«بالإجلال والتقدير والاعتزاز تلقينا نبأ الرحيل المقدس بعطاء الشهادة تتويجًا لعطاء العمر المديد في الجهاد في سبيل الله تعالى بفارس من فرسان مسيرة العطاء، والصمود والتفاني في سبيل الله تعالى ونصرة المستضعفين ومواجهة المستكبرين، هذا الفارس العظيم من حملة الراية في موكب العز الحسيني المحمدي هو الشهيد المجاهد مصطفى بدر الدين، ذو الفقار، نسأل الله أن يتقبله في الصالحين وأن يجعل كتابه في عليين ويلحقه بالشهداء الأبرار في رحاب سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام».
هذه الكلمات نقلتها وكالة الأنباء اليمنية التابعة لأنصار الله الحوثيين كرسالة عزاء موجهة إلى الأمين العام لحزب الله اللبناني.
هيمنة منطق الميليشيا
فلا يزال منطق الميليشيا مهيمنًا على العقلية السياسية للحوثيين، وأكبر دليل على ذلك الفشل الذريع في المفاوضات والتعنت واختراق الهدنة، وجلب المزيد من الدمار والاختطاف والاغتيال بهدف تزجية أكبر قدر من الوقت، والقدوم للتفاوض بشروط متعنتة، وهو ما يوضح أن أنصار الله الحوثي في اليمن ما زالوا يحاربون بالوكالة عن نظام ملالي طهران بهدف تدمير اليمن أولاً، ثم محاولة تهديد أمن جيران اليمن وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية ولكن هذه الأهداف يتم الالتفاف عليها عبر شعارات سياسية متطرفة تستهدف الداخل اليمني، وشعارات سياسية ناعمة للمنظمات الحقوقية والدولية التي يحاول الحوثيون الآن الوصول لها بشتى الطرق عبر إيفاد شخصيات حوثية بارزة وتقديم الأزمة رغم المفاوضات على أنها مظلومية أقلية مضطهدة في اليمن وليس ميليشيا انقلابية جرّفت ما تبقى من إرث المخلوع علي عبد الله صالح الذي يسعى لتثبيت سلطته عبر التحالف مع أنصار الله الحوثيين وإن بدا تحالفًا هشًا مصلحيًا لن يدوم.
نهب مقدرات الدولة
اليمنيون قبل أي طرف آخر لن يقبلوا باستمرار مهزلة الاحتلال الحوثي لمقدرات الدولة، كما أنهم يدركون بجلاء أن التحالف الذي تقوده السعودية هو لتثبيت الشرعية السياسية وإعادة فرز الحالة السياسية في اليمن وفق قرارات مجلس الأمن، ولذلك لم تقم باقتحام العاصمة صنعاء بل قدمت التفاوض والحوار حفاظًا على مؤسسات الدولة اليمنية المختطفة من الميليشيا، إلا أن الإشكالية أن الحوثيين لا يتوقفون عن مسلسل الترويع والقتل والإرهاب تجاه المدنيين في المناطق التي يسيطرون عليها في صعدة وعمران وإب وغيرها، إضافة إلى اتساع رقعة النهب والسرقة للمال العام، وجباية الأموال من العامة بدعوى دعم الحرب، وتتحدث التقارير الصحافية عن سرقة ما يزيد على أربعة مليارات دولار في العام الأول من الانقلاب، وهو ما ساهم في تضخيم الأزمة الاقتصادية والمالية وتبعاتها الإنسانية في اليمن.
لعبة الأقنعة
إشكالية الحوثيين تبدأ في الإنكار واللعب بازدواجية الأقنعة المختلفة، فالقناع الثوري لأتباعها وإيران ووكلائها حيث «الموت لأميركا وإسرائيل» وهو الشعار الذي يتم نفيه وإنكاره والاعتذار عنه عند لقاء المنظمات الدولية والحقوقية وحتى الشخصيات الغربية، ليتم لبس قناع المظلومية والأقلية المضطهدة ومحاولة إظهار الملف اليمني على أنه أزمة سعودية يمنية وهي ليست كذلك، وهنا جزء من أزمة اللعب بالمفاهيم والحقائق والتي قد تنطلي على بعض المنظمات التي تغلب الجانب الإنساني، وهو أمر مهم لكن ينقصها التوصيف السياسي الدقيق.
أزمة يمنية ـ يمنية
والحال أن الأزمة مع الحوثيين هي يمنية - يمنية بدأت نقض أنصار الله شرعية حكومة الرئيس هادي والانقلاب عليها بالتحالف مع المخلوع، وهو الأمر الذي تعامل معه هادي بمسؤولية كبيرة، مطالبًا المجتمع الدولي ودول الخليج المجاورة والمتاخمة لحدود اليمن سرعة التدخل لإيقاف زحف الحوثيين وإيران على شرعية البلد ومقدراته، وبالطبع لصبغ الأزمة على أنها ليست يمنية قام الحوثيون باستفزاز جيران اليمن وفي مقدمتهم السعودية وأطلقت صواريخ على الحدود بغرض جرّ القوات السعودية إلى معركة أخرى.
