من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية
TT

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

إذا كانت إنجلترا قد اتبعت سياسة تدريجية في تطوير النظام السياسي من الملكية المطلقة إلى الديمقراطية، فإن هذا بدأ عمليًا، كما تابعنا في الأسبوع الماضي، خلال مطلع القرن التاسع عشر، على الرغم من حسم قضية الحكم وجعل الدولة ملكية دستورية منذ عام 1688. ولكن المشكلة الحقيقية كانت في نوعية الحكم البرلماني، إذ أصبح نظامًا لتسيد طبقتين ضيقتين فقط. الأولى، الأرستقراطية من خلال تشكيلها مجلس اللوردات، والطبقة الغنية أو البرجوازية الناشئة عن النظام الرأسمالي الجديد من خلال دورها في مجلس العموم. وقد بدأت الظروف الدولية والداخلية تدفع الساسة على مضض، للعمل على إشراك مزيد من شرائح المجتمع في نظام الحكم بسبب الخوف من الثورة الداخلية وانتشار الفكر الليبرالي في القارة الأوروبية. فجاء قانون منع الحجز التعسفي، ثم قانون الإصلاح بإشراك بعض الفئات الأكثر تميزًا في المجتمع في أروقة الحكم، ولكنه لم يكن إصلاحًا شاملاً، بل محاولة لاستيعاب الثورة.
ولكن مع بداية العقد السادس من القرن التاسع عشر بدأت الديمقراطية البريطانية تحبو نحو الأفضل. فارتبط هذا التقدم بشخصيتين أساسيتين كانتا متناقضتين بشكل كبير. الأول هو غلادستون، والثاني كان ديزرائيلي، حيث لعب الاثنان الدور الرئيسي في السعي المستمر لتغيير الخريطة السياسية، في ظل معارضة التوجه السياسي العام داخل البرلمان. لقد كان غلادستون شخصية محافظة الفكر. وظل يلعب دورًا هامًا كعضو في مجلس العموم لمدة ستة عقود، خدم خلالها كرئيس للوزراء لأربع مرات. وقد أثرت المسيحية بشكل كبير على حياته، حتى قيل إن الرجل كان يسعى إلى وظيفة في السلك الكنسي. لكن تاريخه السياسي طغى على هذا المسار، وسرعان ما عبر عن ميول محافظة ضد الفكر الليبرالي، الذي بدأ ينتشر في كل أوروبا.
أما بنيامين ديزرائيلي، أو ديزي، كما كان يلقب من الأقرباء، فقد كان ليبرالي التوجه منذ بدايته. وعلى الرغم من أن خلفيته اليهودية وعدم انتمائه للطبقة العليا، قد خلقتا له بعض المتاعب في عالم السياسة، فإنه استطاع بمهارة شديدة، وبعض الوصولية، أن يتغلب على ذلك. فقد بدأ حياته العملية كاتبًا وروائيًا وشاعرًا. وكان قوي الكلمة شديد التأثير على من حوله. وقد أتاح زواجه من إحدى أرامل الطبقة العليا، فرصة التصعيد السياسي. فانضم الرجل إلى حزب المحافظين، واستطاع، بعد الفشل في أربعة انتخابات، أن يدخل مجلس العموم في سن الثانية والثلاثين عام 1832، ليشهد بداية سن القوانين الليبرالية في البلاد. فأبلى بلاءً حسنًا، مما جعله يحتل منصب وزير المالية بحلول عام 1852. ويقال: إن الملكة فيكتوريا أُعجبت كثيرًا بخطابته عندما كانت تشارك في جلسات مجلس العموم.
