النمسا تحيي «إمبراطورية الهابسبرغ» في متاحفها ومقاهيها

النمسا بلد يمجد تاريخه، ورغم اندثار إمبراطوريته التليدة التي عرفها التاريخ باسم «إمبراطورية الهابسبرغ» مع نهاية الحرب العالمية الأولى، فإن الشعب ومن حكمه لم يدمر تمثالا كما لم يهدم أثرا بل حافظوا علي كل الموروثات بما في ذلك الممتلكات الشخصية للأباطرة وعلية القوم، ويعرضونها في متاحف ودور وثائق، كما فتحوا القلاع والقصور للعامة بالوضعية التي خلفها آخر إمبراطور.

«الشونبرون» مرآة لحياة الإمبراطور وزوجته
هذا هو الحال بقصر «الشونبرون» الذي يعرض حتى «فرشاة أسنان» الإمبراطور فرانس جوزيف آخر سكان القصر وأدوات حلاقته، ومن ضمن المعروضات أدوات ماكياج زوجته الإمبراطورة سيسي، ناهيك بـ«مواعينها» وإكسسواراتها، فيما تضم مكتبات عامة مؤلفاتهم وكتبهم كما تفتتح دوريا معارض كثيرة للوحات وأعمال فنية ووثائق تاريخية جديدة لم يكشف عنها من قبل. بني قصر الشونبرون قبل نحو 300 عام. وكان يعد هذا القصر المقر الصيفي للقيصر، وقد قضت فيه زوجة القيصر إليزابيث المشهورة بسيسي أولى سنوات زواجها فيه. وخلال القرن السابق اتخذ أطفال «القيصر ماريا تيريزا» لـ16 من غرف وقاعات وأروقة هذا القصر ملعبا لهم.
سمح للعائلة القيصرية بدخول هذه المتاهة مرة واحدة فقط، واليوم يعد التجول بداخلها متعة للزوار. إذا أمعنت النظر في الزوايا ستلاحظ العلامات الـ12 للأبراج الفلكية. عندما تجد طريقك خارج المتاهة يمكنك التسلق على مبنى معين وتراقب الناس التائهين داخل المتاهة. ويتصل مباشرة بالمتاهة مباني ألعاب معقدة.

متاحف بين العراقة والتجدد
ويضم متحف الفنون التاريخية الجميلة مجموعة بالغة الفخامة من الهدايا التي أهديت من كل أنحاء العالم لحكام من الهابسبرغ بما في ذلك أعمدة رخامية فرعونية شاهقة مما يعتبر مصادر جذب سياحي متنوع تضع النمسا في مقدمة الدول السياحية، واسعة الثراء الثقافي والتاريخي بالإضافة لجمالها الطبيعي.
يعد متحف تاريخ الفنون أحد أهم المتاحف العالمية. وقد أسس المتحف في عام 1891. ويعرض في المتحف لوحات لأشهر الرسامين من العصور الوسطى، وأثار من مصر القديمة ومن بلاد الشرق الأوسط، كما يحوي المتحف مجموعة نادرة من أزياء الفرسان المسلحة من العصور الوسطى، وبه أيضًا معروضات لآلات موسيقية. يقع المتحف في ميدان ماريا تيريزا بوسط فيينا، في مواجهة متحف التاريخ الطبيعي فيينا. الموقع أحد مواقع التراث العالمي. بدأ المتحف بلوحات فنية لأعضاء أسرة هابسبورغ التي كانت تحكم الإمبراطورية النمساوية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بالإضافة إلى مقتنيات من الملابس الحديدية للفرسان من العصور الوسطى كان يقتنيها فردناند الثاني والقيصر رودولف الثاني، ولوحات كانت في حوزة الأمير ليوبولد فيلهلم. ثم أضيف إلى تلك المقتنيات مجموعة الآثار القديمة من البلاد المختلفة ومجموعة العملات الذهبية والفضية، واحتفظ بها جميعًا في هذا المتحف، وكان ذلك في عام 1833.
وتبذل النمسا جهدا في الحفاظ على هذه الثروات واستثمارها مستعينين بمختلف وسائل التقنية الحديثة، وكمثال وليس حصرا يعتمد متحف «الالبرتينا» على أحدث أسلوب للحفاظ على اللوحات الفنية بما في ذلك نظم لضبط الإضاءة حتى لا تؤثر الحرارة والأكسدة في المعروضات، كما يتم كل فترة زمنية تجديد طلاء جدران القصور كافة وترميم المعروضات بمواد حافظة حديثة الصنع مما يزيد من بريقها وبهائها. ويضم ألبرتينا واحدة من أكبر وأهم غرف المطبوعات في العالم، مع ما يقرب من 65000 لوحة من اللوحات الفنية، بالإضافة إلى الأعمال التخطيطية الحديثة، وصور، ورسومات معمارية. كما يضم المتحف معارض مؤقتة.
وقد شُيّد المتحف علي آخر ما تبقي من تحصينات مدينة فيينا. وقد تم بناؤه بين عامي 1742 و1745.

