بعد فترة تراجع.. «فورة» جديدة للراديكاليين الكشميريين

«دفاعًا عن الإسلام» في الإقليم..ومواجهة الظلم الذي يتعرض له المسلمون

كشميريون يرفعون لافتة سوداء مع أعلام باكستانية وهم يطلقون شعارات تدعو للحرية وضد الهند أثناء مظاهرة (أ.ف.ب)
كشميريون يرفعون لافتة سوداء مع أعلام باكستانية وهم يطلقون شعارات تدعو للحرية وضد الهند أثناء مظاهرة (أ.ف.ب)
TT

بعد فترة تراجع.. «فورة» جديدة للراديكاليين الكشميريين

كشميريون يرفعون لافتة سوداء مع أعلام باكستانية وهم يطلقون شعارات تدعو للحرية وضد الهند أثناء مظاهرة (أ.ف.ب)
كشميريون يرفعون لافتة سوداء مع أعلام باكستانية وهم يطلقون شعارات تدعو للحرية وضد الهند أثناء مظاهرة (أ.ف.ب)

إقليم كشمير، المقسّم سياسيا اليوم بين جزء هندي هو ولاية جامو وكشمير عاصمتاها شريناغار (صيفًا) وجامو (شتاء) وجزء باكستاني هو منطقة آزاد كشمير - أي «كشمير الحرة» - وعاصمته مظفر آباد، يعدّ أكثر مناطق الصراع اشتعالا بين الهند وباكستان في ضوء ادعاء الدولتين ملكيته منذ الاستقلال عن التاج البريطاني وتقسيم شبه القارة الهندية عام 1947، وخاضت الهند وباكستان منذ ذلك الحين أربع حروب للسيطرة على الإقليم نظرا لأهميته الجغرافية الكبيرة. رغم رصد مكافأة قدرها 15 ألف دولار أميركي لمن يرشد عن هروب برهان واني، الحركي المتشدد، مرت نحو ست سنوات على هروب واني (21 سنة) في إقليم كشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان، الذي تسكنه غالبية مسلمة، ولا يزال الرجل يمثل رمزًا للكثير من الشباب المسلم في كشمير. ولد برهان واني لأب يعمل ناظر مدرسة واجتاز امتحانات الثانوية العامة بنسبة 90 في المائة، بيد أنه أعلن نفسه زعيما لجماعة «حزب المجاهدين» الأصولية المسلحة ليصبح الوجه الجديد للحركية الراديكالية في كشمير.
وبحسب تقرير إعلامي محلي: «أصبح واني موضع إعجاب في حركة التمرد التي ظهرت من جديد في كشمير بعدما انتشرت مقاطعه الصوتية المسجلة بين الشباب الكشميري واستطاع بعدها تجنيد على الأقل 90 شابًا وحثهم على حمل السلاح».
وفي بعض المقاطع المصورة، ظهر برهان واني متباهيا بهدفه أن يرى راية الإسلام ترفرف عالية بمنطقة «ريد فورت»، أو القلعة الحمراء، التي كانت في السابق معقلا لأباطرة الهند المغول في العاصمة الهندية دلهي.
ومن ناحية ثانية، من بين أكثر المطلوبين على قوائم الإرهاب في الهند أيضًا الطالب إسحاق أحمد باراي، وهو طالب عبقري لقب بـ«نيوتن» – تيمنًا بالعالم البريطاني إسحق نيوتن - نظرا لنبوغه الأكاديمي. وفي توقيت متزامن، هجر ذاكر راشد بات، وهو ابن مهندس كبير في الحكومة الهندية، دراسة الهندسة للانضمام لجماعة واني. وفي خطاب لوالده، تحدث ذاكر عن «الظلم الذي يتعرض له المسلمون في كشمير» وفي الخارج وعن أن «الجهاد بات السبيل الوحيد لتحقيق العدالة».
