من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية
TT

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

من التاريخ: تطور الديمقراطية البريطانية

إذا كانت إنجلترا قد اتبعت سياسة تدريجية في تطوير النظام السياسي من الملكية المطلقة إلى الديمقراطية، فإن هذا بدأ عمليًا، كما تابعنا في الأسبوع الماضي، خلال مطلع القرن التاسع عشر، على الرغم من حسم قضية الحكم وجعل الدولة ملكية دستورية منذ عام 1688. ولكن المشكلة الحقيقية كانت في نوعية الحكم البرلماني، إذ أصبح نظامًا لتسيد طبقتين ضيقتين فقط. الأولى، الأرستقراطية من خلال تشكيلها مجلس اللوردات، والطبقة الغنية أو البرجوازية الناشئة عن النظام الرأسمالي الجديد من خلال دورها في مجلس العموم. وقد بدأت الظروف الدولية والداخلية تدفع الساسة على مضض، للعمل على إشراك مزيد من شرائح المجتمع في نظام الحكم بسبب الخوف من الثورة الداخلية وانتشار الفكر الليبرالي في القارة الأوروبية. فجاء قانون منع الحجز التعسفي، ثم قانون الإصلاح بإشراك بعض الفئات الأكثر تميزًا في المجتمع في أروقة الحكم، ولكنه لم يكن إصلاحًا شاملاً، بل محاولة لاستيعاب الثورة.
ولكن مع بداية العقد السادس من القرن التاسع عشر بدأت الديمقراطية البريطانية تحبو نحو الأفضل. فارتبط هذا التقدم بشخصيتين أساسيتين كانتا متناقضتين بشكل كبير. الأول هو غلادستون، والثاني كان ديزرائيلي، حيث لعب الاثنان الدور الرئيسي في السعي المستمر لتغيير الخريطة السياسية، في ظل معارضة التوجه السياسي العام داخل البرلمان. لقد كان غلادستون شخصية محافظة الفكر. وظل يلعب دورًا هامًا كعضو في مجلس العموم لمدة ستة عقود، خدم خلالها كرئيس للوزراء لأربع مرات. وقد أثرت المسيحية بشكل كبير على حياته، حتى قيل إن الرجل كان يسعى إلى وظيفة في السلك الكنسي. لكن تاريخه السياسي طغى على هذا المسار، وسرعان ما عبر عن ميول محافظة ضد الفكر الليبرالي، الذي بدأ ينتشر في كل أوروبا.
أما بنيامين ديزرائيلي، أو ديزي، كما كان يلقب من الأقرباء، فقد كان ليبرالي التوجه منذ بدايته. وعلى الرغم من أن خلفيته اليهودية وعدم انتمائه للطبقة العليا، قد خلقتا له بعض المتاعب في عالم السياسة، فإنه استطاع بمهارة شديدة، وبعض الوصولية، أن يتغلب على ذلك. فقد بدأ حياته العملية كاتبًا وروائيًا وشاعرًا. وكان قوي الكلمة شديد التأثير على من حوله. وقد أتاح زواجه من إحدى أرامل الطبقة العليا، فرصة التصعيد السياسي. فانضم الرجل إلى حزب المحافظين، واستطاع، بعد الفشل في أربعة انتخابات، أن يدخل مجلس العموم في سن الثانية والثلاثين عام 1832، ليشهد بداية سن القوانين الليبرالية في البلاد. فأبلى بلاءً حسنًا، مما جعله يحتل منصب وزير المالية بحلول عام 1852. ويقال: إن الملكة فيكتوريا أُعجبت كثيرًا بخطابته عندما كانت تشارك في جلسات مجلس العموم.