المطبخ النمساوي بين «الغولاش» المجري ونكهات المكسيك
بدوره يفتخر المطبخ النمساوي بما كان يفضله قدامى حكامه وأباطرته من أطعمة ومأكولات، وفي هذا السياق تبرز شهرة مقاهٍ ومطاعم تنشر في معظم المدن والقرى بما في ذلك قرى جبلية نائية على خلفية أنها كانت المفضلة عند أولئك الأباطرة، ولا تغفل منشورات سياحية الإشارة والإشادة بأصول المطبخ النمساوي وماذا كان الأباطرة يفضلون وماذا تذوقوا.
وحسب دراسة حديثة، فإن عدم رواج سلاسل شركات الأطعمة التي ظهرت مع العولمة والشركات عابرة القارات كمحال «الفاست فود» و«البيرغر» و«الدوناتز» بالنمسا، يعود عموما لافتقار تلك المحال وأطعمتها لإرث تاريخي يربطها بالأباطرة وليس لكونها أجنبية إذ تنتشر على سبيل المثال أطعمة أجنبية الأصل عرفتها الإمبراطورية ولا تزال مطلوبة بالنمسا كطبيخ وشوربة «الغولاش» المجرية الأصل.
ومعلوم أن المجر كانت جزءا من إمبراطورية الهابسبرغ.
وفي السياق ذاته، يعشق النمساويون أطعمة حارة تعود جذورها للمكسيك التي وصلت إليها إمبراطوريتهم وحكمها الإمبراطور ماكسيمليان الأول 1864 - 1867 ولا يخلو التاريخ النمساوي من آثار مكسيكية.
وهذا أمر ينطبق على معجنات وحلويات مثل الكرواسان والكعك الهلالي الشكل اللذين يربطهما النمساويون بحقائق تاريخية تعود للغزو العثماني للنمسا والحصار الذي فرضه الجيش العثماني مرتين على العاصمة فيينا فما كان من خبازوها إلا أن فشّوا غليلهم بخبز رموز وشارات تركية يهرسها النمساويون ويقضمونها.

تنافس على تحضير كعك القيصر
وفي السياق التاريخي ذاته يربط النمساويون حبهم للقهوة باندحار الجيش العثماني الذي خلّف جوالات من البن طالب بها جاسوس مزدوج مكافأة لخدمات قدمها للجيش الإمبراطوري، فمنحه إياها الإمبراطور وكان الجاسوس واسمه جورج كولشتسكي قد شاهد كيف يحمص الأتراك حبوب البن ومنها يصنعون شرابًا ساخنًا رائع النكهة، وحسب مؤرخين فإن كولشتسكي هو أول من افتتح مقهى بفيينا، التي أمست مدينة المقاهي.
من جانبه يفتخر مقهى ديمل الذي يعتبر أشهر مقهى بفيينا بكونه كان المفضل لدى الإمبراطور، ولا غرابة في ذلك لقرب موقعه على بعد بضعة أمتار من قصر الهوفبورغ، المقر الإمبراطوري الشتوي.
وداخل ديمل نفسه تحظى كعكة نمساوية بإرث تاريخي قانوني يعود لصراح قاسٍ دار بين «ديمل» وفندق «زاخر» أفخم فنادق المدينة، حول الوصفة الأصلية لقالب الكيك الصخري المصنوع من الشوكولاته، وكان كل من ديمل وزاخر قد تمسك بأن ما يصنعه ويقدمه لزبائنه هو الوصفة الأصلية التي قُدّمت للأباطرة.
ولا يقتصر الربط بإرث تاريخي على أفخم الحلويات إذ حتى الفطيرة الشعبية المعروفة بـ«كايسر شمارن» وهي أشبه ما تكون بطبقات من بان كيك غير منتظمة كأقراص دائرية مكتملة، وإنما مقطعة ومجزأة لها جذور تاريخية، تقول إن القيصر فرانس جوزيف طلب ذات عصرية طبقًا من «البان كيك» أو «الفان كوخن» كما يسميه النمساويون، إلا أن من صنعها كان تحت التدريب قليل المهارة، فجاءت مجزّأة فعمد لتغطيها بمكسرات، ورشّ عليها سكرًا ناعمًا، ووضع بجانبها مربى، فنالت إعجاب القيصر.
بينما تقول أسطورة أخرى إن الإمبراطورة استاءت منها جدا لغزارة ما بها من مواد، لا سيما أن الإمبراطورة كانت امرأة مدبرة لا تحب التبذير، كما تهتم كثيرا بقوامها فلم تأكلها وأكلها القيصر، ولهذا يحمل اسمها كلمة «كايسر» أو «قيصر» مصحوبا بـ«شمارن» الذي يعني في اللغة الألمانية مهملا أو غير منتظم.

مأكولات شعبية ابتكرها الفلاحون
ولا يخلو أكثر أنواع «اللقيمات» شعبية بالنمسا أو«كرابفن» عن ارتباط تاريخي. و«كرابفن» نوع من الحلوى قوامه الدقيق والخميرة، يحمرونه تحميرا كبيرًا، بأحجام كبيرة يحشونها، أما مربى خوخ أو كريمة أو صوص شوكولاته، ولدسامته يعشقونه شتاء أثناء موسم الكرنفالات والحفلات الراقصة التي تسبق موسم الصيام.
وتاريخيًا يرتبط الكرابفن بتاريخ تلك الحفلات الضخمة التي أول ما عرفت بين الفلاحين، ثم انتقلت للبلاط والقصور التي أدخلت عليها الكثير من البروتوكول والتقاليد.
ولا تزال الكرابفن مطلوبة تباع في أرقى المحال وأبسطها كذلك، ومن يلتهمها يعتقد أنه يلتهم حلوى إمبراطورية تماما كمن يتجول بالفييكا أو الحنطور الذي تجره الخيول بفيينا، ويعتقد من يركبونه من السياح أنهم يمتطون وسيلة المواصلات الأكثر رقي إبان عهد الأباطرة.