لقد بدأت موجات التحديث الليبرالي تتوالى على بريطانيا، في أعقاب الربيع الأوروبي عام 1848، الذي شهد مزيدًا من التحول الليبرالي في القارة، بعد إسقاط الكثير من النظم السياسية المتشددة، وعلى رأسها دولة النمسا بقيادة السياسي المحنط مترنيخ، وقد سعى رئيس الوزراء غلادستون إلى الدفع بعدد من القوانين الليبرالية، بهدف توسيع رقعة الديمقراطية، وإشراك الكثير من الطبقات المهمشة في النظام السياسي، ومنحهم الحقوق المتوقعة. فكانت أول محاولة عام 1862، عندما اقترح قانونًا يوسع القواعد الانتخابية، لكن الاقتراح لم يلق الأغلبية المطلوبة، بسبب المعارضة الشديدة من قبل الطبقات المسيطرة على البرلمان البريطاني. لكن اللبنة الأساسية لمشروع القانون تطورت خلال السنوات القليلة التالية حتى استطاع ديزرائيلي أن يمرر مقترحه في عام 1867. فقد استطاع أن يوسع قاعدة حق الانتخاب، لتشمل كل من يملك بيتًا مهما كانت قيمته، إضافة إلى كل مستأجر يدفع أكثر من عشرة جنيهات إيجارًا، ما سمح بدرجة ما، بإدخال قاعدة كبيرة من العمال في حيز ذوي الحقوق السياسية في البلاد. ولكن القانون هذا، لم يفتح المجال أمام دخول قاعدتين عريضتين من الشعب البريطاني، هما المزارعون والعاملون بالمناجم. وعلى الرغم من أن القانون لم يكن شاملاً، فإنه استطاع أن يستوعب أعدادًا كبيرة من الشعب البريطاني، لكنها لم تكن كافية، سواء من ناحية الحقوق السياسية أو من ناحية الحقوق العامة للمواطنين، التي ظلت تعاني من المشاكل الاجتماعية والتعليمية والإدارية بشكل كبير للغاية.
شهدت رئاسة وزراء غلادستون، عام 1868، سلسلة من القوانين الهامة التي بدأت تعالج الآفات الإدارية والسياسية والاجتماعية في البلاد، والتي لم يتعرض لها البرلمان بشكل حاسم من قبل. وهو ما مهد لوضع بريطانيا على الطريق الديمقراطي السليم. فقد سن البرلمان البريطاني مجموعة من القوانين المحورية في البلاد، وعلى رأسها قانون الخدمة المدنية عام 1870. الذي قضى بأن يتم التعيين في الوظائف الحكومية، من خلال المسابقات أو الاختبارات كبديل عن النظام الفاسد السابق، الذي اعتمد في التوظيف على الطبقات الاجتماعية العليا والقدرة على شراء الوظائف. ثم أعقب ذلك، في العام التالي، قانون إصلاح الجيش الذي جعل الترقي على أساس الاستحقاق والكفاءة، وليس من خلال شراء الرتب. ثم جاء قانون الانتخابات الجديد، عام 1872، الذي نص على أن تكون الانتخابات سرية حفاظًا على النزاهة ولإبعاد الرهبة عن الناخب. وهو القانون الذي سيطر بشكل كبير على الفساد المستشري في المؤسسات البريطانية، بعدما أبعد المُنتخب عن الضغوط. وقد شهد عام 1870 قانون تطوير التعليم في البلاد، حيث كانت المدارس الكنسية، إضافة إلى بعض مدارس المحافظات، هي السائدة في بريطانيا. وبالتالي فإن القانون الجديد وضع نظامًا تعليميًا واضح المعالم في البلاد، بل ومفتوحا للعامة، حيث دعمت الحكومة هذه المدارس، وصاغت نظامًا ضرائبيًا لتمويل المدارس، وهو ما سمح بتعليم غالبية الأطفال. ثم أعقب ذلك قانون عام 1880، الذي جعل التعليم في البلاد إلزاميًا لكل الطبقات، وقد كان هذا القانون البداية الحقيقية للتغيير الاجتماعي في بريطانيا حيث فتح الباب لأبناء الطبقات الأقل حظًا في التعليم، ما سمح تدريجيًا، بالارتقاء الاجتماعي، مما ساعد على تغيير الخريطة الاجتماعية في البلاد.
