من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية
TT

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

إذا كانت إنجلترا قد اتبعت سياسة تدريجية في تطوير النظام السياسي من الملكية المطلقة إلى الديمقراطية، فإن هذا بدأ عمليًا، كما تابعنا في الأسبوع الماضي، خلال مطلع القرن التاسع عشر، على الرغم من حسم قضية الحكم وجعل الدولة ملكية دستورية منذ عام 1688. ولكن المشكلة الحقيقية كانت في نوعية الحكم البرلماني، إذ أصبح نظامًا لتسيد طبقتين ضيقتين فقط. الأولى، الأرستقراطية من خلال تشكيلها مجلس اللوردات، والطبقة الغنية أو البرجوازية الناشئة عن النظام الرأسمالي الجديد من خلال دورها في مجلس العموم. وقد بدأت الظروف الدولية والداخلية تدفع الساسة على مضض، للعمل على إشراك مزيد من شرائح المجتمع في نظام الحكم بسبب الخوف من الثورة الداخلية وانتشار الفكر الليبرالي في القارة الأوروبية. فجاء قانون منع الحجز التعسفي، ثم قانون الإصلاح بإشراك بعض الفئات الأكثر تميزًا في المجتمع في أروقة الحكم، ولكنه لم يكن إصلاحًا شاملاً، بل محاولة لاستيعاب الثورة.
ولكن مع بداية العقد السادس من القرن التاسع عشر بدأت الديمقراطية البريطانية تحبو نحو الأفضل. فارتبط هذا التقدم بشخصيتين أساسيتين كانتا متناقضتين بشكل كبير. الأول هو غلادستون، والثاني كان ديزرائيلي، حيث لعب الاثنان الدور الرئيسي في السعي المستمر لتغيير الخريطة السياسية، في ظل معارضة التوجه السياسي العام داخل البرلمان. لقد كان غلادستون شخصية محافظة الفكر. وظل يلعب دورًا هامًا كعضو في مجلس العموم لمدة ستة عقود، خدم خلالها كرئيس للوزراء لأربع مرات. وقد أثرت المسيحية بشكل كبير على حياته، حتى قيل إن الرجل كان يسعى إلى وظيفة في السلك الكنسي. لكن تاريخه السياسي طغى على هذا المسار، وسرعان ما عبر عن ميول محافظة ضد الفكر الليبرالي، الذي بدأ ينتشر في كل أوروبا.
أما بنيامين ديزرائيلي، أو ديزي، كما كان يلقب من الأقرباء، فقد كان ليبرالي التوجه منذ بدايته. وعلى الرغم من أن خلفيته اليهودية وعدم انتمائه للطبقة العليا، قد خلقتا له بعض المتاعب في عالم السياسة، فإنه استطاع بمهارة شديدة، وبعض الوصولية، أن يتغلب على ذلك. فقد بدأ حياته العملية كاتبًا وروائيًا وشاعرًا. وكان قوي الكلمة شديد التأثير على من حوله. وقد أتاح زواجه من إحدى أرامل الطبقة العليا، فرصة التصعيد السياسي. فانضم الرجل إلى حزب المحافظين، واستطاع، بعد الفشل في أربعة انتخابات، أن يدخل مجلس العموم في سن الثانية والثلاثين عام 1832، ليشهد بداية سن القوانين الليبرالية في البلاد. فأبلى بلاءً حسنًا، مما جعله يحتل منصب وزير المالية بحلول عام 1852. ويقال: إن الملكة فيكتوريا أُعجبت كثيرًا بخطابته عندما كانت تشارك في جلسات مجلس العموم.
