المكسيك والاستعمار الإسباني

من التاريخ

المكسيك والاستعمار الإسباني
TT

المكسيك والاستعمار الإسباني

المكسيك والاستعمار الإسباني

تعد المكسيك دولة متميزة بحق في مجالات كثيرة، فجغرافية هذه الدولة خاصة، فبها الصحاري والوديان، والغابات والأراضي القاحلة، كما أن بها السهول والبراكين العملاقة مثل البركان «بوبوكاتبتل»، الذي يشعر الإنسان بضعف حجمه وهو بجوار هذا الصرح الجيولوجي العظيم الذي ظل يرمي حممه ونيرانه حتى سنوات معدودات، كذلك فهي من أغنى الثقافات اللاتينية على الإطلاق، خرج منها الأدباء ليفوزوا بجائزة نوبل، كما أن بها صناعة سينما وتلفزيون تتفوق بها على شقيقاتها بأميركا اللاتينية، حتى إن فرق كرة القدم المكسيكية بدأت تتنافس على القمم، ومع ذلك فإن المحيط الأطلسي أبعد المكسيك ودول أميركا اللاتينية الأخرى عن مرمى التاريخ والثقافة بالنسبة للعرب، وذلك على الرغم من أن الجيش المصري سبق له أن حارب في المكسيك بلواءين لمساندة حكم الإمبراطور المكسيكي «مكسيمليان» بدعم من الإمبراطور نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر.
إن تاريخ هذه الدولة العريقة يشتمل على مراحل تستحق منا الوقوف أمامها للتأمل والعظة، فالمكسيك شأنها شأن باقي الدول اللاتينية وقعت فريسة للاحتلال الإسباني التعس بعد أن جاءت عبر البحر الحملة العسكرية التي قادها العبقري المرتزق «إيرنان كورتيز» (Cortez) الذي استطاع بقرابة خمسمائة جندي فقط أن يسقط إمبراطورية «الأزتيك» (Aztec) بأكملها، تلك الإمبراطورية مترامية الأطراف والتي كانت تحكم البلاد لقرون قبل قدوم الإسبان، ولكن التحالفات مع أعدائها وعبقرية القائد الإسباني مضافا إليهما الضعف المعنوي الذي كان قد أصاب هذه الدولة خاصة بعدما بدا تحقق النبوءة التي قالت إن إمبراطوريتهم ستسقط بعد قدوم أنصاف الآلهة من البحر للتخلص منهم، فهكذا تهزم الدول في معنوياتها قبل جيوشها.
وقد خضعت المكسيك لحكم الإسبان منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1821، ولكن حقيقة الأمر أن فتح القارتين الأميركيتين كان قد أصاب الدولة الإسبانية بحالة من الارتباك، فلقد ظنوا أن كولومبوس اكتشف الطريق إلى الصين، ولم يدركوا أنه اكتشف قارتين، وبالتالي فإن عملية الإدارة السياسية أخذت بعض الوقت من الدولة الإسبانية لتنظيمها فكانت تعتمد في البداية على المرتزقة القادرين على الفتوحات مع رجالهم مقابل منحهم حكم المناطق التي يفتحونها باسم أو نيابة عن ملك إسبانيا، وقد سمحت هذه السياسة للمرتزقة والعملاء وحقيري الشأن بالسيطرة على دفة الأمور في البلاد فأذاقوا السكان الأصليين الويلات من العذاب والمهانة ووضعوا نظام تفرقة عنصرية واضحا تسيد فيه الإسبان مقابل استعباد الشعب لمصالحهم المالية والاجتماعية، بل والجنسية أيضا، ولكن الدولة سرعان ما بدأت تضع نظامها الجديد وفي منتصف القرن السادس عشر بحيث آلت السلطة مرة أخرى إلى الوالي الإسباني الذي يجري تعيينه من مدريد ليحكم إسبانيا الجديدة كما أطلق عليها.
ولقد تعرض الشعب المكسيكي لموجات من تغيير الهوية الداخلية فيما أطلق عليه عملية «الاحتلال الثقافي»، أي العملية الممنهجة من قبل الإسبان بهدف «إسبنة» المكسيك وتنصيرها، فلقد كانت للشعوب الأصلية لغاتها الخاصة وعلى رأسها لغة «الناوتل» المتداولة بين الأزتيك، ولكن دور الحركات التبشيرية التي قادها الآباء الفرنسيسكان حسمت المعركة الثقافية بتغيير الديانة واللغة على حد سواء، فلقد بدأت الإسبانية تسود البلاد مع مرور الحقب، وخاصة أنها أصبحت لغة السادة والحكم، وقد بدأت هذه الظاهرة من خلال التعليم الأساسي، حيث سمح لأبناء الهنود بتعليم أساسي لتثبيت اللغة الإسبانية في الوجدان المكسيكي.
