تحديات ما بعد الحوار الوطني في اليمن

محاولات إنعاش الاقتصاد تصطدم بالفوضى الأمنية.. وغياب التخطيط يزيد معدلات الفساد

عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
TT

تحديات ما بعد الحوار الوطني في اليمن

عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)

بعد أكثر من شهرين من اختتام أعمال مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، الذي وضع سلسلة من القرارات والتوصيات لحل الأزمة الناشبة في البلاد، تبدو محاولة إعادة إنعاش الاقتصاد المتعثر قاتمة، وسط حالة من الفوضى الأمنية والعنف المنتشر، ما يشكل تحديا صعبا أمام القيادة السياسية في صنعاء.
فمدينة عدن القديمة، التي تقع في الجنوب، تقعد على فوهة بركان خامد في الناحية الجنوبية الشرقية من شبه جزيرة عدن. وتحتوي على واحد من أكبر المرافئ الطبيعية في العالم والذي يتمتع بمياه عميقة، على درجة كبيرة من الصفاء. لم تخف موارد وإمكانيات مدينة عدن، التي تقع عند نقطة التقاء البحر الأحمر مع منطقة خليج عدن ومنطقة شرق أفريقيا مع جنوب آسيا، على الإمبراطورية البريطانية، فقد كانت مرتبطة بكابل التلغراف الذي يربط لندن بمدينة بومباي الهندية. بعد الحرب العالمية الأولى، أصبح تموين السفن بالوقود من أهم عناصر الأنشطة الاقتصادية في مينائها.

بحلول خمسينات القرن الماضي، كانت عدن قد بدأت في استيراد وتكرير النفط الخام، ما جعلها ثاني أكثر الموانئ نشاطا في العالم بعد ليفربول. ومع رحيل بريطانيا عن جنوب اليمن في عام 1967 بعد سلسلة من الانتفاضات، تعاقب على حكم البلاد مجموعة من الحكومات الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفياتي. ولم تستطع التجربة الشيوعية أو العقود التي تلت تحقيق الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تحت حكم الرئيس علي عبد الله صالح تحقيق أي نوع من الإفادة لاقتصاد الجزء الجنوبي من البلاد، بل على العكس، فقد استمر تدهور الأوضاع الاقتصادية هناك، حتى وصل الأمر إلى توقف النشاط تقريبا في ميناء عدن في الوقت الحالي.
يبقى مسار تحول عدن من أهم محاور التجارة العالمية إلى رمز قومي لسوء الإدارة الحكومية مثالا على التدهور التراجيدي لاقتصاد اليمن، ناهيك عن العواقب الكارثية التي جلبها ذلك التدهور على عدد السكان المتنامي يوما بعد يوم والذي يُقدر حاليا بـ25 مليون نسمة. مند أسبوعين دعت الأمم المتحدة المجتمع الدولي إلى تقديم دعم لـ14.7 مليون شخص بحاجة ماسة للمساعدة الإنسانية.
وكان مؤتمر الحوار الوطني قد اختتم أعماله في أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث كان الهدف الرئيس من ورائه يتمثل في اقتراح خريطة طريق سياسية ودستور جديد بعد احتجاجات 2011. التي أطاحت بالرئيس علي عبد الله صالح. ومنذ نهاية المؤتمر، تصاعدت المطالب الشعبية، التي تطالب قادة اليمن بإعادة تركيز جهودهم على التعاطي مع المشاكل الاقتصادية الملحة في البلاد.
وخلال أعمال المؤتمر، تعرضت الحكومة اليمنية لانتقادات شديدة بسبب تركيز اهتمامها على المناقشات التي جرت خلال المؤتمر، في حين تجاهلت القضايا التي تمس الحياة اليومية للمواطنين العاديين. ورغم النظرة المستقبلية القاتمة للاقتصاد اليمني في ظل حالة انعدام الأمن وعدم الاستقرار السياسي السائدة في البلاد، تبقى شخصيات بارزة في مؤتمر الحوار الوطني متفائلة إلى حد ما بشأن مستقبل اليمن. يقول أحمد أبو بكر بازرعة، رئيس مجموعة عمل التنمية الشاملة في المؤتمر الوطني، لـ«الشرق الأوسط»، بأن التوصيات الواردة في التقرير النهائي، الذي أعدته المجموعة: «سيكون لها أثر إيجابي» على الجهود المبذولة للتصدي لمشكلات اليمن الاقتصادية، رغم «أن ظهور ذلك الأثر سيستغرق بعض الوقت».
وتتضمن تلك التوصيات، التي سيرد جزء منها في الدستور اليمني الجديد، التأكيد على حرية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى تعددية الملكية في مختلف قطاعات الاقتصاد، أي تجنب الممارسات الاحتكارية وعمل شراكات بين القطاعين العام والخاص. ويشير الدكتور أحمد الأصبحي، نائب رئيس مجموعة عمل الحكم الرشيد التابعة لمؤتمر الحوار الوطني، إلى أنه من المتوقع أن تساهم القرارات والتوصيات، الصادرة عن المجموعة، في خلق بيئة اقتصادية أكثر ملائمة، مضيفا أن «تلك القرارات والتوصيات، البالغ عددها 305، تركز على مبادئ المحاسبة والشفافية وسرعة الاستجابة والعدل والكفاءة والفعالية وسيادة القانون ومكافحة الفساد».
وبسؤاله عما إذا كان من الممكن تنفيذ التوصيات بزيادة الشفافية في قطاع الأعمال ومؤسسات الدولة بشكل صحيح، أبدى الأصبحي أمله في أن يحدث ذلك بالفعل شريطة أن تتوفر آلية مراقبة شعبية ومؤسسية «لتكون بمثابة شكل من أشكال الضغط».
غير أن الحفاظ على الاقتصاد اليمني قادرا على الوقوف على قدميه يبقى مهمة ضخمة وثقيلة. وكان الرئيس المؤقت عبد ربه منصور هادي قد لخص الاختبار الصعب الذي يواجه الحكومة اليمنية حينما قال: «75 في المائة من مشاكل اليمن تتعلق بالوضع الاقتصادي».

