السجناء المغاربيون.. إشكالية جديدة في ألمانيا

معظمهم من الشباب المهاجر الذي يعيش بلا أمل ولا هدف

السجناء المغاربيون.. إشكالية جديدة في ألمانيا
TT

السجناء المغاربيون.. إشكالية جديدة في ألمانيا

السجناء المغاربيون.. إشكالية جديدة في ألمانيا

قبل أن تصحو أوروبا من صدمة جريمة نيس الأليمة بجنوب فرنسا، التي اتهم بارتكابها المهاجر التونسي محمد الحويج بو هلال، شن طالب هجرة أفغاني فتي سلسلة اعتداءات بالسلاح الأبيض في قطار قرب مدينة فورتسبورغ الجامعية بجنوب ألمانيا، وسرعان ما أعلن تنظيم داعش المتطرف تبني العملية التي انتهت بقتل الجاني. ويُذكر أن «داعش» وجماعات متطرفة أخرى كانت قد ادعت مسؤوليتها عن عدد من الاعتداءات الدامية، أبرزها في بلجيكا وفرنسا، وعلى أثرها سلط الضوء بالذات على جاليات المهاجرين واللاجئين الآتين من دول شمال أفريقيا وتحديدًا المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا. وخلال الأسبوع الماضي، نشر تقارير صحافي في ألمانيا أفاد بارتفاع كبير في عدد المحتجزين المتحدرين من أصول شمال أفريقيا في السجون الألمانية.

يعتقد معظم الألمان أن مفردة «نافريز» ستفوز بلقب أسوأ مفردة استخدمت في الإعلام سنة 2016. ويرى ألمان آخرون أن كلمة «نافريز» عارٌ بالنسبة إليهم، وأنها أسوأ من مفردة «نيغر» سيئة الصيت المستخدمة في شتم ذوي البشرة السمراء.
كلمة «نافريز» هي مختصر «شمالي أفريقي» بالألمانية (نورد افريكانر)، ويعود الفضل في استخدامها إلى شرطة ولاية الراين الشمالي - وستفاليا، التي أطلقتها على المشتبه بهم بارتكاب أكثر من 650 جناية سرقة واعتداء جنسي على النساء المحتفلات بليلة رأس السنة الماضية بالقرب من كاتدرائية كولون (الدوم) الشهيرة. وللعلم، فإن العرب المقيمين في ألمانيا يصمون ما ارتكبه الشباب اللاجئون العرب قرب «الدوم» – خلال نصف ساعة – في تلك الليلة بـ«العار».
الواقع أنه منذ مطلع العام الجاري 2016 والإعلام والشرطة في ألمانيا يسلّطون الضوء على المخالفات والانتهاكات المسلكية التي يرتكبها طالبو اللجوء السياسي من بلدان شمال أفريقيا، وخصوصًا من الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا. كما يستعرضون بالأرقام والحقائق، والتحقيقات والمقابلات الصحافية، كل ممارسات هؤلاء الشباب في السجون ومعسكرات اللجوء وفي الشوارع.. إلخ.
وتشير شرطة مدينة فرانكفورت إلى أن مرتكبي الجنايات المختلفة من طالبي اللجوء من شمال أفريقيا شكّلت معظم الجنايات المرتكبة من قبل طالبي اللجوء. ومن بين 30000 لاجئ متهم بارتكاب جنايات شكل المغاربة ثالث أكبر مجموعة بعدد 3100 متهم، وشكّل المتهمون من شمال أفريقيا 40 في المائة من مجموع المتهمين، علما بأن نسبة طالبي اللجوء من المغاربة لا تشكل أكثر من 1 في المائة من مجموع طالبي اللجوء. ولم تحتسب هنا الخروقات التي يرتكبها طالبو اللجوء بالضد من قوانين اللجوء.
ومن جهة ثانية، ذكرت شرطة كولون أن 40 في المائة من طالبي اللجوء المغاربة، وعددهم الإجمالي 521 شخصًا، وقعوا في قبضة العدالة بتهم اللصوصية والاحتيال والاتجار بالمخدرات والاعتداء الجسدي في العام 2015. ونفس هذه النسبة شملت التونسيين (57 شخصًا) والجزائريين (260).
النائب ينز كانيت، المتحدث باسم حكومة ولاية الراين الشمالي - وستفاليا، وهو من الحزب الديمقراطي المسيحي، نقل عن تقرير للاستخبارات المركزية الأميركية يتحدث عن نسبة عالية من عرب شمال أفريقيا التحقوا بتنظيم داعش في سوريا والعراق. وقال: إن الإحصائية تشير إلى ما بين 6 و7 آلاف تونسي، في حين أن الحكومة التونسية تعترف بـ3000 فقط.