من جانب آخر، قامت حركات التبشير بالدور الأساسي في عملية تنصير السكان الأصليين أو «الهنود» كما يحلو للبعض تسميتهم، وفي كل الأحوال فإن المقاومة للمسيحية لم تكن على أشدها، وخاصة أن المنظومة الدينية للأزتيك لم تكن جذابة بأي حال من الأحوال، لا سيما مع وجود آلهة تحب الدماء وتطلب أضحية بشرية، كما أن هذه الديانات لم يكن لها العمق الفكري أو الإرث الثقافي والذي كان من شأنه أن يجعل انتشار المسيحية بالأمر الصعب، ولضمان السيطرة السياسية والعرقية الإسبانية فلقد منع أبناء الهنود المسيحيين من الانضمام للسلك الكنسي في محاولة للإبقاء على الهيمنة الإسبانية وضمان عدم تحول الكاثوليكية إلى أداة سياسية قد تعمل ضد الدولة الإسبانية، وهو ما حدث كما سنرى.
لم تختلف المكسيك عن النظام الاجتماعي الذي فرض على الممالك الإسبانية الأخرى في العالم الجديد، فلقد تسيد الإسبان المشهد السياسي والاجتماعي تماما كما تعكسه الروايات والأفلام السينمائية بلا مبالغة، وقد بلغ حجمهم وفقا لآخر التقديرات قبل الاستقلال قرابة العشرين ألفا، أي أقل من نصف في المائة، ونظرا لأن الدولة والكنيسة لم يستطيعا منع الاختلاط في هذه المقاطعات فإن الزيجات المختلطة أو علاقات السفاح مع النساء من الهنود أسفرت عن أجيال مختلطة صاعدة عرفوا باسم «Mestizos» مثلوا على الذين ولدوا قرابة عشرين في المائة من السكان، فلا هم إسبان متأصلون ولا هم هنود، كذلك وجدت طبقة الـ«Creollos»، وهي المكونة من الإسبان الذين ولدوا في المكسيك ولكنهم ظلوا أقل من طبقة الإسبان الأصليين القادمين من إسبانيا، وهؤلاء سمحت لهم بالكثير من الحقوق، ولكنهم لم يكونوا مثل الإسبان الخالصين، وفي قاع السلم الاجتماعي كان هناك «الهنود» الذين بلغوا قرابة سبعين في المائة ولم تكن لهم أي حقوق سياسية أو اجتماعية ولم يكن أتعس منهم حالا إلا طبقة العبيد التي كانت تشترى، والتي كانت ملكا للسادة الإسبان.
أما الأوضاع الاقتصادية في المكسيك فكانت في حالة يرثى لها، فالإسبان لم يكن معروفا عنهم الإدارة، فهي الدولة الوحيدة التي عندما انفتحت ثروات مستعمراتها عليها حدثت لها انتكاسة بسبب التضخم وسوء الإدارة والتوزيع مما عجل بضعف الدول دوليا، وقد تمثل هذا الضعف الإداري في حالة من ضعف الأداء الاقتصادي، فلقد قسمت البلاد على أسس شبه إقطاعية من خلال ما عرف بـ«الأسيندا» (Hacienda)، أي الضيعة أو العزبة المكبرة، والتي كانت تعمل في الزراعة والرعي، ونظرا لسيطرة الدولة على التجارة فقد انغلقت الأبواب أمام فرص التبادل التجاري الخارجي لهذه الإقطاعيات، ومن ثم حرمان المكسيك من التراكم الرأسمالي، فكانت «الأسيندا» تنتج من أجل العاملين بها والفائض الزراعي أو من المراعي يمثل قيمة مضافة للمالك الإسباني، وهو ما فرض حالة من شبه العزلة بين المناطق المنتجة في البلاد، وقد ربطت هذه المنظومة الفاسدة «الهندي» بـ«الأسيندا» لأن فرصه في العيش خارجها أصبحت شبه معدمة، ولمزيد من السيطرة حرمت إسبانيا مستعمراتها من الصناعات لضمان بقاء حالة التبعية على إسبانيا، وفرضت النظام الميركانتيلي (Mercantilism) على هذه الدولة بحيث منعت الدول من التجارة مع المكسيك، وفي حين انحسرت الطاقات الهائلة لهذه الدولة فإن خيراتها نهبت على أيدي الإسبان، فدولة بلغ حجمها مليونا ونصف المليون ميل مربع أخرجت خيراتها لغيرها، فلقد كانت المكسيك تنتج وحدها من الفضة ما ينتجه العالم أجمع، بينما كانت تنتج من الذهب أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ولكن في عالم المستعمرات تكون خيرات الدول للمستعمر.
وإزاء هذه الظروف التعيسة كان من المتوقع أن تتكالب التطورات لتفرز ثورة شعبية عارمة، ولكنها لم تكن بالضرورة سهلة كما سنرى.
* كاتب مصري



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.