أرقام مثيرة للقلق

تعرض بيانات الاقتصاد المتاحة سيناريو مخيفا. تقول تقديرات البنك الدولي بأنه في عام 2012 بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في اليمن 54.5 في المائة مقارنة بـ42 في المائة قبل ثلاث سنوات، وهو رقم أعلى قليلا من المعدل السائد في الدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. ويعاني واحد من بين كل طفلين من سوء التغذية. ورغم التقدم الذي حققته البلاد في بعض المجالات، مثل الانخفاض المستمر في معدل وفيات الأطفال الرضع، من غير المرجح أن تتمكن اليمن من تحقيق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية للألفية.
تشير تقديرات متحفظة إلى أن معدل البطالة في اليمن وصل إلى 35 في المائة. ويصل معدل البطالة بين الشباب إلى أكثر من 55 في المائة. كما ساهم توجه المملكة العربية السعودية العام الماضي نحو تشديد قوانين العمل في تفاقم مشكلة البطالة في اليمن، حيث عاد نحو 300 إلى 400 ألف يمني، غالبيتهم يعملون بشكل غير قانوني في المملكة، إلى بلادهم.
وتبدو هذه الصورة أكثر إثارة للقلق عند تحليلها في سياق التركيبة السكانية في اليمن. وخلال مؤتمر عن اليمن جرى عقده مؤخرا في لندن، حذر بروفسور آلن جي. هيل، أستاذ السكان والصحة الدولية في جامعة ساوثهامبتون، من خطر النمو السكاني في اليمن. ويتوقع بروفسور هيل، وهو خبير ديموغرافي بارز سابق في جامعة هارفارد، أن عدد سكان اليمن سوف يتضاعف في أقل من 20 سنة في حال استمر معدل النمو الحالي.
وسيشكل هذا الارتفاع الكبير في عدد السكان ضغطا كبيرا على الخدمات الاقتصادية والتعليمية والصحية في البلاد.
خلال العقد الماضي، اعتمد اقتصاد اليمن على قطاع النفط والغاز بشدة، حيث كانت عائدات القطاع تشكل 60 في المائة من الإيرادات الحكومية خلال الفترة بين عامي 2010 و2012. وقد ساهمت عائدات النفط حكومة الرئيس علي عبد الله صالح في توفير الدعم للوقود، وهو ما أصبح من الصعب الحفاظ عليه من الناحية الاقتصادية في الوقت الحالي. وفي حين مثلت عائدات قطاع النفط الجزء الأكبر (أكثر من 70 في المائة) من الإيرادات الحكومية على مدار العشرة أعوام الماضية، لم يرق حجم إنتاج النفط أبدا إلى المعايير العالمية. ويواصل إنتاج النفط تراجعه المستمر في الوقت الذي لم يعد بمقدور الدولة الاعتماد على أسعار النفط المرتفعة في تعويض تناقص الإنتاج.
