الحوار بين أتباع الأديان.. آلية لمواجهة التطرف المعاصر

الحوار بين أتباع الأديان..  آلية لمواجهة التطرف المعاصر
TT

الحوار بين أتباع الأديان.. آلية لمواجهة التطرف المعاصر

الحوار بين أتباع الأديان..  آلية لمواجهة التطرف المعاصر

المشهد الدولي الآني، حيث أنين الجراح المتفاقمة، التي خلفتها مشاهد الإرهاب الأعمى في نيس، عاصمة الريفيرا الفرنسية، عطفا على عدد من الحوادث المتشابهة في أوروبا، وقبلها في العالم العربي، تبين الحاجة الماسة لتعميق الحوار بين الأديان التوحيدية الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، ولتفعيل آليات غير تقليدية في مواجهة الهجمات الإرهابية. والمؤكد أن الناظر لما يجري حول العالم يستطيع أن يرصد درجة غير مسبوقة من الإرهاب والتطرف العنيف بكل أشكالهما وصورهما، وقد باتا من أخطر وأشد التهديدات المؤثرة على الروحية الدينية الموحدة، والأمن العالمي وازدهار الإنسانية. إننا نرى من حولنا آيديولوجيات التطرف والإرهاب تلك التي تتناقض مع الطبيعة الإنسانية للأديان، ونشاهد محاولات مستميتة من الإرهابيين لزرع التشدد في المفاهيم العقائدية والدينية للمتدينين، الأمر الذي يلحق ضررا جسيما بالقيم الروحية والإثراء المتبادل بين الشعوب ويهدد الاستقرار والأمن ألأممي حول البسيطة.
هل بات العالم يسعى لطريق السلام ومجابهة الإرهاب المتفشي، بطرق غير الحرب والمواجهات التقليدية الأمنية التي رغم أهميتها تبقى رؤاها قاصرة على المجابهة طويلة الأمد أمس واليوم وفي الغد القريب؟ في نهاية كتابه القيم والمعنون «الإسلام رمز الأمل» يضعنا اللاهوتي السويسري الكبير هانز كونغ أمام معادلة مثيرة تتصل بحال العالم الذي يعاني من تصاعد المد الأصولي والإرهاب المتفاقم الذي يحيل أمن العالم إلى قلق وسلامه إلى أرق. والمعادلة في واقع الأمر تتصل بأحوال أتباع الأديان التوحيدية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، الذين يبلغون نحو أربعة مليارات نسمة حول العالم تقريبًا، وتتمثل المعادلة في التالي: «لن يكون هناك سلام بين الأمم دون سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان دون حوار بين أتباع الأديان».
ماذا يريد الإرهاب؟ وما الذي يعنيه ويهدف إليه الحوار بين أتباع الأديان، علما بأننا عندما نقول الأديان بالمطلق فإنه يصعب استبعاد ما يقرب من نصف سكان العالم من غير الموحدين، لا سيما في النصف الشرقي من الكرة الأرضية، حيث النواميس والشرائع الوضعية، حتى وإن كان الشغل الشاغل في هذه الآونة هو الحوار جغرافيا في البقعة والرقعة القديمة من العالم، أي ما بين أوروبا التي سماها العرب قديمًا «الأرض الكبيرة» والعالم العربي والإسلامي.
بعد حادث «نيس» المرعب تحدث البروفسور عدنان المقراني، الأستاذ المسلم لعلم الدراسات الإسلامية في المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية في روما، وهو أيضًا رئيس مركز الأديان من أجل السلام CIPAX لوكالة الأنباء الكاثوليكية «آليتيا» واصفا ما جرى بأنه نزعة آيديولوجية إجرامية تستخدم الدين غطاء لها. ومعنى ذلك أنه بدلاً من أن يكون الدين جسرا ومعبرا للتلاقي والتعارف بين شعوب الأرض، باتت أدلجته من قبل «الفئة الضالة» وسيلة لنسف تلك الجسور ولهدم معابر التواصل الإنساني.
