من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية
TT

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

إذا كانت إنجلترا قد اتبعت سياسة تدريجية في تطوير النظام السياسي من الملكية المطلقة إلى الديمقراطية، فإن هذا بدأ عمليًا، كما تابعنا في الأسبوع الماضي، خلال مطلع القرن التاسع عشر، على الرغم من حسم قضية الحكم وجعل الدولة ملكية دستورية منذ عام 1688. ولكن المشكلة الحقيقية كانت في نوعية الحكم البرلماني، إذ أصبح نظامًا لتسيد طبقتين ضيقتين فقط. الأولى، الأرستقراطية من خلال تشكيلها مجلس اللوردات، والطبقة الغنية أو البرجوازية الناشئة عن النظام الرأسمالي الجديد من خلال دورها في مجلس العموم. وقد بدأت الظروف الدولية والداخلية تدفع الساسة على مضض، للعمل على إشراك مزيد من شرائح المجتمع في نظام الحكم بسبب الخوف من الثورة الداخلية وانتشار الفكر الليبرالي في القارة الأوروبية. فجاء قانون منع الحجز التعسفي، ثم قانون الإصلاح بإشراك بعض الفئات الأكثر تميزًا في المجتمع في أروقة الحكم، ولكنه لم يكن إصلاحًا شاملاً، بل محاولة لاستيعاب الثورة.
ولكن مع بداية العقد السادس من القرن التاسع عشر بدأت الديمقراطية البريطانية تحبو نحو الأفضل. فارتبط هذا التقدم بشخصيتين أساسيتين كانتا متناقضتين بشكل كبير. الأول هو غلادستون، والثاني كان ديزرائيلي، حيث لعب الاثنان الدور الرئيسي في السعي المستمر لتغيير الخريطة السياسية، في ظل معارضة التوجه السياسي العام داخل البرلمان. لقد كان غلادستون شخصية محافظة الفكر. وظل يلعب دورًا هامًا كعضو في مجلس العموم لمدة ستة عقود، خدم خلالها كرئيس للوزراء لأربع مرات. وقد أثرت المسيحية بشكل كبير على حياته، حتى قيل إن الرجل كان يسعى إلى وظيفة في السلك الكنسي. لكن تاريخه السياسي طغى على هذا المسار، وسرعان ما عبر عن ميول محافظة ضد الفكر الليبرالي، الذي بدأ ينتشر في كل أوروبا.
أما بنيامين ديزرائيلي، أو ديزي، كما كان يلقب من الأقرباء، فقد كان ليبرالي التوجه منذ بدايته. وعلى الرغم من أن خلفيته اليهودية وعدم انتمائه للطبقة العليا، قد خلقتا له بعض المتاعب في عالم السياسة، فإنه استطاع بمهارة شديدة، وبعض الوصولية، أن يتغلب على ذلك. فقد بدأ حياته العملية كاتبًا وروائيًا وشاعرًا. وكان قوي الكلمة شديد التأثير على من حوله. وقد أتاح زواجه من إحدى أرامل الطبقة العليا، فرصة التصعيد السياسي. فانضم الرجل إلى حزب المحافظين، واستطاع، بعد الفشل في أربعة انتخابات، أن يدخل مجلس العموم في سن الثانية والثلاثين عام 1832، ليشهد بداية سن القوانين الليبرالية في البلاد. فأبلى بلاءً حسنًا، مما جعله يحتل منصب وزير المالية بحلول عام 1852. ويقال: إن الملكة فيكتوريا أُعجبت كثيرًا بخطابته عندما كانت تشارك في جلسات مجلس العموم.