ويمتلك اليمن أيضا الغاز الطبيعي. وتصل احتياطيات الغاز الموجودة في محافظة مأرب، المجاورة للعاصمة صنعاء، إلى محطة إسالة الغاز الطبيعي في منطقة بلحاف على الساحل الجنوبي عبر خط أنابيب طوله 320 كيلومترا، ثم يجري شحن الغاز المسال إلى الأسواق الآسيوية والأميركية والأوروبية. غير أن إيرادات صادرات الغاز الطبيعي المسال لن تكون كافية لتسد العجز الناجم عن تراجع عائدات النفط. وبالإضافة إلى ذلك، يجري استهداف البنية التحتية للطاقة في شتى أنحاء البلاد باستمرار من قبل الجماعات المسلحة، وقد أدت هذه الأعمال التخريبية إلى تعطيل صادرات الغاز الطبيعي المسال في عام 2012.
ومن المتوقع أن يجري استخدام جزء من الغاز في إنتاج الكهرباء، وهو القطاع الذي يعتمد أيضا بشكل كبير على قطاع النفط في اليمن. ويمثل نقص الطاقة مشكلة دائمة في اليمن، حيث يستفيد أقل من 50 في المائة من السكان من الطاقة الكهربائية. ويبدو اللجوء إلى إنتاج الكهرباء من المولدات الكهربائية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح مكلفا للغاية لحل تلك المشكلة في المدى القصير.
ويرى بعض المحللين للشأن اليمني أن المشكلة الأكثر إلحاحا لا تتمثل في تراجع احتياطيات اليمن من النفط، بل في استنزاف موارد المياه. وتقول هيلين لاكنر، الخبيرة في الشؤون اليمنية والمتخصصة في قضايا التنمية الريفية وإدارة المياه، بأن 70 في المائة من سكان اليمن يعيشون في مناطق ريفية، 47 في المائة منهم فقط يحصلون على مياه صالحة للشرب. غير أن الوضع يزداد سوءا مع التغير المتزايد وغير المتوقع في أنماط الطقس، بما في ذلك موجات الجفاف الشديد والأمطار الغزيرة التي تشهدها بعض المناطق. ويلقى عشرات اليمنيين حتفهم كل عام بسبب الصراعات المرتبطة بالسيطرة على المناطق التي تتوفر بها المياه. وخلال سنوات قليلة، من الممكن أن تصبح صنعاء أول عواصم العالم التي تشهد اختفاء موارد المياه.
وتبقى مصالح النخبة والسيطرة على مختلف قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك قطاعا الاتصالات والتصنيع، ملمحا رئيسيا في الاقتصاد اليمني، والذي لا يبدو أنه تراجع حتى مع سقوط علي عبد الله صالح وتشكيل الحكومة الجديدة.
ولا ينبغي أن نندهش عندما نعلم أنه في ظل الفرص الاستثمارية القليلة وغياب الأمن والاستقرار السياسي، تواجه الدولة نقصا في المهنيين اليمنيين المؤهلين، وهو ما يطلق عليه هجرة العقول. ويقدر تقرير - صادر عن وزارة شؤون المغتربين اليمنية – أن هناك 30 ألفا من اليمنيين المؤهلين تأهيلا عاليا يقيمون في الخارج، غالبيتهم في منطقة الخليج.