ولا توجه سهام الإرهاب في واقع الأمر للغرب وحواضره فقط، فقبل نهاية شهر رمضان الماضي، رأينا الإرهاب الأسود يقترب من عمق أعمق المقدسات الإسلامية في المدينة المنورة، وعشية عيد الفطر أو قبلها بقليل جدا، قتل الحقد المتمثل في بعض البشر نحو مائتين ويزيد من أطفال وكبار في العراق، ذهبوا لشراء ملابس العيد، وكأن هناك أيادي خفية تعمل على إيصال رسالة مفادها أن «الشعور المقدس ليس موجودا بعد».
يهدف الإرهاب، وباختصار غير مخل، لهدم القيم الروحية الدينية، ونشر الفساد الأدبي، وإفشاء الرعب المادي، بين النفوس، عطفا على العودة بالبشرية إلى مربع ما قبل مراحل التحضر، أي صراع الغابة الوحشي. ولكن خطورة المشهد هذه المرة أنه صراع ذو مسحة عقائدية، وليس صراعا على الخيرات الأرضية التي يمكن تقاسمها ومشاركتها وهذه هي الكارثة وليست الحادثة. إنهم يريدون خلق أجواء عالمية من الذعر والخوف والفرع، يريدون التقسيم والانقسام، من منطلق شيطاني حاقد علي الإنسانية وسلامها، وعلي الشعوب وأمنها وأمانها واطمئنانها.
منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والولايات المتحدة الأميركية، على نحو خاص تتزعم العالم في مواجهة «الإرهاب» عبر إشاعة المزيد من الحروب، والهجمات العسكرية، والحروب الاستخباراتية العلنية منها والسرية، وبالشراكة مع كثير من دول العالم التي آمنت بالطرح الفكري ذاته. غير أن حصاد التجربة بعد نحو عقد ونصف العقد من الزمان يأتي معاكسًا ومخالفا للهدف المنشود، إذ لم تأت عملية محاربة الإرهاب بالنتيجة المرجوة، والدليل تفاقم الشر وزيادة حدة وقسوة عمليات الإرهاب من أقصى الأرض إلى أدناها.
كانت آليات العنف أداة لتعميق طروحات صامويل هنتينغتون، لا سيما عند المتشددين، إذ أكدت لديهم أن العالم بالفعل عبارة عن جبهتين متصارعتين؛ إحداهما شرقية والأخرى غربية، وعزّزت منطق الفسطاطين، والدارين؛ «دار الحرب» و«دار الإسلام»، وهنا يتبين لنا بوضوح كيف أن المقاومة المسلحة مقاومة غير ناجعة أو ناجزة بمفردها، وأن المقاومة الفكرية والثقافية، قد تكون أداة فاعلة ضمن الأدوات الملائمة للرد علي معضلة الإرهاب، وذلك عن طريق إذكاء الوعي الإنساني وإيقاظ الضمير العالمي، وهذه هي المهمة الأولى لرجال الأديان، أئمة المؤمنين، وقادة الدين، لا سيما من فريق المستنيرين. ومن هنا تظهر القيمة الفعلية للحوار على كل مستوياته وصُعُده، خصوصا بين أتباع الديانات الإبراهيمية (التوحيدية) بادئ الأمر، فالحوار بين هؤلاء أصحاب الإرث المشترك، هو أبلغ طريقة للرد على الألم بطريقة إنسانية روحانية، وليس بالتصريحات العاطفية أو العنترية، ذلك أن الحوار يعني التمسك بمنطق الحكمة الإلهية.
