رهانات خاسرة: تحركات حوثية في أوروبا

مظاهرة للجالية اليمنية في محيط الأمم المتحدة تندد بالإرهاب الحوثي خلال انعقاد جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع في اليمن فبراير الماضي
مظاهرة للجالية اليمنية في محيط الأمم المتحدة تندد بالإرهاب الحوثي خلال انعقاد جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع في اليمن فبراير الماضي
TT

رهانات خاسرة: تحركات حوثية في أوروبا

مظاهرة للجالية اليمنية في محيط الأمم المتحدة تندد بالإرهاب الحوثي خلال انعقاد جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع في اليمن فبراير الماضي
مظاهرة للجالية اليمنية في محيط الأمم المتحدة تندد بالإرهاب الحوثي خلال انعقاد جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع في اليمن فبراير الماضي

«بالإجلال والتقدير والاعتزاز تلقينا نبأ الرحيل المقدس بعطاء الشهادة تتويجًا لعطاء العمر المديد في الجهاد في سبيل الله تعالى بفارس من فرسان مسيرة العطاء، والصمود والتفاني في سبيل الله تعالى ونصرة المستضعفين ومواجهة المستكبرين، هذا الفارس العظيم من حملة الراية في موكب العز الحسيني المحمدي هو الشهيد المجاهد مصطفى بدر الدين، ذو الفقار، نسأل الله أن يتقبله في الصالحين وأن يجعل كتابه في عليين ويلحقه بالشهداء الأبرار في رحاب سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام».
هذه الكلمات نقلتها وكالة الأنباء اليمنية التابعة لأنصار الله الحوثيين كرسالة عزاء موجهة إلى الأمين العام لحزب الله اللبناني.

هيمنة منطق الميليشيا
فلا يزال منطق الميليشيا مهيمنًا على العقلية السياسية للحوثيين، وأكبر دليل على ذلك الفشل الذريع في المفاوضات والتعنت واختراق الهدنة، وجلب المزيد من الدمار والاختطاف والاغتيال بهدف تزجية أكبر قدر من الوقت، والقدوم للتفاوض بشروط متعنتة، وهو ما يوضح أن أنصار الله الحوثي في اليمن ما زالوا يحاربون بالوكالة عن نظام ملالي طهران بهدف تدمير اليمن أولاً، ثم محاولة تهديد أمن جيران اليمن وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية ولكن هذه الأهداف يتم الالتفاف عليها عبر شعارات سياسية متطرفة تستهدف الداخل اليمني، وشعارات سياسية ناعمة للمنظمات الحقوقية والدولية التي يحاول الحوثيون الآن الوصول لها بشتى الطرق عبر إيفاد شخصيات حوثية بارزة وتقديم الأزمة رغم المفاوضات على أنها مظلومية أقلية مضطهدة في اليمن وليس ميليشيا انقلابية جرّفت ما تبقى من إرث المخلوع علي عبد الله صالح الذي يسعى لتثبيت سلطته عبر التحالف مع أنصار الله الحوثيين وإن بدا تحالفًا هشًا مصلحيًا لن يدوم.

نهب مقدرات الدولة
اليمنيون قبل أي طرف آخر لن يقبلوا باستمرار مهزلة الاحتلال الحوثي لمقدرات الدولة، كما أنهم يدركون بجلاء أن التحالف الذي تقوده السعودية هو لتثبيت الشرعية السياسية وإعادة فرز الحالة السياسية في اليمن وفق قرارات مجلس الأمن، ولذلك لم تقم باقتحام العاصمة صنعاء بل قدمت التفاوض والحوار حفاظًا على مؤسسات الدولة اليمنية المختطفة من الميليشيا، إلا أن الإشكالية أن الحوثيين لا يتوقفون عن مسلسل الترويع والقتل والإرهاب تجاه المدنيين في المناطق التي يسيطرون عليها في صعدة وعمران وإب وغيرها، إضافة إلى اتساع رقعة النهب والسرقة للمال العام، وجباية الأموال من العامة بدعوى دعم الحرب، وتتحدث التقارير الصحافية عن سرقة ما يزيد على أربعة مليارات دولار في العام الأول من الانقلاب، وهو ما ساهم في تضخيم الأزمة الاقتصادية والمالية وتبعاتها الإنسانية في اليمن.
لعبة الأقنعة
إشكالية الحوثيين تبدأ في الإنكار واللعب بازدواجية الأقنعة المختلفة، فالقناع الثوري لأتباعها وإيران ووكلائها حيث «الموت لأميركا وإسرائيل» وهو الشعار الذي يتم نفيه وإنكاره والاعتذار عنه عند لقاء المنظمات الدولية والحقوقية وحتى الشخصيات الغربية، ليتم لبس قناع المظلومية والأقلية المضطهدة ومحاولة إظهار الملف اليمني على أنه أزمة سعودية يمنية وهي ليست كذلك، وهنا جزء من أزمة اللعب بالمفاهيم والحقائق والتي قد تنطلي على بعض المنظمات التي تغلب الجانب الإنساني، وهو أمر مهم لكن ينقصها التوصيف السياسي الدقيق.