نسبة عالية في السجون

من ناحية أخرى، كشف استطلاع أجرته صحيفة «نويه أوسنابروكر تسايتونغ»، أخيرًا، بين وزارات العدل في الولايات الألمانية، أن عدد نزلاء السجون من الشمال قد تضاعف خلال خمس سنوات. إذ قفز عدد السجناء، أو الموقوفين رهن التحقيق، من أبناء الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا من 880 شخصًا في العام 2011 إلى 1922 هذا العام. وتعتقد الجريدة، رغم أنها لم تحدد مصادرها، أن هذا العدد يرتفع إلى 2000. وربما بسبب التباس هويات الكثير من نزلاء السجون بسبب استخدام طالبي اللجوء للهويات المزيّفة، أو لأنهم لم يحملوا معهم عند وصولهم إلى ألمانيا أي أوراق ثبوتية شخصية.
وقبل ذلك بأيام كشف توماس كوتشاي، وزير العدل في ولاية الراين الشمالي - وستفاليا، التي تضم مدينة كولون، أن عدد نزلاء 36 سجنًا في الولاية – الأكبر من حيث عدد السكان – من شمال أفريقيا، ارتفع من 322 إلى 762 خلال السنوات الخمس الماضية. ولم يستبعد أن يكون الرقم أكبر لأن 16500 سجين في سجون الولاية، من مجموع 55 ألفًا، لا يحملون أوراقًا ثبوتية.
في ولاية سكسونيا السفلى، قال اوفه زيلكه، من وزارة داخلية الولاية، بأن عدد الأفريقيين الشماليين في 16 سجنًا من سجون الولاية قفز من 47 في العام 2011 إلى 97 في العام 2015، ومن ثم إلى 112 حتى يونيو (حزيران) من هذا العام. هذا في حين أن عدد السجناء العام في هذه السجون انخفض من 5809 إلى 4953.
وهذه ليست كل مشاكل السجون في الولايتين، بحسب تصريح كوتشاي وزيلكه. وإذ تحدث كوتشاي عن مشكل كبيرة في التعامل مع السجناء العرب من شمال أفريقيا، بينها 23 مشكلة قد تزيد محكومياتهم، قال زيلكه بأن هؤلاء السجناء لا يحترمون موظفي السجن، وخصوصًا النساء، يشتمون، ويبصقون على الأرض بين القدمين، بل ويتعاملون بعنف مع موظفي السجن.
وذكر كوتشاي أن السجناء من المغرب العربي يرفضون القواعد السائدة في السجن ويهينون الموظفين، ولا يعرفون أي لغة غير العربية. هناك صعوبة في التعامل معهم في السجن، وصعوبة في حمايتهم من سطوة الإسلاميين المتشددين في السجون، وصعوبة في إعادة تأهيلهم بعد السجن، لأن معظمهم بلا عوائل في ألمانيا.
ولهذه الأسباب خصصت وزارة الداخلية في نوردراين فيستفاليا مبلغ 7.2 مليون يورو لبرامج دمج المغاربيين في المجتمع. وتم على هذا الأساس تأسيس مركز للتنوير في السجون باسم «القانون والإسلام»، كما تمت الاستعانة بأكثر من 100 إمام من أئمة المساجد لرعايتهم وحمايتهم من الدعاية الإرهابية. وتم رفع عدد المترجمين العرب من 2 إلى 14 مترجمًا، وزيد عدد الموظفين والحراس العرب أيضًا، فضلاً عن ذلك، تم تعيين 26 معلمًا في السجون لتعليم المغاربيين اللغة الألمانية.
والأهم، في إجراءات إدارة سجون الولاية، هو أنها قررت استخدام أجهزة مسح البصمات للتأكد من شخصيات النزلاء بعد أن كثرت في الآونة الأخيرة عمليات تزوير الوثائق. ويمارس هذا التزوير في الأغلب من قبل نزلاء السجون من الشمال الأفريقي.
إلى ذلك رصدت دائرة حماية الدستور الاتحادية (مديرية الأمن العامة) دعوات يطلقها تنظيم داعش على الإنترنت تدعو أعضاءها وأنصارها المعتقلين إلى تحويل السجون إلى مدارس لكسب الشباب العرب للتنظيم. هذا في الأقل ما حصل مع الألماني - الغاني الأصل هاري س. الذي انضم إلى «داعش» في سوريا وأصبح حامل راية أحد الفصائل المتقدمة.
عاد هاري س. إلى بريمن بعد أن رفض طلب «داعش» في الرقة تنفيذ العمليات الإرهابية في ألمانيا. وتكشف مسيرته أن تحوله من لاعب كرة قدم واعد إلى إرهابي، بدأت في العاصمة البريطانية لندن. إذ انتقل مع أمه وأختيه من بريمن الألمانية إلى العاصمة البريطانية لفترة قصيرة وهو شاب، وبدأت صلاته هناك مع الإسلاميين المتشددين. وكان هاري س. ينوي دراسة الهندسة المعمارية في إحدى الجامعات البريطانية، لكنه لم يكمل دراسته. وحكم على الغاني الأصل مرتين في ألمانيا بتهمة السطو والاختطاف، وذكر أمام المحكمة أنه تحول من مسلم معتدل إلى إسلامي متشدد في السجون الألمانية. والتقى في السجن الإسلامي المتشدد، المصنف كمتشدد خطر من قبل رجال الأمن، المدعو رينيه مارك. ويقود مارك منظمة «الثقافة - العائلة» ويطلق أفراد جماعته عليه اسم «أمير غوبلنغن» (نسبة إلى مدينة غوبلنغن التي ينشط فيها). وفي السجن، وتحت تأثير مارك، تحول هاري س. إلى الإسلام المتطرف. وتتهم النيابة العامة هذه الجمعية «الثقافية» بإرسال 13 مقاتلاً إرهابيا إلى الحرب في سوريا والعراق.