تفاوض مسيّس
فإن الحوثيين لبس وا قناع الحوار والتفاوض لكن دون ترسانة سياسية، وهو ما يعيد التساؤل الجديد القديم عن جدوى إدماج الميلشيات والمنظمات المتطرفة القائمة على الطائفية أو نموذج الدولة داخل الدولة في العملية السياسية قبل التخلي عن آيديولوجيتهم الانفصالية، وهو سؤال جدير بالتأمل إذا ما رصدنا السلوك الحوثي في مفاوضات الكويت والمبني على المساومة والتسويف وقلب الحقائق وأهمها تجاهل المرجعيات الأساسية وأولها قرار مجلس الأمن 2216، باعتباره الأساس لجولة المفاوضات الحالية في الكويت، كما ترفض ميليشيا الحوثي الالتزام بالانسحاب من المدن والمحافظات وتسليم السلاح وإنهاء الانقلاب وكل النتائج التي تسبب بها.
نموذج حزب الله
الهدف النهائي لأنصار الله الحوثيين هو الوصول إلى حالة مشابهة لحزب الله اللبناني في لبنان، البقاء بهيكليته العسكرية وبناه التحتية في مناطقه التي يتصرف فيها على طريقة الحاكم بأمره، والتمثيل السياسي بأكبر حصة في الحكومة الشرعية، وهو ما يطرح ما هي ضمانات تخلي الميليشيا عن هويّتها وتحولها إلى حزب سياسي تعددي، وهو أمر في غاية التعقيد لا سيما إذا كانت هذه الأحزاب كما هو الحال مع أنصار الله مرتبطة بشكل جوهري مع نظام الملالي في طهران.
النقطة الحاسمة في تحول ميليشيا الحوثي إلى حزب سياسي هو تسليمه للمناطق التي قام باحتلالها، وإعادته لمقدرات الدولة التي سيطر عليها، إضافة إلى تسليمه إلى ترسانة السلاح التي تضاعفت لديه بفضل الاحتلال والتمويل القادم من الداخل والخارج في بلد يقبع تحت 60 مليون قطعة سلاح.
تحركات خارجية
وبإزاء الحرب التدميرية التي يقوم بها أنصار الله الحوثي في داخل اليمن، فإن الفترة الماضية شهدت تنقلات وزيارات حوثية سريعة ومعلنة لأغلب المنظمات الدولية والإنسانية وعدد كبير من الشخصيات المؤثرة التي يمكن أن تقوم بدعاية لا تقدر بثمن للميليشيا في حال أنها تبنت روايته للأحداث والواقع اليمني، وربما كانت المغالطات التي تم ذكرها في تقرير الأمم المتحدة عن الأطفال في الصراعات المسلحة واحدة من أمثلة كثيرة.
تحولات عميقة
الأكيد أن الحوثيين كمكون مناطقي يمثل أقلية متصالحة مع الأكثرية في اليمن قد ولى إلى غير رجعة، فإرث الاعتدال الذي كان يكسو الخطاب التقليدي للزيدية في اليمن تحول إلى غير رجعة إلى خطاب آيديولوجي ثوري على طريقة الإسلام السياسي الشيعي بعد أن تغلب تنظيم أنصار الله بقيادة حسين الحوثي على الزيدية التقليدية خلال أعوام من الحشد والتأليب والتثوير للمذهب الزيدي الذي ساعد على تردي الأوضاع، وارتفاع منسوب الطائفية في اليمن إلى انتقال الأجيال الجديدة لموالاة تنظيم الشباب المؤمن الذي اكتمل عقد مؤسساته المستقلة، وقدرته على الاستقلال الذاتي ليس عسكريا، وإنما حتى على مستوى التمويل والتحالفات السياسية المستقلة.
دمج الميليشيا بالدولة
ولا يقف الأمر عند تهيئة الدول الغربية والخارجية لتقبل مزاعم الحوثيين أنصار الله، بل يتعدى ذلك باستغلال الوضع الحالي للانقضاض على مؤسسات الدولة وأهمها المؤسسات الأمنية التي حاول الحوثيون مؤخرًا كما تتحدث التقارير عن إصدار قرار في غاية الخطورة بدمج 10 آلاف من عناصر الميليشيا في وزارتي الدفاع والأمن، في عملية وصفها مراقبون عسكريون بأنها الأخطر على الدولة اليمنية، منذ انقلاب الميليشيات واجتياحها للعاصمة صنعاء.
