة بذلك رعبًا عامًا في البلاد مما دفع الفرنسيين إلى التزام منازلهم وعدم النزول للاحتفالات العامة، وهو مؤشر مقلق يدل على إحساس مجتمعي عميق بفقدان الأمن داخل حدود الدولة.
في ظل هذا الوضع العام، تدخلت النخب السياسية لاستثمار التعبئة العامة ضد الإرهاب لأهداف حزبية انتخابية، ونادى الرئيس اليميني السابق نيكولا ساركوزي بضرورة تشديد الترسانة القانونية المتعلقة بالأجانب والإرهاب. وذهب اليمين المتطرف أبعد من ذلك حينما اقترح روزنامة من الإجراءات أكثر مصادرة للحقوق والحريات، من تلك التي يقترحها ساركوزي. غير أن الأكاديميين المتخصصين في قضايا الإرهاب بفرنسا، سبحوا منذ البداية ضد طروحات النخبة الحزبية، وخطابها السياسي والإعلامي، وحذّروا من مغبة تشجيع ثقافة اليمين واليمين المتطرف الفرنسي، التي أسست لظاهرة «الإسلاموفوبيا» في فرنسا، والتي وقفت ضد بعض الحقوق والحريات الدينية مثل لبس الحجاب والرموز الدينية في الفضاءات العامة.
أكثر من ذلك رفض كل من جيل كيبيل وأولييفيه روا، وهما أبرز الخبراء الأكاديميين المتخصصين في قضايا الإرهاب والشرق الأوسط، مقولة النخبة السياسية القائلة بأن فرنسا في «حرب» ضد «داعش» والإرهاب. إذ اعتبر كيبيل أن النخبة الحزبية والإعلامية الفرنسية ليست مؤهلة لمعرفة تطورات الثقافة السياسية والتنظيمية للحركات الإرهابية، وأن هذا كاف لحدوث الارتباك الذي تعيشه السياسة الفرنسية في مواجهتها للإرهاب، ولذلك تزعم أننا في «حرب»؛ فهذه الدعوة دليل على عجز السياسيين على فهم طبيعة تحول الإرهاب زمن العولمة. ومن ثم أشار كيبيل في كتابه: «رعب في فرنسا، نشأة الجهاد الفرنسي» الصادر عن دار النشر الفرنسية «غاليمار» 2016، إلى أن «الجيل الجديد» من الإرهابيين الفرنسيين استفاد من تطورات الفكر «الراديكالي» في الثمانينات من القرن العشرين، لكنه شهد انعطافا كبيرا مع الحرب بالجزائر خلال تسعينات ذلك القرن، حين انضم الشباب الفرنسي من أصول جزائرية للتنظيمات الإرهابية وبدأت النشاط في الأراضي الفرنسية. لكن ما لم تستوعبه النخب الحزبية والإعلامية، حسب أستاذ العلوم السياسية كيبيل، هو «عالمية وعولمية» الإرهاب. ذلك أن تنظيم داعش عالمي، وهو يتعايش مع العولمة، ولذا يخوض المواجهة في أوروبا بقصد تدميرها من الداخل، باستعمال «جنود» من الجيل الثالث والرابع من مسلمي فرنسا. هذا - كما يرى كيبيل - يجعل المواجهة شرسة، وتحتاج لاستيعاب وإعادة نظر في السياسات العامة الموجهة للمسلمين بأوروبا، وفرنسا تحديدا، بشكل يسحب البساط من تحت «داعش» والفكر المتطرف عمومًا. وهذا الهدف الاستراتيجي لن يتحقق من دون اندماج الجيل الجديد من الشباب في المجتمع الأوروبي والفرنسي وتمتعه بحقوق المواطنة.
وفي مقاربة أكثر تفسيرية يقدم أوليفييه روا، باعتباره كبير المتخصصين الفرنسيين في التنظيمات الإرهابية، أطروحة تناقش طبيعة المواجهة بين فرنسا والإرهاب. ويعتقد روا أن كلمة «الحرب» غير واقعية ولا تعبر عن الحدث الواقع. إذ إن «داعش» تهاجم فرنسا باستمرار في عقر دارها، لكن هذا التنظيم ليس «دولة» تشبه دولة «طالبان» في أفغانستان إبان الهجوم على نيويورك 2001. بل إن تنظيم البغدادي نموذج لحلم الخلافة المتوهمة، وحينما يقول الرئيس الفرنسي الحالي هولاند والرئيس السابق ساركوزي: «إننا في حرب»، فإن الإشكال يبدأ في أسلوب المواجهة. ومن ثم يرى أستاذ العلوم السياسية روا أنه «لا سبيل إلى الفوز بالحرب من غير اللجوء للقوات برية، ويبدو أن فرنسا وحدها مَن يرغب في القضاء على (داعش)». ولكنها لا تستطيع تحقيق مرادها، كما أنها غير قادرة على شن حرب على جبهتين: الشرق الأوسط ومنطقة الساحل الأفريقي. وعليه فلسان حال فرنسا اليوم هو «العين بصيرة واليد قصيرة». وفي المقابل حال «داعش» من حال فرنسا. فـ«داعش» لا يملك القدرة على بلوغ أهدافه. وإثر سيطرته السريعة على رقعة أراض واسعة في الشرق الأوسط، تقتصر نجاحاته اليوم على تصدّره عناوين الصحف وانشغال رواد وسائط التواصل الاجتماعي به، بشكل أكثر من اهتمامهم بنجاحات «القاعدة». ويمكن القول حاليا إن «داعش» بلغ أقصى ما يمكنه بلوغه.