قضية رأس المال

يقول خالد صقر، رئيس بعثة صندوق النقد لليمن، لـ«الشرق الأوسط»، بأن هناك «الكثير من القطاعات الواعدة التي يمكن أن تشكل قاطرة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل في اليمن، مثل السياحة ومصايد الأسماك والأنشطة البحرية الأخرى، والتي تتمتع جميعها بإمكانات اقتصادية عظيمة».
ويشير وائل زقوت، مدير مكتب البنك الدولي في صنعاء، إلى أن «اليمن تمتلك سواحل بطول 2.300 كيلومتر، والتي لم تستغلها بشكل كامل حتى الآن، كما أن لديها الكثير من المعالم السياحية المهمة». وبرغم الإمكانيات البحرية الهائلة التي تتمتع بها البلاد، يبدو ميناء عدن في حالة يرثى لها، كما يبدو قطاع الصيد الساحلي في حالة من الضعف الشديد بسبب عمليات الصيد غير القانونية التي تقوم بها الأساطيل الضخمة، وكذلك ارتفاع عدد الصيادين اليمنيين.
وتحظى اليمن بوجود الكثير من مواقع التراث العالمي والجبال الوعرة والمرتفعات ذات المناخ المعتدل والسواحل الخلابة والواحات والجزر، مثل أرخبيل سقطرى الذي يُعد واحدا من أفضل مقاصد الغوص وركوب الأمواج في العالم.
ويحذر زقوت أنه «رغم ذلك، لن تتجسد كل تلك الإمكانيات على أرض الواقع في المدى القصير بسبب الوضع الأمني». وتتكرر عمليات خطف الأجانب في اليمن، حيث ينشط فرع تنظيم القاعدة هناك، وأصبحت عمليات الاغتيالات المنظمة شيئا عاديا. كما غدا الشمال مسرحا للمواجهات العنيفة بين المتمردين الحوثيين والجيش اليمني وجماعات أخرى. وهناك حملات مستمرة لتنظيم عصيان مدني في المناطق الجنوبية، في حين تبدو العلاقات معقدة بين بعض القبائل والحكومة وأجهزة الأمن.
وبعيدا عن الوضع الأمني، يبدو من غير المرجح أن تتمكن بعض القطاعات ذات الإمكانيات في تحقيق تقدم من دون ضخ المزيد من الاستثمارات العامة والخاصة، لا سيما في قطاع البنية التحتية، الذي يمثل الاستثمار فيه ضرورة أساسية ووسيلة لتحقيق النمو وتوفير فرص العمل في المدى القصير. وبحسب زقوت فإن «هناك حاجة للاستثمار في قطاعات الطاقة، والطرق السريعة ومياه الشرب (الإمدادات العامة والصرف الصحي) والمدارس الجديدة». ويرى صقر أن «مشروعات البنية التحتية وخاصة تلك التي تستوعب عمالة كثيفة، ستسهم بشكل مباشر وعاجل في توفير فرص العمل». وأضاف: «مما يرثى له، أنه برغم الزيادة النسبية مقارنة بعام 2011، فإن مخصصات إنفاق رأس المال في الميزانية منخفضة للغاية». وأشار إلى أن إنفاق رأس المال في عام 2012 بلغ 10 في المائة فقط من إجمالي الإنفاق الحكومي، مقارنة بـ90 في المائة من الإنفاق الحالي على الإعانات العامة، ونفقات الديون الحالية ورواتب موظفي الحكومة. وأضاف: «هناك حاجة لإعادة توجيه النفقات العامة بعيدا عن المساعدات باتجاه برامج تدعيم النمو والبرامج الموجهة لصالح الفقراء».
ولدى سؤاله عما إذا كان الاستثمار في منشآت تحلية المياه يمثل حلا لتنويع الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على النفط وكوسيلة لمواجهة أزمة المياه، نوه صقر إلى الطبيعة المكلفة لهذه النوعية من المشروعات. وأن هذا الخيار تم ارتياده من قبل دول مجلس التعاون الخليجي، التي تمتلك بعكس اليمن ثروات ضخمة للاستثمار في مثل هذه المشروعات.