لقد بدأت موجات التحديث الليبرالي تتوالى على بريطانيا، في أعقاب الربيع الأوروبي عام 1848، الذي شهد مزيدًا من التحول الليبرالي في القارة، بعد إسقاط الكثير من النظم السياسية المتشددة، وعلى رأسها دولة النمسا بقيادة السياسي المحنط مترنيخ، وقد سعى رئيس الوزراء غلادستون إلى الدفع بعدد من القوانين الليبرالية، بهدف توسيع رقعة الديمقراطية، وإشراك الكثير من الطبقات المهمشة في النظام السياسي، ومنحهم الحقوق المتوقعة. فكانت أول محاولة عام 1862، عندما اقترح قانونًا يوسع القواعد الانتخابية، لكن الاقتراح لم يلق الأغلبية المطلوبة، بسبب المعارضة الشديدة من قبل الطبقات المسيطرة على البرلمان البريطاني. لكن اللبنة الأساسية لمشروع القانون تطورت خلال السنوات القليلة التالية حتى استطاع ديزرائيلي أن يمرر مقترحه في عام 1867. فقد استطاع أن يوسع قاعدة حق الانتخاب، لتشمل كل من يملك بيتًا مهما كانت قيمته، إضافة إلى كل مستأجر يدفع أكثر من عشرة جنيهات إيجارًا، ما سمح بدرجة ما، بإدخال قاعدة كبيرة من العمال في حيز ذوي الحقوق السياسية في البلاد. ولكن القانون هذا، لم يفتح المجال أمام دخول قاعدتين عريضتين من الشعب البريطاني، هما المزارعون والعاملون بالمناجم. وعلى الرغم من أن القانون لم يكن شاملاً، فإنه استطاع أن يستوعب أعدادًا كبيرة من الشعب البريطاني، لكنها لم تكن كافية، سواء من ناحية الحقوق السياسية أو من ناحية الحقوق العامة للمواطنين، التي ظلت تعاني من المشاكل الاجتماعية والتعليمية والإدارية بشكل كبير للغاية.
شهدت رئاسة وزراء غلادستون، عام 1868، سلسلة من القوانين الهامة التي بدأت تعالج الآفات الإدارية والسياسية والاجتماعية في البلاد، والتي لم يتعرض لها البرلمان بشكل حاسم من قبل. وهو ما مهد لوضع بريطانيا على الطريق الديمقراطي السليم. فقد سن البرلمان البريطاني مجموعة من القوانين المحورية في البلاد، وعلى رأسها قانون الخدمة المدنية عام 1870. الذي قضى بأن يتم التعيين في الوظائف الحكومية، من خلال المسابقات أو الاختبارات كبديل عن النظام الفاسد السابق، الذي اعتمد في التوظيف على الطبقات الاجتماعية العليا والقدرة على شراء الوظائف. ثم أعقب ذلك، في العام التالي، قانون إصلاح الجيش الذي جعل الترقي على أساس الاستحقاق والكفاءة، وليس من خلال شراء الرتب. ثم جاء قانون الانتخابات الجديد، عام 1872، الذي نص على أن تكون الانتخابات سرية حفاظًا على النزاهة ولإبعاد الرهبة عن الناخب. وهو القانون الذي سيطر بشكل كبير على الفساد المستشري في المؤسسات البريطانية، بعدما أبعد المُنتخب عن الضغوط. وقد شهد عام 1870 قانون تطوير التعليم في البلاد، حيث كانت المدارس الكنسية، إضافة إلى بعض مدارس المحافظات، هي السائدة في بريطانيا. وبالتالي فإن القانون الجديد وضع نظامًا تعليميًا واضح المعالم في البلاد، بل ومفتوحا للعامة، حيث دعمت الحكومة هذه المدارس، وصاغت نظامًا ضرائبيًا لتمويل المدارس، وهو ما سمح بتعليم غالبية الأطفال. ثم أعقب ذلك قانون عام 1880، الذي جعل التعليم في البلاد إلزاميًا لكل الطبقات، وقد كان هذا القانون البداية الحقيقية للتغيير الاجتماعي في بريطانيا حيث فتح الباب لأبناء الطبقات الأقل حظًا في التعليم، ما سمح تدريجيًا، بالارتقاء الاجتماعي، مما ساعد على تغيير الخريطة الاجتماعية في البلاد.