أزمة يمنية ـ يمنية
والحال أن الأزمة مع الحوثيين هي يمنية - يمنية بدأت نقض أنصار الله شرعية حكومة الرئيس هادي والانقلاب عليها بالتحالف مع المخلوع، وهو الأمر الذي تعامل معه هادي بمسؤولية كبيرة، مطالبًا المجتمع الدولي ودول الخليج المجاورة والمتاخمة لحدود اليمن سرعة التدخل لإيقاف زحف الحوثيين وإيران على شرعية البلد ومقدراته، وبالطبع لصبغ الأزمة على أنها ليست يمنية قام الحوثيون باستفزاز جيران اليمن وفي مقدمتهم السعودية وأطلقت صواريخ على الحدود بغرض جرّ القوات السعودية إلى معركة أخرى.

تفاوض مسيّس
فإن الحوثيين لبس وا قناع الحوار والتفاوض لكن دون ترسانة سياسية، وهو ما يعيد التساؤل الجديد القديم عن جدوى إدماج الميلشيات والمنظمات المتطرفة القائمة على الطائفية أو نموذج الدولة داخل الدولة في العملية السياسية قبل التخلي عن آيديولوجيتهم الانفصالية، وهو سؤال جدير بالتأمل إذا ما رصدنا السلوك الحوثي في مفاوضات الكويت والمبني على المساومة والتسويف وقلب الحقائق وأهمها تجاهل المرجعيات الأساسية وأولها قرار مجلس الأمن 2216، باعتباره الأساس لجولة المفاوضات الحالية في الكويت، كما ترفض ميليشيا الحوثي الالتزام بالانسحاب من المدن والمحافظات وتسليم السلاح وإنهاء الانقلاب وكل النتائج التي تسبب بها.

نموذج حزب الله
الهدف النهائي لأنصار الله الحوثيين هو الوصول إلى حالة مشابهة لحزب الله اللبناني في لبنان، البقاء بهيكليته العسكرية وبناه التحتية في مناطقه التي يتصرف فيها على طريقة الحاكم بأمره، والتمثيل السياسي بأكبر حصة في الحكومة الشرعية، وهو ما يطرح ما هي ضمانات تخلي الميليشيا عن هويّتها وتحولها إلى حزب سياسي تعددي، وهو أمر في غاية التعقيد لا سيما إذا كانت هذه الأحزاب كما هو الحال مع أنصار الله مرتبطة بشكل جوهري مع نظام الملالي في طهران.
النقطة الحاسمة في تحول ميليشيا الحوثي إلى حزب سياسي هو تسليمه للمناطق التي قام باحتلالها، وإعادته لمقدرات الدولة التي سيطر عليها، إضافة إلى تسليمه إلى ترسانة السلاح التي تضاعفت لديه بفضل الاحتلال والتمويل القادم من الداخل والخارج في بلد يقبع تحت 60 مليون قطعة سلاح.

تحركات خارجية
وبإزاء الحرب التدميرية التي يقوم بها أنصار الله الحوثي في داخل اليمن، فإن الفترة الماضية شهدت تنقلات وزيارات حوثية سريعة ومعلنة لأغلب المنظمات الدولية والإنسانية وعدد كبير من الشخصيات المؤثرة التي يمكن أن تقوم بدعاية لا تقدر بثمن للميليشيا في حال أنها تبنت روايته للأحداث والواقع اليمني، وربما كانت المغالطات التي تم ذكرها في تقرير الأمم المتحدة عن الأطفال في الصراعات المسلحة واحدة من أمثلة كثيرة.

تحولات عميقة
الأكيد أن الحوثيين كمكون مناطقي يمثل أقلية متصالحة مع الأكثرية في اليمن قد ولى إلى غير رجعة، فإرث الاعتدال الذي كان يكسو الخطاب التقليدي للزيدية في اليمن تحول إلى غير رجعة إلى خطاب آيديولوجي ثوري على طريقة الإسلام السياسي الشيعي بعد أن تغلب تنظيم أنصار الله بقيادة حسين الحوثي على الزيدية التقليدية خلال أعوام من الحشد والتأليب والتثوير للمذهب الزيدي الذي ساعد على تردي الأوضاع، وارتفاع منسوب الطائفية في اليمن إلى انتقال الأجيال الجديدة لموالاة تنظيم الشباب المؤمن الذي اكتمل عقد مؤسساته المستقلة، وقدرته على الاستقلال الذاتي ليس عسكريا، وإنما حتى على مستوى التمويل والتحالفات السياسية المستقلة.