وتؤكد التقارير أن «أنصار الله الحوثي» بدأ منذ أشهر بإعداد ملفات ووثائق رسمية، لأكثر من 10 آلاف من الكوادر الحوثية تمهيدًا لدمجهم بقوات الجيش والأمن بشكل شبه قانوني، وبصورة خارجة عن اللوائح والأنظمة المعمول بها في وزارتي الدفاع والداخلية، مؤكدة أن الميليشيات جندت الشهر الماضي 800 فرد من مسلحيهم الذين يطلقون عليهم «اللجان الشعبية» في معسكر اللواء 39 ميكا بمحافظة ذمار ومدرسة الحرس والشرطة بالمحافظة.
ويهدف الحوثيون من هذا التصرف إلى رفع مستوى عمليات التجنيد الخارجة عن القانون، وزيادة عدد أتباعها في الجيش والأمن إلى النصف قبل نهاية العام الحالي 2016، وعادة ما يتم ذلك عبر التزوير واستخراج بطاقات هوية مزورة باعتبار أنهم مواطنون من أبناء المحافظات الجنوبية ومن مواليد جنوب اليمن.
وكانت ما يسمى اللجنة الثورية أعلى سلطة للحوثيين أصدرت قرارًا بمنح رتب عسكرية لـ«146» عنصرًا من ميليشياتها برتب مختلفة في وزارة الداخلية وجهاز الشرطة والأمن، وتعد حاليا لدمج بقية ميليشياتها في وزارتي الدفاع والداخلية.
تبسيطات مذهبية
لا يمكن أن نذهب إلى التبسيط الطائفي باعتبار أن الحوثيين الآن هم أنفسهم حوثيو الأمس وامتدادا للمدرسة الزيدية التقليدية، ف«أنصار الله» هم انشقاق داخلي في الزيدية مثل ما حدث في السلفية والإمامية، حيث خرج الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، والآن نشهد ولادة الإسلام السياسي الزيدي بمواصفات خاصة يتضخم فيها العسكري والسياسي جدًا، ويتراجع الحضور المذهبي الذي لم يكن ليحدث قطيعة مع الإسلام السني في اليمن من قبل لأسباب كثيرة تتصل بالهويّات الدينية المبنية على رافعة قبلية أو مناطقية والتي عادة ما يتراجع فيها العامل الديني إلى عوامل أخرى، وتشكل هذه الطوائف ما يشبه الكتلة السياسية وتنتظر ولادة من يقوم بتثويرها كما فعل حسين الحوثي، ثم عبد الملك الآن، بنجاعة تتفوق وتستفيد من أخطاء حزب الله، وما يجري في اليمن هو صراع مكونات سياسية تريد خطف المشهد، وبواقع في أسوأ حالاته على كل المستويات بحيث يصبح تسلم اليمن دون رعاية خارجية أو شرعية مكتملة عبئا أكثر من كونه مغنمًا سياسيًا، وهذه القناعة يدركها السياسيون في اليمن أكثر من غيرهم كما تدركها كأرقام كل المنظمات الدولية والدول المانحة التي لن تعود إلى اللعبة القديمة وهذا ما يقلق النظام السابق تمامًا، حيث البحث عن «ثمن» لإعادة تعريف الحالة اليمنية بما يضمن الشرعية السياسية وتدفق المساعدات من الخارج، ولذلك يتحرك الحوثيون نحو الشمال في محاولة استغلال إرث الحرب الذي هم من أطلق شرارتها وساهم في بقائها للآن.
زمن الميليشيا
وإذا كانت الأزمة السورية تشغل العالم الآن في ظل التجاذبات الإقليمية والدولية التي انتقلت من غرف الدبلوماسية إلى معسكرات القتال على الأرض، فإنه من المؤسف أن هذا الاهتمام يلغي ظاهرة مقلقة، وهي تمدد الميليشيات واتخاذها شكل الدولة بما يعني ذلك من اختراق للسيادة والافتئات على رأي الحكومة الشرعية المنتخبة، وحتى مصير الشعوب التي لا تعكس الميليشيا أي تمثيل لها، سوى أنها تمددت بفعل العنف والسلاح والإرهاب. من يرى في «داعش» المشكلة، أو فيما تبقى من «القاعدة»، ولا يراها في ميليشيات «أنصار الله»، وحزب الله، و«جيش المهدي»، وباقي القائمة المنسدلة من الفصائل المسلحة ذات المرجعية الشيعية، فهو يمنح مبررًا لتمدد الإرهاب، ويضيق الخناق على صوت الاعتدال، في حين تكافح دول لكبح جماح نزعات التطرف، رغم كل الظروف السياسية العصيبة.