ثم الحوار مع «الآخر» يعني قطع الطريق علي الخوف من الآخر، لأن الناس أعداء ما تجهل. وفي أوقات المحن والنوازل، دائما ما تكون الجدران أيسر في اللجوء إليها والاحتماء بها أو الاختباء وراءها.. من اللقاء على الجسور. وهذا أمر يحتاج إلى شجاعة أدبية كبيرة لملاقاة العبء الناجم عن «سلطان الخوف الأحمق»، إن جاز التعبير.
في أعقاب جريمة نيس ارتفعت أصوات كثيرة من الداخل الأوروبي، وبالأخص من أنصار اليمين المتطرف، بالتهديد والوعيد، لكل من هو وما هو مخالف عقائديًا أو ذهنيًا للسيادة العرقية الأوروبية، ومعنى ذلك أنهم يروّجون للخوف ولو من منطق «القوة الخائفة»، بالضبط كما فعلت السياسات الأميركية طوال السنوات الـ15 الماضية، غير أنه من حسن الطالع، لا يزال هناك أناس من الذين وصفهم المفكر الإسلامي الكبير عبد الرحمن الكواكبي بالقول: «إنهم ينبهون الناس ويرفعون الالتباس ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون».
من بين هؤلاء خرج عاليًا صوت الكاردينال آنجيلو بانياسكو، رئيس مجلس الأساقفة الإيطاليين، الذي وإن نصح بضرورة اليقظة والانتباه والحذر إلى أقصى حد ممكن إنسانيا، كانت نصيحته للأوروبيين بشكل خاص «عدم الاستسلام للخوف»، مضيفًا: «الشعور بالخوف يجب ألا يضللنا ويبعدنا عن الحلول الجيدة والسلوكيات الصحيحة والمناسبة، حتى بما يتعلق بالحالات الصعبة والمعقدة مثل هذه». وفي سياق الرؤية التي تطرحها «الفاتيكان» على نحو خاص لمجابهة تيارات الإرهاب يأتي الحث على الحوار العميق الإيجابي بين أتباع الأديان من جانب الأسقف أيوزو غيكسوت، أمين سر المجلس البابوي للحوار ما بين الأديان، الذي شدد تعليقه على جريمة نيس على ضرورة بذل أتباع مختلف الديانات وبالتعاون الخاص مع ذوي الإرادة الطيبة الجهود الحثيثة من أجل بناء التناغم الاجتماعي والتعايش السلمي، مع إيلاء اهتمام خاص بكرامة كل كائن بشري.
لم يدعُ الأسقف أيوزو إلى الحلول العاطفية، ولم يلجأ للتصريحات العنترية الجوفاء، فالرجل المسؤول الكبير في قلب المؤسسة الكاثوليكية، اعتبر أن «الحوار بين الأديان يكتسب أهمية حيوية ويقتضي أن يلتزم به جميع القادة الدينيين وأتباعهم. والمثير للتأمل أن تلك التصريحات أدلى بها الأسقف لصحيفة «أوسيرفاتوري رومانو» الفاتيكانية، بعد عودته من مصر وزيارته للأزهر الشريف، من أجل العمل على دفع واستئناف الحوار بين المجلس البابوي للحوار ما بين الأديان وجامعة الأزهر، ومن ثم، العمل على تزخيم الحوار الصادق والمتميز بين هذه الدائرة الفاتيكانية والمؤسسة السنية الدينية العريقة، مع التأكيد على ضرورة قيام تعاون يحرص على خير الإنسانية ويوطد العلاقات بين المسيحيين والمسلمين حول العالم.