لقد بدأت موجات التحديث الليبرالي تتوالى على بريطانيا، في أعقاب الربيع الأوروبي عام 1848، الذي شهد مزيدًا من التحول الليبرالي في القارة، بعد إسقاط الكثير من النظم السياسية المتشددة، وعلى رأسها دولة النمسا بقيادة السياسي المحنط مترنيخ، وقد سعى رئيس الوزراء غلادستون إلى الدفع بعدد من القوانين الليبرالية، بهدف توسيع رقعة الديمقراطية، وإشراك الكثير من الطبقات المهمشة في النظام السياسي، ومنحهم الحقوق المتوقعة. فكانت أول محاولة عام 1862، عندما اقترح قانونًا يوسع القواعد الانتخابية، لكن الاقتراح لم يلق الأغلبية المطلوبة، بسبب المعارضة الشديدة من قبل الطبقات المسيطرة على البرلمان البريطاني. لكن اللبنة الأساسية لمشروع القانون تطورت خلال السنوات القليلة التالية حتى استطاع ديزرائيلي أن يمرر مقترحه في عام 1867. فقد استطاع أن يوسع قاعدة حق الانتخاب، لتشمل كل من يملك بيتًا مهما كانت قيمته، إضافة إلى كل مستأجر يدفع أكثر من عشرة جنيهات إيجارًا، ما سمح بدرجة ما، بإدخال قاعدة كبيرة من العمال في حيز ذوي الحقوق السياسية في البلاد. ولكن القانون هذا، لم يفتح المجال أمام دخول قاعدتين عريضتين من الشعب البريطاني، هما المزارعون والعاملون بالمناجم. وعلى الرغم من أن القانون لم يكن شاملاً، فإنه استطاع أن يستوعب أعدادًا كبيرة من الشعب البريطاني، لكنها لم تكن كافية، سواء من ناحية الحقوق السياسية أو من ناحية الحقوق العامة للمواطنين، التي ظلت تعاني من المشاكل الاجتماعية والتعليمية والإدارية بشكل كبير للغاية.
شهدت رئاسة وزراء غلادستون، عام 1868، سلسلة من القوانين الهامة التي بدأت تعالج الآفات الإدارية والسياسية والاجتماعية في البلاد، والتي لم يتعرض لها البرلمان بشكل حاسم من قبل. وهو ما مهد لوضع بريطانيا على الطريق الديمقراطي السليم. فقد سن البرلمان البريطاني مجموعة من القوانين المحورية في البلاد، وعلى رأسها قانون الخدمة المدنية عام 1870. الذي قضى بأن يتم التعيين في الوظائف الحكومية، من خلال المسابقات أو الاختبارات كبديل عن النظام الفاسد السابق، الذي اعتمد في التوظيف على الطبقات الاجتماعية العليا والقدرة على شراء الوظائف. ثم أعقب ذلك، في العام التالي، قانون إصلاح الجيش الذي جعل الترقي على أساس الاستحقاق والكفاءة، وليس من خلال شراء الرتب. ثم جاء قانون الانتخابات الجديد، عام 1872، الذي نص على أن تكون الانتخابات سرية حفاظًا على النزاهة ولإبعاد الرهبة عن الناخب. وهو القانون الذي سيطر بشكل كبير على الفساد المستشري في المؤسسات البريطانية، بعدما أبعد المُنتخب عن الضغوط. وقد شهد عام 1870 قانون تطوير التعليم في البلاد، حيث كانت المدارس الكنسية، إضافة إلى بعض مدارس المحافظات، هي السائدة في بريطانيا. وبالتالي فإن القانون الجديد وضع نظامًا تعليميًا واضح المعالم في البلاد، بل ومفتوحا للعامة، حيث دعمت الحكومة هذه المدارس، وصاغت نظامًا ضرائبيًا لتمويل المدارس، وهو ما سمح بتعليم غالبية الأطفال. ثم أعقب ذلك قانون عام 1880، الذي جعل التعليم في البلاد إلزاميًا لكل الطبقات، وقد كان هذا القانون البداية الحقيقية للتغيير الاجتماعي في بريطانيا حيث فتح الباب لأبناء الطبقات الأقل حظًا في التعليم، ما سمح تدريجيًا، بالارتقاء الاجتماعي، مما ساعد على تغيير الخريطة الاجتماعية في البلاد.