وعندما نجح المحافظون في انتخابات عام 1874، تولى ديزرائيلي منصب رئيس الوزراء، واستطاع إدخال الكثير من القوانين الإضافية التي ساهمت في تطوير البلاد، وعلى رأسها قانون الحرفيين في العام نفسه، الذي فرض تنظيمًا واضحًا على مشروعات البناء وصناعة السفن، ووضع الضوابط للتصنيع، كما أنه سمح بالنقابات والاتحادات العمالية، مما ساهم بشكل مباشر في تطوير الأوضاع الاقتصادية في البلاد. وأعقبه قانون المصانع الذي وضع حدًا لساعات العمل بسقف ست وخمسين ساعة ونصف في الأسبوع، ومنح العمال الكثير من الحقوق. أما المزارعون فقد أتى نصيبهم في عام 1884، أثناء حكومة غلادستون التي سنت قانونًا إصلاحيا سمح بتصويت المزارعين في الانتخابات، ووضعت الكثير من الإصلاح الزراعي حيز التنفيذ. وبهذا القانون لم يبق مهمشًا من الطبقات الاجتماعية فيما يتعلق بالانتخاب، سوى طبقة الخدم أو من ليس مستقلاً في بيته، أو من ليس له سكن معلوم. وقد توالت الإصلاحات خلال حكم الملك إدوارد السابع في مطلع القرن الماضي، حيث تم وضع نظم للصحة والرعاية الطبية خاصة للأطفال في المدارس. ثم أعقب ذلك تشريعات جديدة بهدف تنظيم التكافل الاجتماعي، من خلال وضع قاعدة المعاشات، إضافة إلى توسيع حقوق العمال.
لعل من أهم التشريعات كان قانون المحليات، الذي خلق نوعًا من عدم المركزية في النظام السياسي البريطاني. حيث منح سلطات أوسع للمحليات، خاصة في إدارة المدارس والمنازل والبناء وغيرها من الأمور التي تؤثر على الحياة اليومية. ومع كل ذلك، فإن المشكلة الرئيسية التي وقفت عائقًا أمام التطور الديمقراطي، كانت حق مجلس اللوردات، المعين من الأرستقراطية، في فرض حق النقض على كل القوانين. وهو ما يتنافى مع الأسس الديمقراطية. وقد بدأت المعركة مع نجاح الليبراليين في البرلمان حيث وضعوا مشروع قانون يتضمن تقليم أظافر مجلس اللوردات. وبدأت المعركة السياسية لبعض السنوات وانتهت في عام 1911 بـ«قانون البرلمان»، الذي وضع الحدود على حق النقض، من خلال منح المجلس فترة زمنية محددة إن لم يوافق فيها على القرار، فإنه يدخل حيز النفاذ مباشرة، ما جعل كل السلطات التشريعية في أيدي مجلس العموم المنتخب من العامة.
ومع ذلك، فإن المعضلة الأساسية كانت تكمن في مسألة أخرى، وهي أن المرأة كانت مسلوبة الإرادة السياسية والمالية على حد سواء، فالمرأة لم يكن مسموحًا لها أن تنتخب إلا في حدود ضيقة للغاية مرتبطة بملكيتها. كذلك فإنه لم يحق للمرأة الترشح للبرلمان. وهو ما أدى إلى ظهور الكثير من الحركات النسائية التي باتت تطالب بحق الانتخاب والتعيين على حد سواء. وقد نجحت هذه الجمعيات، بعد ضغوط واسعة على مدار حقب، في الحصول على حق الترشح في عام 1918. وأعقب ذلك، بعقد كامل، إرساء حقها في الانتخاب أسوة بالرجل.
وهكذا تطورت الديمقراطية البريطانية على مدار قرنين ونصف القرن من الزمان، من الديمقراطية النظرية المحدودة والمركزة في طبقة ضيقة من الأغنياء والأعيان عقب الثورة العظيمة في 1688، إلى ديمقراطية مكتملة المعالم في الربع الأول من القرن العشرين. وهو ما يعكس حقيقة أساسية وهي أن النظم السياسية والاجتماعية كثيرًا ما تحتاج إلى وقت للتطور وفقًا لمعايير الشعوب وتقاليدها. ونستطيع القول بكل منطق وسند تاريخي، إن الديمقراطية الإنجليزية بدأت مع الماغنا كارتا في القرن الثالث عشر، وظلت تتطور حتى منح المرأة حق التصويت في القرن العشرين، وما بعد ذلك من توسيع دائرة المشاركة السياسية لكل الطبقات.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.