هذا المشهد المتقدم يعني أنه في ظل تعرّض أوروبا لهجمات إرهابية، هناك من يفكر بطريقة إيجابية تقدمية خلاقة تسعى لمسارب من الأمل، بعيدا عن نيران المدافع أو فوهات البنادق. وهذا ما يتوقع حقًا أن يستدعي مواقف ومبادرات عربية وإسلامية واضحة وقاطعة الدلالة في مناهضة التطرف والإرهاب، عبر تأكيد قيمة التسامح في نفوس أبناء الأمة عن طريق التربية والمناهج العلمية، مما يعزز القناعات بأهمية الآخر، وحقه في الوجود وحفظ نفسه وماله وعرضه، بل والتلاقي معه، وهذا بداية خيط الحوار على الأرض بين العوام. وكي لا تكون دعوات الحوار والجوار قاصرة على الطبقة الفكرية الراقية من أتباع الأديان، وبعيدا عن الشباب الذين يعتبرون ومن أسف شديد وقودا لتلك المحرقة الفكرية الجديدة.
وهنا يلزمنا التذكير هنا بأن التسامح في الإسلام ليس مجرد قيمة نظرية أو شعار لا مضمون له، وإنما كان وسيظل واقعا معاشا له رسوخه في العقول ومكانته في القلوب وجذوره في التاريخ. وفي مؤلفه العمدة «الفكر الديني وقضايا العصر» يحدثنا المفكر المصري الدكتور محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف الأسبق، عن الإرهاب الذي يمثل ظاهرة عالمية يكتوي بنارها الجميع من كل الأديان والحضارات، ولذا فالأمر يعني بالنسبة إليه حتمية تضاد الجهود والتعاون الوثيق من أجل القضاء على كل الأسباب التي تؤدي إلى الإرهاب وتساعد على انتشاره. والثابت أن مثل هذا التعاون لن يتحقق على نحو فعال، إلا إذا كان هناك تفاهم مشترك وإدراك حقيقي بحجم الأخطار التي تهدد الجميع، والتي لن ينجو منها أحد.
وللوصول إلى هذا التفاهم المشترك لا بد من الحوار بين الأديان وأتباعها والحضارات وأبنائها، فهذا الحوار هو السبيل القويم لدعم قيمة التسامح والتعايش بين البشر ولمواجهة كل أشكال التطرف والإرهاب، ودرء المخاطر التي تهدد البشرية، وتهدد الحضارة والأديان اللذين يمثلان صمام الأمان وحصن السلام للبشرية جمعاء.
ولعل الحقيقة التي لا مراء فيها هي أنه ليس هناك من شك في أن عالمنا المعاصر، في أشد الحاجة إلى التضامن الفعال من أجل درء خطر الإرهاب، والقضاء عليه حتى يعم السلام في هذا العالم الذي نعيش فيه والذي هو عالمنا جميعا.
هنا قد يتساءل البعض: «ولكن ما فائدة مثل هذا الحوار بين أناس من خلفيات دينية مختلفة، كل منها لها توجهه الخاص، روحانيته المستقلة؟». ويبقى التساؤل وكأنه لا شيء مشترك في الفضاء الإنساني العام، مع أن هذا قول منافٍ ومجافٍ للحقيقة، والعهدة هنا على هانس كونغ، عينه. ذلك أنه من المهم بشكل حيوي من أجل ترسيخ بنية المعبر، إدراك أنه على الرغم من الاختلافات بين الأديان الثلاثة، واختلاف النماذج المتنوعة التي تتغير على مر القرون والألفيات، فإن هناك ثوابت جامعة على المستوى الأخلاقي تجعل من بناء مثل ذلك المعبر أمرًا ممكنًا.
فرغم كون البشر قد تطوروا من مرحلة إلى أخرى، من الهمجية والوحشية إلى الآدمية، في طريق نهجهم للسلوك الإنساني، ورغم استخدام العقل، وبسبب دوافع النفس البشرية، فإن الوحشي بقي فيهم حقيقة، ولأزمان طويلة. ولمرات متوالية ناضل البشر لكي يصبحوا آدميين، وليس عكس ذلك. وهنا يمكن لأتباع الأديان التوحيدية، وأصحاب الشرائع الوضعية عبر اللقاء المشترك تعزيز الحتميات الأخلاقية البسيطة الملازمة لمفهوم الإنسانية، تلك الثوابت من أمثال:
* لا تقتل أو تعذب أو تصيب أو تغتصب، أو بمعنى إيجابي «احترام معنى الحياة»، أن هذا يمثل التزامًا بثقافة اللاعنف واحترام معني الحياة.