علينا أن نستحضر أن الإرهاب الداعشي وهو يكرّر ضرباته في فرنسا، إنما يحاول بذلك الظهور بمظهر المنتصر في الوقت الذي يفقد فيه بريقه في الشرق الأوسط، خاصة في العراق، كما أنه يواجه مشكلات الحصار في سوريا.
ولكن علينا كذلك أن نأخذ بعين الاعتبار أيضًا، استراتيجيته العولمية في الانتماء والتجنيد، حيث يخترق الفعل الداعشي جغرافية الولادة والانتماء العربي الإسلامي. ويرى الخبير روا أن هذا المنهج يتحول إلى هوية غير محددة و«يبدو هذا اللاّ انتماء جليًّا عندما ندرس منفذي العمليات الانتحارية اجتماعيًا. هذا ما اسميته «اللاإقليمية / اللاترابية»: فهم لا يقاتلون مطلقًا من أجل جماعة ملموسة من المسلمين، لا يندمجون مطلقًا مع هذه الجماعة. هم يمارسون الترحال الراديكالي، وغالبًا إلى محيط العالم الإسلامي (الشيشان، أفغانستان، الساحل، البوسنة). ويأتون غالب الوقت من المحيط الغربي (أوروبا، الولايات المتحدة). مسارهم يضم غالبًا ثلاثة بلدان (بلد الأصل الذي تنحدر منه عائلتهم، بلد منشئهم، وبلد فعلهم وعملياتهم). ومن بينهم عدد كبير من معتنقي الإسلام (والنسبة آخذة في التزايد: يبدو أنها تبلغ ثلث الشبان الذين يغادرون إلى سوريا، وكانت في تسعينات القرن الماضي تدور حول نسبة 20 في المائة)».
يبدو كذلك أن ما تعيشه فرنسا، يتطلب مقاربة جديدة تتجاوز اللقاءات مع مختلف ممثلي الديانات، ومع المؤسسات الدينية التي ترعى وتتحكم فرنسا في هياكلها، عبر التوجيه المباشر أو التحكم عن بعد. فالجيل الإرهابي الجديد لا علاقة له بمؤسسات المسلمين المعترف بها، ولا علاقة لهم بالمساجد، والجمعيات الإسلامية المدنية المختلفة. إنهم شباب راديكالي ضد الحركات الإسلامية مثلما هم ضد الغرب الذي يعتبرونه صليبيًا.
وهكذا، علينا ونحن نواجه الإرهاب أن نأخذ بعين الاعتبار قضية مركزية يلخصها أوليفييه روا في «التمييز بين الحركات والأحزاب الإسلامية المعتدلة، والتنظيمات الإرهابية». وفي ذلك يقول روا «والحق يقال، لم تحضن الحركات الإسلامية السياسية الغلو الراديكالي، لا في الجزائر مع جبهة الإنقاذ الإسلامية، ولا في المغرب مع حزب العدالة والتنمية، ولا في فرنسا أو سوريا أو الأردن أو حركة النهضة التونسية أو جماعتي إسلامي بباكستان. وفي أفغانستان، اغتيل الإخواني عبد الله عزام، رائد الحركة الراديكالية ضد السوفيات، في 1989، لأنه عارض الانحراف الإرهابي والمناهض للغرب الذي رفع لواءه خالف عزام، أسامة بن لادن. ولم يكن بن لادن إخوانيًا، في يوم من الأيام. إن «الراديكالية» الإسلامية اليوم هي ثمرة العولمة واضمحلال الثقافة الإسلامية، وليست وليدة الأحزاب الإسلامية، على ما وصفت في كتابي «الإسلام المعولم» – والكلام لا يزال لروا.
من ناحية أخرى، يبدو أن تبني تنظيم «داعش» للجريمة البشعة التي استهدفت كنيسة النورماندي، واعتبار منفذي الهجوم الإرهابي «جنديين من جنود التنظيم في فرنسا، نفذا العملية «استجابة لنداءات استهداف دول التحالف الصليبي» يؤكد أن المواجهة المفتوحة بين «داعش» والتنظيمات الإرهابية مع باريس ستطول، ويطول معها النقاش السياسي. وستزداد أيضًا الهوة بين السياسيين والأكاديميين المتخصصين في الإرهاب. ذلك أن همجية الفكر والفعل الإرهابي، يجد أمامه في فرنسا ثقافة غير متسامحة مع الدين، تتحول لموجات متتالية من الإسلاموفوبيا يغذيها اليمين واليمين المتطرف الفرنسي؛ وهو ما يحقق حسب أوليفييه روا، وجيل كيبيل هدف «داعش» الرامي لتقسيم المجتمعات وتدميرها بالحرب الداخلية.
* أستاذ العلوم السياسية - جامعة محمد الخامس، الرباط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.