وعوضا عن ذلك، قال: إن صندوق النقد الدولي يعتقد: «ضرورة تشجيع السلطات اليمنية الحفاظ على المياه وتقليل معدلات استنزاف مصادر المياه الجوفية الشحيحة بالفعل». وبحسب زقوت: «يمكن لبرامج تحلية المياه أن تشكل خيارا في المناطق الساحلية، نتيجة لتوافر هذه التكنولوجيا بتكلفة منخفضة»، لكن المشكلة هي أن الكثير من السكان الذين يحتاجون هذه المياه يقنطون في المناطق المرتفعة»، ولذا فإن تكلفة الطاقة ونقل المياه من المناطق الساحلية إلى المرتفعات ستجعل منها عملية باهظة التكاليف. ويرى زقوت، ضرورة التركيز على الحد من ري نبات القات في المناطق الجبلية لتوفير مزيد من المياه للاستهلاك المحلي.
ورغم استيراد اليمن لـ95 في المائة من حاجتها القمح وكل احتياجاتها من الأرز بشكل كامل، فإن 90 في المائة من مياهها يذهب للزراعة. ويأتي بين المجالات التي يتم التفكير فيها حاليا لاستغلال ميزة روح المبادرة لدى اليمنيين مشروعات التمويل متناهي الصغر. وبحسب بازرعة، رئيس فريق عمل التنمية الشاملة في مؤتمر الحوار الوطني، تم اتخاذ عدد من القرارات بشأن تأهيل البنوك ومؤسسات التمويل الصغيرة لتقديم التمويل متناهي الصغر بضمان من الحكومة وقروض المساعدات وتقديم الدعم في المناطق الريفية على وجه الخصوص، إضافة إلى تخصيص 20 في المائة من مشروعات الدولة للشركات الصغيرة والمتوسطة.
ولعب المانحون الدوليون دورا مهما في تخفيف الأثر الاقتصادي السلبي لانتفاضة عام 2011، نتيجة لغياب الاستثمار العام والخاص، حيث تعهد أصدقاء اليمن بتقديم ثمانية مليارات دولار في الفترة بين عامي 2012 و2015، والتي تشكل جزءا أساسيا من الأموال المخصصة لتمويل مشروعات البنية التحتية. وقد جرى تقديم نحو 25 في المائة من هذه الأموال بالفعل، جاءت غالبيتها من المملكة العربية السعودية.
وكانت اليمن الدولة الأولى، من بين جميع الدول العربية التي تمر بعمليات تحول سياسي بعد ثورات 2011، التي تتلقى مساعدات مالية من صندوق النقد الدولي. وأوضح صقر أن القدرة على الإنجاز والمخاوف الإدارية الأخرى أسهمت في انخفاض مدفوعات المانحين في الماضي، لكنه أشار إلى أن السلطات تبذل جهودا لتطوير جودة الاستثمار العام والمساعدة في تحفيز تعهدات المانحين. يأتي بين هذه الجهود إنشاء إطار المحاسبة المشترك ومكتب تنفيذي لتسريع امتصاص تعهدات المانحين بالتنسيق مع البنك الدولي.
من ناحية أخرى كانت اليمن تصنف قبل التحول السياسي كإحدى دول القاع على مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية. ويرى زقوت أن هناك «حاجة ماسة لبذل الجهود في هذا الإطار الذي يمثل قضية بالغة الخطورة».
وتحدث بازرعة إلى «الشرق الأوسط» عن الحاجة إلى إجراء مراجعة شاملة لهذه المساعدات لدراسة التأثير الذي أحدثته خلال العقدين أو الثلاثة الماضية. علاوة على ذلك فنحن بحاجة إلى التفكير في آليات وأولويات لهذه المساعدة وتبنيها في خطط التنمية المستقبلية.
وقد سلط التقرير الشامل الذي نشرته منظمة تشاتام هاوس، مؤسسة بحثية في لندن، في سبتمبر (أيلول) الماضي «هروب رأس المال المباشر إلى الملاذات الضريبية تسبب في انخفاض حجم تدفقات المساعدات الدولية»، ووفقا للتقرير فإن كل دولار أنفق على المساعدات في اليمن في الفترة بين 1990 و2008 كان يقابله 2.70 دولار أخرى تغادر البلاد.