* لا تكذب، أو تخدع، أو تزوّر، أو تتلاعب، أو بمعني إيجابي «تكلم وتصرف بصدق». إن هذا يمثل التزامًا بثقافة التسامح وبحياة يعمها الصدق.
هذه الحتميات يمكن أن توجد لدى باتانجالي، مؤسس اليوغا، كما توجد في مبادئ البوذية، عطفًا على وجودها المؤكد وبوفرة في التوراة والإنجيل والقرآن. وقبل كل شيء يمكن للمتحاورين من المؤمنين الإيجابيين الرجوع إلى القاعدة الذهبية التي وضع كونفوشيوس إطارها قبل الميلاد وهي «ما لا ترغب في أن يفعل الناس بك، لا تفعله أنت في الآخرين». وعلى الرغم من أن هذه القاعدة تبدو أولية، فإنها تساعد في اتخاذ قرارات في شأن كثير من المواقف الصعبة.
من نيس خرج من يهدد الحياة الإنسانية، تلك العطية الإلهية المجانية، لكن فعلته يجب ألا تعني نهاية الجوار والحوار مع العالم الإسلامي من قبل فرنسا والفرنسيين، وتاليا عموم أوروبا وجميع الأوروبيين. ذلك أنه إذا كان من الخطأ أن ندين دينا معينا أو مجموعة من القيم بسبب أفعال أو بيانات صادرة عن بعض متبعيها، فإنه يجب أن يكون أمرًا خاطئًا أيضًا أن نتخلى عن فكرة أن قيمًا معينة هي قيم عالمية فقط لأن بعض الناس لا يبدو أنهم يقبلونها.
وتستوجب الصورة الشقاقية للإرهابي الذي نفذ جريمة نيس صورة وفاقية مغايرة، تجلت قبل الحادث المروّع بأيام قليلة. ذلك أنه في الأربعاء الأول من يوليو (تموز) الحالي وبعد نهاية اللقاء الأسبوعي لبابا روما فرانسيس الأول، وأمام جمهور غفير، وجه رأس الكنيسة الكاثوليكية رسالة لأربعة أئمة مسلمين فرنسيين منخرطين في الحوار بين الأديان والعلاقات الإسلامية المسيحية هم، طارق أوبرو أمام مسجد بوردو، ومحمد موسوي رئيس اتحاد مساجد فرنسا، وعز الدين قاسي أمام مسجد فيلورين، وجلول صديقي مدير معهد العلوم الفقهية بالمسجد الكبير بباريس، وقد صافحهم البابا وتبادل معهم بعض الكلمات وسلمهم علبًا صغير تحوي مسابح.
وكان المشهد يعني أنه «في عالم يحب مشاهدة العنف، فإنه من الجيد إظهار التفاهم الودي الذي ينمو بين المسلمين والأغلبية المسيحية»، وزيارة روما من قبل تلك الزعامات الإسلامية تشكل إشارة لذلك. ولم تكن اليهودية بدورها بعيدة، ففي سبتمبر، من عام 2013 قام وفد قاده الكاتب اليهودي الفرنسي مارك هالتر وضم ثمانية أئمة بينهم حسن شلغومي إمام درانسي بزيارة إلى روما كانت موضع متابعة إعلامية كبيرة. وبالتالي، مع أن العالم اليوم قد يبدو كمستشفى أمراض عقلية، عبر تغيراته الجيوبوليتيكية المثيرة التي تتسارع يوما تلو الآخر، فعاجلا أو أجلا، عندما تتعاظم المشكلات ستكون هناك حلول تفصح عن ذاتها، والحوار بين أتباع الأديان حكمًا سيكون في مقدمها.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.