لماذا اتجه الشباب الكشميري طواعية للقتال من جديد؟ أشار ضابط شرطة - رفض الكشف عن هويته - إلى أن مسحا أجرته الشرطة المحلية كشف عن أن المساجد في كشمير أصبحت مراكز تجمع يثير فيها الأئمة النقاش عن التهديد الذي يواجه «الإسلام في كشمير». ومن جانبه يرى عمير غل، وهو باحث أعد رسالة الدكتوراه بمعهد دلهي الإسلامي التربوي عن الصراعات المسلحة في الهند، أن «الجيل الجديد من المسلحين يستهويه النموذج المتزمت من الإسلام الذي يدعو للتضحية بالحياة لبلوغ الجنة ونعيمها الأبدي في الآخرة». وغالبا ما يجد هؤلاء الشباب المندفع للكفاح المسلح باسم الدين التأييد الصريح من عائلاتهم، أو على أقل تقدير، غالبا ما تصرح تلك العائلات بما يبرّر سلوك أبنائها.
على سبيل المثال، يبالغ مظفر واني، والد برهان، في تباهيه بأن ابنه أصبح شخصية محورية يتجمع حولها الشباب. ويقول إن الدين والاضطهاد لعبا دورًا هامًا في اشتعال القتال. «أصبح ابني مقاتلاً مسلحًا ليس بسبب تعرضه للظلم فحسب، لكن أيضًا لأنه لم يحتمل رؤية الظلم الذي يتعرّض له الكثير من المسلمين». ولتأكيد وجهة نظره، قال مظفر إن «الجهاد فريضة على المسلم، حيث إن تلك الشرارة كامنة في قلب كل مؤمن، لكنها تحتاج لمن يشعلها كي تصبح حريقًا..».
من ناحية ثانية، مع أن التأييد المحلي للإرهاب، أو القتال المسلح، تراجعت مؤشراته خلال السنوات الثلاث الماضية، فقد ازداد التأييد بشكل واضح بعد شنق محمد أفضل، الكشميري المُدان في الهجوم المسلح على مبنى البرلمان في فبراير (شباط) 2013، وكذلك إثر الهجمات الأخيرة ضد المسلمين في مختلف أنحاء البلاد بحجة تناول لحوم الأبقار.
وفي 26 يونيو (حزيران) الماضي، شاركت أعداد غفيرة من المدنيين في جنازة مسلحين اثنين لقيا حتفهما بعدما قتلا ثمانية من العسكريين الهنود في كمين نصبوه لهم، وامتدح المشيعون «استشهاد ابنيهم». ذلك أنه بالنسبة للكثير من العائلات في منطقة ترال، بجنوب كشمير، يعتبر الاستشهاد عزاء عن فقدان أبنائهم. ولقد قتل عاشق حسين في مواجهات مسلحة، وعند إحضار الجثمان للمنزل بعد ذلك بثلاثة أيام، قدمت عائلته وأقاربه للجثمان الحليب، وبرروا ذلك بقولهم «سقيناه الحليب لأن الشهداء لا يموتون»، بحسب شقيقه مشتاق أحمد. وتعتبر مثل هذه المشاهد مألوفة في ظل العمليات القتالية في كشمير وتعكس هذه التصرفات المزاج العام. وبحسب الصحافي المعروف زهور مالك «يعتبر هذا المشهد تكرارًا لما حدث عام 1989 - 1990 عندما اندلعت أحداث العنف المناهضة للهند في كشمير في محاولة لفصل الجزء الهندي من الإقليم عن الهند، إذ خرج الآلاف إلى الشوارع لمطالبة الهند بمنحهم الحرية».
ومن ثم، رغم تضييق الخناق على المسلحين، أخذت أعداد المسلحين المتشددين تتزايد، وظهرت جماعات مثل «جبهة تحرير جامو وكشمير» و«حزب المجاهدين»، لتفتح الطريق لجماعات إرهابية أخرى مثل «عسكر طيبة» و«جيش محمد». وعلى امتداد منتصف التسعينات، تمكنت قوات مكافحة الإرهاب الهندية من كسر شوكة أغلب الحركات المسلحة الراديكالية، والأهم أن التأييد الشعبي لتلك الجماعات المسلحة، وفق المصادر الهندية، تراجع بعدما عانى الناس من العنف «وأدركوا أن دعم