لقد بدأت موجات التحديث الليبرالي تتوالى على بريطانيا، في أعقاب الربيع الأوروبي عام 1848، الذي شهد مزيدًا من التحول الليبرالي في القارة، بعد إسقاط الكثير من النظم السياسية المتشددة، وعلى رأسها دولة النمسا بقيادة السياسي المحنط مترنيخ، وقد سعى رئيس الوزراء غلادستون إلى الدفع بعدد من القوانين الليبرالية، بهدف توسيع رقعة الديمقراطية، وإشراك الكثير من الطبقات المهمشة في النظام السياسي، ومنحهم الحقوق المتوقعة. فكانت أول محاولة عام 1862، عندما اقترح قانونًا يوسع القواعد الانتخابية، لكن الاقتراح لم يلق الأغلبية المطلوبة، بسبب المعارضة الشديدة من قبل الطبقات المسيطرة على البرلمان البريطاني. لكن اللبنة الأساسية لمشروع القانون تطورت خلال السنوات القليلة التالية حتى استطاع ديزرائيلي أن يمرر مقترحه في عام 1867. فقد استطاع أن يوسع قاعدة حق الانتخاب، لتشمل كل من يملك بيتًا مهما كانت قيمته، إضافة إلى كل مستأجر يدفع أكثر من عشرة جنيهات إيجارًا، ما سمح بدرجة ما، بإدخال قاعدة كبيرة من العمال في حيز ذوي الحقوق السياسية في البلاد. ولكن القانون هذا، لم يفتح المجال أمام دخول قاعدتين عريضتين من الشعب البريطاني، هما المزارعون والعاملون بالمناجم. وعلى الرغم من أن القانون لم يكن شاملاً، فإنه استطاع أن يستوعب أعدادًا كبيرة من الشعب البريطاني، لكنها لم تكن كافية، سواء من ناحية الحقوق السياسية أو من ناحية الحقوق العامة للمواطنين، التي ظلت تعاني من المشاكل الاجتماعية والتعليمية والإدارية بشكل كبير للغاية.
شهدت رئاسة وزراء غلادستون، عام 1868، سلسلة من القوانين الهامة التي بدأت تعالج الآفات الإدارية والسياسية والاجتماعية في البلاد، والتي لم يتعرض لها البرلمان بشكل حاسم من قبل. وهو ما مهد لوضع بريطانيا على الطريق الديمقراطي السليم. فقد سن البرلمان البريطاني مجموعة من القوانين المحورية في البلاد، وعلى رأسها قانون الخدمة المدنية عام 1870. الذي قضى بأن يتم التعيين في الوظائف الحكومية، من خلال المسابقات أو الاختبارات كبديل عن النظام الفاسد السابق، الذي اعتمد في التوظيف على الطبقات الاجتماعية العليا والقدرة على شراء الوظائف. ثم أعقب ذلك، في العام التالي، قانون إصلاح الجيش الذي جعل الترقي على أساس الاستحقاق والكفاءة، وليس من خلال شراء الرتب. ثم جاء قانون الانتخابات الجديد، عام 1872، الذي نص على أن تكون الانتخابات سرية حفاظًا على النزاهة ولإبعاد الرهبة عن الناخب. وهو القانون الذي سيطر بشكل كبير على الفساد المستشري في المؤسسات البريطانية، بعدما أبعد المُنتخب عن الضغوط. وقد شهد عام 1870 قانون تطوير التعليم في البلاد، حيث كانت المدارس الكنسية، إضافة إلى بعض مدارس المحافظات، هي السائدة في بريطانيا. وبالتالي فإن القانون الجديد وضع نظامًا تعليميًا واضح المعالم في البلاد، بل ومفتوحا للعامة، حيث دعمت الحكومة هذه المدارس، وصاغت نظامًا ضرائبيًا لتمويل المدارس، وهو ما سمح بتعليم غالبية الأطفال. ثم أعقب ذلك قانون عام 1880، الذي جعل التعليم في البلاد إلزاميًا لكل الطبقات، وقد كان هذا القانون البداية الحقيقية للتغيير الاجتماعي في بريطانيا حيث فتح الباب لأبناء الطبقات الأقل حظًا في التعليم، ما سمح تدريجيًا، بالارتقاء الاجتماعي، مما ساعد على تغيير الخريطة الاجتماعية في البلاد.