وعندما نجح المحافظون في انتخابات عام 1874، تولى ديزرائيلي منصب رئيس الوزراء، واستطاع إدخال الكثير من القوانين الإضافية التي ساهمت في تطوير البلاد، وعلى رأسها قانون الحرفيين في العام نفسه، الذي فرض تنظيمًا واضحًا على مشروعات البناء وصناعة السفن، ووضع الضوابط للتصنيع، كما أنه سمح بالنقابات والاتحادات العمالية، مما ساهم بشكل مباشر في تطوير الأوضاع الاقتصادية في البلاد. وأعقبه قانون المصانع الذي وضع حدًا لساعات العمل بسقف ست وخمسين ساعة ونصف في الأسبوع، ومنح العمال الكثير من الحقوق. أما المزارعون فقد أتى نصيبهم في عام 1884، أثناء حكومة غلادستون التي سنت قانونًا إصلاحيا سمح بتصويت المزارعين في الانتخابات، ووضعت الكثير من الإصلاح الزراعي حيز التنفيذ. وبهذا القانون لم يبق مهمشًا من الطبقات الاجتماعية فيما يتعلق بالانتخاب، سوى طبقة الخدم أو من ليس مستقلاً في بيته، أو من ليس له سكن معلوم. وقد توالت الإصلاحات خلال حكم الملك إدوارد السابع في مطلع القرن الماضي، حيث تم وضع نظم للصحة والرعاية الطبية خاصة للأطفال في المدارس. ثم أعقب ذلك تشريعات جديدة بهدف تنظيم التكافل الاجتماعي، من خلال وضع قاعدة المعاشات، إضافة إلى توسيع حقوق العمال.
لعل من أهم التشريعات كان قانون المحليات، الذي خلق نوعًا من عدم المركزية في النظام السياسي البريطاني. حيث منح سلطات أوسع للمحليات، خاصة في إدارة المدارس والمنازل والبناء وغيرها من الأمور التي تؤثر على الحياة اليومية. ومع كل ذلك، فإن المشكلة الرئيسية التي وقفت عائقًا أمام التطور الديمقراطي، كانت حق مجلس اللوردات، المعين من الأرستقراطية، في فرض حق النقض على كل القوانين. وهو ما يتنافى مع الأسس الديمقراطية. وقد بدأت المعركة مع نجاح الليبراليين في البرلمان حيث وضعوا مشروع قانون يتضمن تقليم أظافر مجلس اللوردات. وبدأت المعركة السياسية لبعض السنوات وانتهت في عام 1911 بـ«قانون البرلمان»، الذي وضع الحدود على حق النقض، من خلال منح المجلس فترة زمنية محددة إن لم يوافق فيها على القرار، فإنه يدخل حيز النفاذ مباشرة، ما جعل كل السلطات التشريعية في أيدي مجلس العموم المنتخب من العامة.
ومع ذلك، فإن المعضلة الأساسية كانت تكمن في مسألة أخرى، وهي أن المرأة كانت مسلوبة الإرادة السياسية والمالية على حد سواء، فالمرأة لم يكن مسموحًا لها أن تنتخب إلا في حدود ضيقة للغاية مرتبطة بملكيتها. كذلك فإنه لم يحق للمرأة الترشح للبرلمان. وهو ما أدى إلى ظهور الكثير من الحركات النسائية التي باتت تطالب بحق الانتخاب والتعيين على حد سواء. وقد نجحت هذه الجمعيات، بعد ضغوط واسعة على مدار حقب، في الحصول على حق الترشح في عام 1918. وأعقب ذلك، بعقد كامل، إرساء حقها في الانتخاب أسوة بالرجل.
وهكذا تطورت الديمقراطية البريطانية على مدار قرنين ونصف القرن من الزمان، من الديمقراطية النظرية المحدودة والمركزة في طبقة ضيقة من الأغنياء والأعيان عقب الثورة العظيمة في 1688، إلى ديمقراطية مكتملة المعالم في الربع الأول من القرن العشرين. وهو ما يعكس حقيقة أساسية وهي أن النظم السياسية والاجتماعية كثيرًا ما تحتاج إلى وقت للتطور وفقًا لمعايير الشعوب وتقاليدها. ونستطيع القول بكل منطق وسند تاريخي، إن الديمقراطية الإنجليزية بدأت مع الماغنا كارتا في القرن الثالث عشر، وظلت تتطور حتى منح المرأة حق التصويت في القرن العشرين، وما بعد ذلك من توسيع دائرة المشاركة السياسية لكل الطبقات.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.