نسبة عالية بين القاصرين

أصبح انتشار آيديولوجيا الإرهاب بين القاصرين مشكلة شائكة بالنسبة لوزارة الداخلية، وخصوصًا بعد أن طعنت مغربية قاصرة شرطيًا في هانوفر (وكانت عائدة من الحدود التركية السورية)، ومساهمة قاصرين اثنين (من أصول مغربية أيضًا) في تفجير معبد السيخ في مدينة ايسن، ومن ثم حادثة الاعتداء بالفأس من قبل أفغاني على راكبي القطار قرب فورتسبورغ في ولاية بافاريا.
وكانت دائرة حماية الدستور في ولاية الراين الشمالي - وستفاليا قدّرت عدد الإسلاميين المتشددين تحت سن 18 سنة بنحو 2700، وذكرت أن 600 منهم تم تصنيفهم كقاصرين مستعدون لممارسة العنف، مع نسبة ترتفع إلى الثلث من المستعدين لارتكاب جنايات خطيرة.
جاء في تقرير لدائرة الإحصاء المركزية الألمانية أن عام 2013 شهد قدوم 6600 قاصر (دون 18 سنة) إلى ألمانيا دون رفقة أحد الوالدين، أو معية أحد الأقارب. وذكر التقرير أن نسبة القاصرين العرب بين هؤلاء الأطفال تضاعفت لأول مرة في ألمانيا منذ عام 2011. وكانت سوريا وليبيا والعراق، وغيرها من البلدان العربية المبتلاة بالحروب والاضطرابات، أكبر مصادر هجرة القاصرين إلى ألمانيا. يضاف إليهم القاصرون من الصومال وإريتريا ومصر وأفغانستان.
ولاحظ التقرير أن عدد القاصرين الوافدين إلى ألمانيا من دون ذويهم تضاعف ثماني مرات عام 2013 عنه في العام 2008. وكان عدد القاصرين الذكور بين هؤلاء الأطفال يبلغ نحو 5900 (89 في المائة)، فيما كان عدد الإناث 700 (11 في المائة). شكل القاصرون من سن تزيد عن 17 سنة 69 في المائة، وكانت نسبة الأطفال دون 16 سنة تبلغ 31 في المائة. وتبلغ حصة العرب من هؤلاء الأطفال ربع المجموع، وأغلبهم من بلدان شمال أفريقيا وسوريا والعراق.
وذكر تيمو شيونبيرغ، من دائرة الهجرة في ولاية هيسن، أن ما يسمى «الربيع العربي» هو مصدر الموجة الجديدة من المهاجرين القاصرين القادمة من البلدان العربية، وخصوصًا من ليبيا وسوريا والصومال. وهم أطفال يرسلهم ذووهم بمفردهم لإنقاذ حياتهم، وبسبب عدم القدرة على تمويل سفر كامل العائلة، أو أنهم أيتام فقدوا ذويهم في الحروب وهاموا على وجوههم في بلدان البحر الأبيض المتوسط.
ومشكلة القاصرين «المختفين» مشكلة أخرى تواجه السلطات الألمانية، رغم علمها بأن بعضهم غادر ألمانيا إلى بلدان اللجوء الأخرى، أو اختفى من دور اللجوء ليختفي في بيوت مواطنين من بلده. وتحدثت وزارة الداخلية الألمانية عن 10 آلاف قاصر اختفى من معسكرات اللاجئين في بلدان الاتحاد الأوروبي، منهم نحو 5000 في ألمانيا. وتستقبل دور الشباب في ألمانيا حاليًا 52 ألف لاجئ دون عمر الـ18 سنة.
وتنتهي جهود رعاية القاصرين المهاجرين بنسبة 79 في المائة بإيوائهم في دور رعاية القاصرين، وتنجح الدوائر في توفير عوائل لحضانة اليافعين جدًا منهم في 18 في المائة من الحالات، وتنال نسبة الـ3 في المائة المتبقية رعاية خاصة مختلفة.
جدير بالذكر أن القاصرين الأفارقة (ضمنهم العرب) يشكلون ربع القاصرين الذين يصلون سويسرا. ورغم أن سويسرا تستقبل أعدادًا أقل بكثير من ألمانيا، ولا إحصائية لها حول أعدادهم وأعمارهم، فإن مدينة بريغ السويسرية استقبلت وحدها 51 قاصرا، بحسب تصريح مارغريت هسلمان، من دائرة الشباب في المدينة. وكان بينهم 15 صوماليًا و17 سوريًا و4 تونسيين.