وعندما نجح المحافظون في انتخابات عام 1874، تولى ديزرائيلي منصب رئيس الوزراء، واستطاع إدخال الكثير من القوانين الإضافية التي ساهمت في تطوير البلاد، وعلى رأسها قانون الحرفيين في العام نفسه، الذي فرض تنظيمًا واضحًا على مشروعات البناء وصناعة السفن، ووضع الضوابط للتصنيع، كما أنه سمح بالنقابات والاتحادات العمالية، مما ساهم بشكل مباشر في تطوير الأوضاع الاقتصادية في البلاد. وأعقبه قانون المصانع الذي وضع حدًا لساعات العمل بسقف ست وخمسين ساعة ونصف في الأسبوع، ومنح العمال الكثير من الحقوق. أما المزارعون فقد أتى نصيبهم في عام 1884، أثناء حكومة غلادستون التي سنت قانونًا إصلاحيا سمح بتصويت المزارعين في الانتخابات، ووضعت الكثير من الإصلاح الزراعي حيز التنفيذ. وبهذا القانون لم يبق مهمشًا من الطبقات الاجتماعية فيما يتعلق بالانتخاب، سوى طبقة الخدم أو من ليس مستقلاً في بيته، أو من ليس له سكن معلوم. وقد توالت الإصلاحات خلال حكم الملك إدوارد السابع في مطلع القرن الماضي، حيث تم وضع نظم للصحة والرعاية الطبية خاصة للأطفال في المدارس. ثم أعقب ذلك تشريعات جديدة بهدف تنظيم التكافل الاجتماعي، من خلال وضع قاعدة المعاشات، إضافة إلى توسيع حقوق العمال.
لعل من أهم التشريعات كان قانون المحليات، الذي خلق نوعًا من عدم المركزية في النظام السياسي البريطاني. حيث منح سلطات أوسع للمحليات، خاصة في إدارة المدارس والمنازل والبناء وغيرها من الأمور التي تؤثر على الحياة اليومية. ومع كل ذلك، فإن المشكلة الرئيسية التي وقفت عائقًا أمام التطور الديمقراطي، كانت حق مجلس اللوردات، المعين من الأرستقراطية، في فرض حق النقض على كل القوانين. وهو ما يتنافى مع الأسس الديمقراطية. وقد بدأت المعركة مع نجاح الليبراليين في البرلمان حيث وضعوا مشروع قانون يتضمن تقليم أظافر مجلس اللوردات. وبدأت المعركة السياسية لبعض السنوات وانتهت في عام 1911 بـ«قانون البرلمان»، الذي وضع الحدود على حق النقض، من خلال منح المجلس فترة زمنية محددة إن لم يوافق فيها على القرار، فإنه يدخل حيز النفاذ مباشرة، ما جعل كل السلطات التشريعية في أيدي مجلس العموم المنتخب من العامة.
ومع ذلك، فإن المعضلة الأساسية كانت تكمن في مسألة أخرى، وهي أن المرأة كانت مسلوبة الإرادة السياسية والمالية على حد سواء، فالمرأة لم يكن مسموحًا لها أن تنتخب إلا في حدود ضيقة للغاية مرتبطة بملكيتها. كذلك فإنه لم يحق للمرأة الترشح للبرلمان. وهو ما أدى إلى ظهور الكثير من الحركات النسائية التي باتت تطالب بحق الانتخاب والتعيين على حد سواء. وقد نجحت هذه الجمعيات، بعد ضغوط واسعة على مدار حقب، في الحصول على حق الترشح في عام 1918. وأعقب ذلك، بعقد كامل، إرساء حقها في الانتخاب أسوة بالرجل.
وهكذا تطورت الديمقراطية البريطانية على مدار قرنين ونصف القرن من الزمان، من الديمقراطية النظرية المحدودة والمركزة في طبقة ضيقة من الأغنياء والأعيان عقب الثورة العظيمة في 1688، إلى ديمقراطية مكتملة المعالم في الربع الأول من القرن العشرين. وهو ما يعكس حقيقة أساسية وهي أن النظم السياسية والاجتماعية كثيرًا ما تحتاج إلى وقت للتطور وفقًا لمعايير الشعوب وتقاليدها. ونستطيع القول بكل منطق وسند تاريخي، إن الديمقراطية الإنجليزية بدأت مع الماغنا كارتا في القرن الثالث عشر، وظلت تتطور حتى منح المرأة حق التصويت في القرن العشرين، وما بعد ذلك من توسيع دائرة المشاركة السياسية لكل الطبقات.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».