دمج الميليشيا بالدولة
ولا يقف الأمر عند تهيئة الدول الغربية والخارجية لتقبل مزاعم الحوثيين أنصار الله، بل يتعدى ذلك باستغلال الوضع الحالي للانقضاض على مؤسسات الدولة وأهمها المؤسسات الأمنية التي حاول الحوثيون مؤخرًا كما تتحدث التقارير عن إصدار قرار في غاية الخطورة بدمج 10 آلاف من عناصر الميليشيا في وزارتي الدفاع والأمن، في عملية وصفها مراقبون عسكريون بأنها الأخطر على الدولة اليمنية، منذ انقلاب الميليشيات واجتياحها للعاصمة صنعاء.
وتؤكد التقارير أن «أنصار الله الحوثي» بدأ منذ أشهر بإعداد ملفات ووثائق رسمية، لأكثر من 10 آلاف من الكوادر الحوثية تمهيدًا لدمجهم بقوات الجيش والأمن بشكل شبه قانوني، وبصورة خارجة عن اللوائح والأنظمة المعمول بها في وزارتي الدفاع والداخلية، مؤكدة أن الميليشيات جندت الشهر الماضي 800 فرد من مسلحيهم الذين يطلقون عليهم «اللجان الشعبية» في معسكر اللواء 39 ميكا بمحافظة ذمار ومدرسة الحرس والشرطة بالمحافظة.
ويهدف الحوثيون من هذا التصرف إلى رفع مستوى عمليات التجنيد الخارجة عن القانون، وزيادة عدد أتباعها في الجيش والأمن إلى النصف قبل نهاية العام الحالي 2016، وعادة ما يتم ذلك عبر التزوير واستخراج بطاقات هوية مزورة باعتبار أنهم مواطنون من أبناء المحافظات الجنوبية ومن مواليد جنوب اليمن.
وكانت ما يسمى اللجنة الثورية أعلى سلطة للحوثيين أصدرت قرارًا بمنح رتب عسكرية لـ«146» عنصرًا من ميليشياتها برتب مختلفة في وزارة الداخلية وجهاز الشرطة والأمن، وتعد حاليا لدمج بقية ميليشياتها في وزارتي الدفاع والداخلية.

تبسيطات مذهبية
لا يمكن أن نذهب إلى التبسيط الطائفي باعتبار أن الحوثيين الآن هم أنفسهم حوثيو الأمس وامتدادا للمدرسة الزيدية التقليدية، ف«أنصار الله» هم انشقاق داخلي في الزيدية مثل ما حدث في السلفية والإمامية، حيث خرج الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، والآن نشهد ولادة الإسلام السياسي الزيدي بمواصفات خاصة يتضخم فيها العسكري والسياسي جدًا، ويتراجع الحضور المذهبي الذي لم يكن ليحدث قطيعة مع الإسلام السني في اليمن من قبل لأسباب كثيرة تتصل بالهويّات الدينية المبنية على رافعة قبلية أو مناطقية والتي عادة ما يتراجع فيها العامل الديني إلى عوامل أخرى، وتشكل هذه الطوائف ما يشبه الكتلة السياسية وتنتظر ولادة من يقوم بتثويرها كما فعل حسين الحوثي، ثم عبد الملك الآن، بنجاعة تتفوق وتستفيد من أخطاء حزب الله، وما يجري في اليمن هو صراع مكونات سياسية تريد خطف المشهد، وبواقع في أسوأ حالاته على كل المستويات بحيث يصبح تسلم اليمن دون رعاية خارجية أو شرعية مكتملة عبئا أكثر من كونه مغنمًا سياسيًا، وهذه القناعة يدركها السياسيون في اليمن أكثر من غيرهم كما تدركها كأرقام كل المنظمات الدولية والدول المانحة التي لن تعود إلى اللعبة القديمة وهذا ما يقلق النظام السابق تمامًا، حيث البحث عن «ثمن» لإعادة تعريف الحالة اليمنية بما يضمن الشرعية السياسية وتدفق المساعدات من الخارج، ولذلك يتحرك الحوثيون نحو الشمال في محاولة استغلال إرث الحرب الذي هم من أطلق شرارتها وساهم في بقائها للآن.

زمن الميليشيا
وإذا كانت الأزمة السورية تشغل العالم الآن في ظل التجاذبات الإقليمية والدولية التي انتقلت من غرف الدبلوماسية إلى معسكرات القتال على الأرض، فإنه من المؤسف أن هذا الاهتمام يلغي ظاهرة مقلقة، وهي تمدد الميليشيات واتخاذها شكل الدولة بما يعني ذلك من اختراق للسيادة والافتئات على رأي الحكومة الشرعية المنتخبة، وحتى مصير الشعوب التي لا تعكس الميليشيا أي تمثيل لها، سوى أنها تمددت بفعل العنف والسلاح والإرهاب. من يرى في «داعش» المشكلة، أو فيما تبقى من «القاعدة»، ولا يراها في ميليشيات «أنصار الله»، وحزب الله، و«جيش المهدي»، وباقي القائمة المنسدلة من الفصائل المسلحة ذات المرجعية الشيعية، فهو يمنح مبررًا لتمدد الإرهاب، ويضيق الخناق على صوت الاعتدال، في حين تكافح دول لكبح جماح نزعات التطرف، رغم كل الظروف السياسية العصيبة.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.