وعندما نجح المحافظون في انتخابات عام 1874، تولى ديزرائيلي منصب رئيس الوزراء، واستطاع إدخال الكثير من القوانين الإضافية التي ساهمت في تطوير البلاد، وعلى رأسها قانون الحرفيين في العام نفسه، الذي فرض تنظيمًا واضحًا على مشروعات البناء وصناعة السفن، ووضع الضوابط للتصنيع، كما أنه سمح بالنقابات والاتحادات العمالية، مما ساهم بشكل مباشر في تطوير الأوضاع الاقتصادية في البلاد. وأعقبه قانون المصانع الذي وضع حدًا لساعات العمل بسقف ست وخمسين ساعة ونصف في الأسبوع، ومنح العمال الكثير من الحقوق. أما المزارعون فقد أتى نصيبهم في عام 1884، أثناء حكومة غلادستون التي سنت قانونًا إصلاحيا سمح بتصويت المزارعين في الانتخابات، ووضعت الكثير من الإصلاح الزراعي حيز التنفيذ. وبهذا القانون لم يبق مهمشًا من الطبقات الاجتماعية فيما يتعلق بالانتخاب، سوى طبقة الخدم أو من ليس مستقلاً في بيته، أو من ليس له سكن معلوم. وقد توالت الإصلاحات خلال حكم الملك إدوارد السابع في مطلع القرن الماضي، حيث تم وضع نظم للصحة والرعاية الطبية خاصة للأطفال في المدارس. ثم أعقب ذلك تشريعات جديدة بهدف تنظيم التكافل الاجتماعي، من خلال وضع قاعدة المعاشات، إضافة إلى توسيع حقوق العمال.
لعل من أهم التشريعات كان قانون المحليات، الذي خلق نوعًا من عدم المركزية في النظام السياسي البريطاني. حيث منح سلطات أوسع للمحليات، خاصة في إدارة المدارس والمنازل والبناء وغيرها من الأمور التي تؤثر على الحياة اليومية. ومع كل ذلك، فإن المشكلة الرئيسية التي وقفت عائقًا أمام التطور الديمقراطي، كانت حق مجلس اللوردات، المعين من الأرستقراطية، في فرض حق النقض على كل القوانين. وهو ما يتنافى مع الأسس الديمقراطية. وقد بدأت المعركة مع نجاح الليبراليين في البرلمان حيث وضعوا مشروع قانون يتضمن تقليم أظافر مجلس اللوردات. وبدأت المعركة السياسية لبعض السنوات وانتهت في عام 1911 بـ«قانون البرلمان»، الذي وضع الحدود على حق النقض، من خلال منح المجلس فترة زمنية محددة إن لم يوافق فيها على القرار، فإنه يدخل حيز النفاذ مباشرة، ما جعل كل السلطات التشريعية في أيدي مجلس العموم المنتخب من العامة.
ومع ذلك، فإن المعضلة الأساسية كانت تكمن في مسألة أخرى، وهي أن المرأة كانت مسلوبة الإرادة السياسية والمالية على حد سواء، فالمرأة لم يكن مسموحًا لها أن تنتخب إلا في حدود ضيقة للغاية مرتبطة بملكيتها. كذلك فإنه لم يحق للمرأة الترشح للبرلمان. وهو ما أدى إلى ظهور الكثير من الحركات النسائية التي باتت تطالب بحق الانتخاب والتعيين على حد سواء. وقد نجحت هذه الجمعيات، بعد ضغوط واسعة على مدار حقب، في الحصول على حق الترشح في عام 1918. وأعقب ذلك، بعقد كامل، إرساء حقها في الانتخاب أسوة بالرجل.
وهكذا تطورت الديمقراطية البريطانية على مدار قرنين ونصف القرن من الزمان، من الديمقراطية النظرية المحدودة والمركزة في طبقة ضيقة من الأغنياء والأعيان عقب الثورة العظيمة في 1688، إلى ديمقراطية مكتملة المعالم في الربع الأول من القرن العشرين. وهو ما يعكس حقيقة أساسية وهي أن النظم السياسية والاجتماعية كثيرًا ما تحتاج إلى وقت للتطور وفقًا لمعايير الشعوب وتقاليدها. ونستطيع القول بكل منطق وسند تاريخي، إن الديمقراطية الإنجليزية بدأت مع الماغنا كارتا في القرن الثالث عشر، وظلت تتطور حتى منح المرأة حق التصويت في القرن العشرين، وما بعد ذلك من توسيع دائرة المشاركة السياسية لكل الطبقات.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.