باكستان له تحركه طموحاتها التوسعية، لا خوفها على حياة ورفاهية الكشميريين». وفعلاً تحسنت الأوضاع في ولاية جامو وكشمير وعادت الحياة إلى طبيعتها. هاريندر باويجا، وهو صحافي معروف غطى أخبار كشمير منذ بداية ظهور العمليات المسلحة هناك، يقول معلقًا: «لا تخشى الفرقة التي شكلها برهان واني الكشف عن هويتها، بل كشفت الحركة المسلحة الجديدة عن حيل للتجنيد لم تكن معروفة في كشمير من قبل. وبعكس الحركات المسلحة التي عرفناها في السابق التي لم تكن تظهر أمام الناس، يكشف أفراد هذه الحركة وجوههم ويعلنون أسماءهم على الملأ، ما يعطي عنفهم المزيد من الجاذبية كما هو الحال مع داعش».
ويتفق تيجندر سينغ، وهو قائد شرطة بولواما، مع هذا الطرح بقوله إن «المقاطع المصورة وصور المقاتلين في زيهم المموّه، وهم يسيرون وسط الغابات الكثيفة وبحوزتهم مدافع كلاشينكوف (أو بنادق إيه كي 47) بينما يتبادلون النكات وعلى وجوههم ابتسامة عريضة، كلها تضفي على القتال جاذبية وسحرا، ما يؤثر على الحالة النفسية للشباب الكشميري الذي يقضي ساعات وساعات في مشاهدة المقاطع المصورة التي حملها المقاتلون المحليون هؤلاء وكذلك تنظيم داعش». ويضيف أن الكشميريين يجدون في هؤلاء المقاتلين أمثال برهان واني نماذج يحتذي بها «لأننا لم نستطع أن نوفر لهم نماذج بديلة». ويتابع بولواما قوله: «بمقدورنا أن نحرم عائلاتهم من الأمان، لكننا في النهاية شعب واحد ونعتبر أن عائلاتهم هي عائلاتنا». هذا، وبعد انتشار المقطع المصوّر، هرب اثنان من رجال الشرطة، هما رياض أحمد وغلام محمد، فارين من تأدية واجبهما وأخذا معهما بندقيتيهما الآليتين الكلاشينكوف وكمية من الذخيرة، للانضمام إلى عصابة واني. ووفق ضابط في الاستخبارات الهندية: «وصل صدى رسالة برهان واني لكثيرين.. ويبدو أن برهان واني يدرك أهمية الإعلام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن صفحته على موقع فيسبوك تحظى بأكبر عدد من المتابعين داخل وخارج كشمير». فقبل يوم واحد من وفاته، ترك غلام رسول بات، الذي عمل خطّاطًا لدى صحيفة محلية، رسالة لابنه بشير أحمد قال فيها: «زر قبري وأعلنه للناس في اليوم الذي تصبح فيه كشمير جزءًا من باكستان».
وهناك أمثلة كثيرة لمناسبات صرّح فيها الكشميريون بحبهم وعشقهم لباكستان كونها دولة إسلامية. ففي الماضي القريب حدث أن خرجت مسيرات من المعاهد الدينية في كشمير مؤيدة لباكستان، معظمها يرفع علم تنظيم داعش. وفي برنامج «أيديا أكستشاينج» - أو تبادل الأفكار - أعرب دي إس دولت، مدير وكالة التجسس الهندية السابق «آر وإيه دبليو» في عهد رئيس الوزراء أتال بيهاري فاجباي، عن قلقه من عودة كشمير لمرحلة ما قبل عام 1996 قائلا: «ينتمي هؤلاء لعائلات عريقة وحصلوا على تعليم راق، لماذا يفعلون هذا إذن؟ هذا أكثر ما يخيف في الأمر. أخشى ما أخشاه أن نرى علم (داعش) مرفوعا ونرى شعاره في شريناغار... لذا نحتاج لدراسة هذا الأمر بعناية».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.