مجرمون وضحايا في آن واحد

تخشى السلطات الألمانية أن يقع القاصرون ضحية للإسلاميين المتشددين الذين يقدمون لهم المساعدات والعمل، أو ضحية لعصابات الجريمة المنظمة التي تعمل في تجارة البشر والمخدرات والسلاح. ولكن ما سبب كثرة الميول الإجرامية والتطرف الديني بين شباب بلدان الشمال الأفريقي؟ تحدثت ايزابيلا فيرنفيلز، من معهد العلوم والسياسة في المغرب، عن 30 ألف قاصر مشرّد في المغرب، و20 ألفًا في الجزائر. ومعظمهم أبناء غير شرعيين يتعايشون في الشارع مع المجرمين ويتعلمون منهم أساليب السرقة والاحتيال، ومن المحتمل أن نسبة من هؤلاء القاصرين وصلوا إلى أوروبا أيضًا بمساعدة هذه العصابات. ويتحول هؤلاء القاصرون بدورهم إلى ضحايا في أوروبا يرسلون 100 - 200 يورو في الشهر إلى إخوتهم وأقاربهم في الوطن.
العالمة النفسانية الأميركية آن سبيكارد قالت لصحيفة «دي فيلت» الألمانية المعروفة (17-7 الماضي)، بأنها قابلت الكثير من الشباب في حي مولينبيك بالعاصمة البلجيكية في بروكسل، وأجمع كلهم على أنهم بلا أهداف ولا مستقبل. وقالوا: إن «داعش» يمنحهم الأمل والهوية واللحمة والجنس.
يقول رالف ييجر، وزير داخلية الراين الشمالي - وستفاليا، بأن أهالي الأطفال يعرفون ماذا يفعلون، وخصوصًا من الشمال الأفريقي، لأنهم يعرفون أن ألمانيا صنّفت بلدانهم كبلدان آمنة، ولا تمنح حق اللجوء لهم، لكنهم يعرفون أيضًا أن ألمانيا لن تبعد قاصرا.
ويربط خبير الإرهاب الألماني غيدو شتاينبيرغ، من معهد العلوم والسياسة الألماني، بين أعداد العرب، من شمال أفريقيا، في ألمانيا وفرنسا، وظاهرة تعرض فرنسا إلى العمليات الإرهابية أكثر من ألمانيا. ويقول شتاينبيرغ بأن أحد الأسباب يكمن في عدد الملتحقين بتنظيم داعش، لأن عددهم من فرنسا (1700) يزيد عن ضعف عددهم من ألمانيا (700).
وينظر شتاينبيرغ بقلق إلى مشكلة اندماج الأجانب، وخصوصًا من بلدان الشمال الأفريقي، الذين يعيشون شبه مهمشين في ضواحي باريس، وذكر أن ألمانيا تعاني أقل من مشكلة الاندماج، كما أن عدد الأجانب من الجزائر والمغرب وتونس أقل. وللعلم، فإن عدد المقيمين في ألمانيا من بلدان الشمال الأفريقي، وفق إقامات دائمة أو تجنس، كما يلي: المغرب 72 ألفًا، تونس 31 ألفًا، الجزائر 21 ألفًا، وليبيا 13 ألفًا. وهذه الأرقام مأخوذة من دائرة الإحصاء المركزية وحتى نهاية العام 2015.