إعادة بناء دولة الشرعية
ويواجه مؤتمر الحوار الوطني الكثير من المنتقدين في اليمن الذين يعتقدون أن أقطاب النظام السابق ودوائر السلطة حققوا أهدافهم من خلاله. لكن الكثير من المراقبين يعدون مؤتمر الحوار الوطني قصة نجاح في العالم العربي بالصورة نظرا لقدرته على تجنيب اليمن مصيرا أسوأ وتوحيد كل قطاعات المجتمع اليمني لمناقشة مستقبل البلاد.
وقد أصدرت لجنة تحديد عدد الأقاليم التي شكلها الرئيس عبد ربه منصور هادي لدراسة المسألة الشائكة للتحول السياسي اليمني، تقريرها النهائي في العاشر من فبراير (شباط)، والتي اقترحت تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، اثنان في الجنوب وأربعة في الشمال. ويقدم هذا النموذج نظريا حلا لعدد مشكلات اليمن المزمنة، وتحديدا الشعور بالإهمال أو الاستغلال الذي تشعر به الكثير من الأقاليم وخاصة الجنوبية تجاه الحكومة المركزية في صنعاء.
ولكن كما هو الحال مع كل التوصيات التي صدرت عن مؤتمر الحوار الوطني، يكمن الحل في تنفيذ تلك التوصيات. إضافة إلى ذلك فقد تم تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وهذا لا ينبئ بخير بالنسبة لحكومة تجد نفسها مضطرة لإقناع المواطن اليمني أنها قادرة على الدفاع عن مصالح اليمنيين ككل لا البعض منهم وقدرتها على توفير الأمن.
وينظر إلى تعزيز مؤسسات الدولة في الوقت الراهن كأساس لأي مظهر من مظاهر النجاح الاقتصادي، لكن بناء القدرة لا يتوقع أن يقوم بهذا العمل بمفرده، فالدولة اليمنية تواجه أزمة شرعية عميقة، ولا تزال مبتلاة بشبكة التحالفات التي أنشأها الرئيس السابق علي عبد الله صالح لتعزيز قبضته على السلطة، ولمكافأة الحلفاء ومعاقبة الخصوم.
وأخيرا، فإن الأمل معقود على استكمال مسيرة التحول السياسي التي تسهم في إعادة تشكيل صورة الدولة اليمنية ومن ثم إنهاء مناخ التمرد والعنف، وهو ما قد يحقق الثقة اللازمة لجذب المستثمرين والسماح للقطاع الخاص بالتوسع. هذا قد يتطلب بعض الوقت، لكنه رفاهية لن يستطيع اليمنيون تحملها.
* شارك في إعداد التقرير
عرفات مدابش من صنعاء



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.