ليلة «عار» رأس السنة في كولون

أما فيما يتعلّق بليلة «العار»، التي سبقت الإشارة إليها، فعادة يتجمع مئات الآلاف سنويًا على ضفة الراين، بالقرب من كاتدرائية كولون المعروفة بـ«الدوم»، للاحتفال بقدوم العام الجديد بالألعاب النارية. وهذا العام شارك المئات من اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين العرب في عمليات السلب والاعتداء الجسدي والتحرّش الجنسي ضد النساء. لقد كانت ليلة قاتمة بالنسبة لسكان ألمانيا من العرب بعدما ارتفعت قضايا التحرش الجنسي ضد النساء إلى أكثر من 600 خلال بضعة أيام.
حوادث مماثلة حدثت في مدينتي هامبورغ وإيسن وغيرهما، وإن بشدة أقل، لكن الشرطة الاتحادية تحدثت لاحقًا عن أكثر من 900 شاب شاركوا في هذه العمليات المسيئة في هذه المدن، وكانت حصة كولون منها أكثر من 600. ومن ثم، تحول تساهل الشرطة في التصدي للاعتداءات الجنسية إلى قضية سياسية، وطالبت المعارضة المسيحية باستقالة وزير داخلية الولاية الاشتراكي، لا سيما أن الاعتقالات التي أعقبت ليلة رأس السنة بقيت بحدود اعتقال 183 في كولون فقط. وكانت تركيبة المعتقلين، المتهمين بالاعتداءات، كالآتي «55 مغربيًا و53 جزائريًا و22 عراقيًا و14 سوريًا و14 ألمانيًا (عرب يحملون الجنسية الألمانية)، بالإضافة إلى آخرين من جنسيات أخرى بينهم 73 طالب لجوء، 36 منهم يعيشون في ألمانيا بشكل غير شرعي، و11 فقط لديهم إقامة في ألمانيا. وكان الآخرون قد قدموا من بلدان قريبة مثل هولندا وبلجيكا».
ويحلل تقرير شرطة كولون شخصيات المتهمين كالآتي: كلهم تقريبًا من الشباب الذين وفدوا إلى ألمانيا في صيف 2015، ويعرف معظمهم بعدم وجود حظوظ لهم في البقاء في ألمانيا وأن التسفير سيكون مصيرهم. لقد خاض كلهم مصاعب جمة وخطيرة في الوصول إلى ألمانيا في قوارب اللاجئين وعبر الحدود الأوروبية. وكلهم تقريبًا من أصحاب السوابق في بلدانهم، ومثلوا أمام القضاة في ألمانيا أيضًا رغم فترة إقامتهم القصيرة. ثم إن معظمهم وفدوا إلى ألمانيا من دون عوائل، وجلّهم من الباحثين عن مستقبل اقتصادي أفضل، ولا تنطبق قوانين اللجوء إلا على بعض السوريين والعراقيين منهم. واعترف معظم المتهمين بأنهم يعانون من مشاكل إدمان كحول ومخدرات، وأنهم يكدحون في ألمانيا كي يرسلوا شيئا من النقود إلى ذويهم في الوطن.

... لا تهاون

هذا، وقبل بضعة أشهر شنّت شرطة ولاية الراين الشمالي - وستفاليا حملة على بيوت المغاربة والجزائريين وكشفت عن العشرات من القاصرين الذين يعيشون لا شرعيًا في البيوت. وأشار متحدث باسم شرطة الولاية إلى اعتقال 9 أفراد بتهم التجاوز على القانون وتهم أخرى. ووضع 471 لاجئًا من المغرب والجزائر في حافلات تحركت بهم في الحال باتجاه أقرب مركز حدودي لاستقبال اللاجئين، وبنية إعادتهم إلى البلدان التي وفدوا منها إلى ألمانيا، أو إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية. ونشير هنا أنه سبق لوزير الداخلية الاتحادي توماس دي ميزيير أن زار المغرب والجزائر واتفق مع السلطات هناك على أن يستقبلوا طالبي اللجوء من مواطنيهم، الذين رفضت طلبات لجوئهم.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.