تحديات ما بعد الحوار الوطني في اليمن

محاولات إنعاش الاقتصاد تصطدم بالفوضى الأمنية.. وغياب التخطيط يزيد معدلات الفساد

عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
TT

تحديات ما بعد الحوار الوطني في اليمن

عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)
عناصر من الشرطة والجيش اليمنيين يشاركون في مظاهرة دعت لسقوط الحكومة في صنعاء أمس (رويترز)

بعد أكثر من شهرين من اختتام أعمال مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، الذي وضع سلسلة من القرارات والتوصيات لحل الأزمة الناشبة في البلاد، تبدو محاولة إعادة إنعاش الاقتصاد المتعثر قاتمة، وسط حالة من الفوضى الأمنية والعنف المنتشر، ما يشكل تحديا صعبا أمام القيادة السياسية في صنعاء.
فمدينة عدن القديمة، التي تقع في الجنوب، تقعد على فوهة بركان خامد في الناحية الجنوبية الشرقية من شبه جزيرة عدن. وتحتوي على واحد من أكبر المرافئ الطبيعية في العالم والذي يتمتع بمياه عميقة، على درجة كبيرة من الصفاء. لم تخف موارد وإمكانيات مدينة عدن، التي تقع عند نقطة التقاء البحر الأحمر مع منطقة خليج عدن ومنطقة شرق أفريقيا مع جنوب آسيا، على الإمبراطورية البريطانية، فقد كانت مرتبطة بكابل التلغراف الذي يربط لندن بمدينة بومباي الهندية. بعد الحرب العالمية الأولى، أصبح تموين السفن بالوقود من أهم عناصر الأنشطة الاقتصادية في مينائها.

بحلول خمسينات القرن الماضي، كانت عدن قد بدأت في استيراد وتكرير النفط الخام، ما جعلها ثاني أكثر الموانئ نشاطا في العالم بعد ليفربول. ومع رحيل بريطانيا عن جنوب اليمن في عام 1967 بعد سلسلة من الانتفاضات، تعاقب على حكم البلاد مجموعة من الحكومات الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفياتي. ولم تستطع التجربة الشيوعية أو العقود التي تلت تحقيق الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تحت حكم الرئيس علي عبد الله صالح تحقيق أي نوع من الإفادة لاقتصاد الجزء الجنوبي من البلاد، بل على العكس، فقد استمر تدهور الأوضاع الاقتصادية هناك، حتى وصل الأمر إلى توقف النشاط تقريبا في ميناء عدن في الوقت الحالي.
يبقى مسار تحول عدن من أهم محاور التجارة العالمية إلى رمز قومي لسوء الإدارة الحكومية مثالا على التدهور التراجيدي لاقتصاد اليمن، ناهيك عن العواقب الكارثية التي جلبها ذلك التدهور على عدد السكان المتنامي يوما بعد يوم والذي يُقدر حاليا بـ25 مليون نسمة. مند أسبوعين دعت الأمم المتحدة المجتمع الدولي إلى تقديم دعم لـ14.7 مليون شخص بحاجة ماسة للمساعدة الإنسانية.
وكان مؤتمر الحوار الوطني قد اختتم أعماله في أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث كان الهدف الرئيس من ورائه يتمثل في اقتراح خريطة طريق سياسية ودستور جديد بعد احتجاجات 2011. التي أطاحت بالرئيس علي عبد الله صالح. ومنذ نهاية المؤتمر، تصاعدت المطالب الشعبية، التي تطالب قادة اليمن بإعادة تركيز جهودهم على التعاطي مع المشاكل الاقتصادية الملحة في البلاد.
وخلال أعمال المؤتمر، تعرضت الحكومة اليمنية لانتقادات شديدة بسبب تركيز اهتمامها على المناقشات التي جرت خلال المؤتمر، في حين تجاهلت القضايا التي تمس الحياة اليومية للمواطنين العاديين. ورغم النظرة المستقبلية القاتمة للاقتصاد اليمني في ظل حالة انعدام الأمن وعدم الاستقرار السياسي السائدة في البلاد، تبقى شخصيات بارزة في مؤتمر الحوار الوطني متفائلة إلى حد ما بشأن مستقبل اليمن. يقول أحمد أبو بكر بازرعة، رئيس مجموعة عمل التنمية الشاملة في المؤتمر الوطني، لـ«الشرق الأوسط»، بأن التوصيات الواردة في التقرير النهائي، الذي أعدته المجموعة: «سيكون لها أثر إيجابي» على الجهود المبذولة للتصدي لمشكلات اليمن الاقتصادية، رغم «أن ظهور ذلك الأثر سيستغرق بعض الوقت».
وتتضمن تلك التوصيات، التي سيرد جزء منها في الدستور اليمني الجديد، التأكيد على حرية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى تعددية الملكية في مختلف قطاعات الاقتصاد، أي تجنب الممارسات الاحتكارية وعمل شراكات بين القطاعين العام والخاص. ويشير الدكتور أحمد الأصبحي، نائب رئيس مجموعة عمل الحكم الرشيد التابعة لمؤتمر الحوار الوطني، إلى أنه من المتوقع أن تساهم القرارات والتوصيات، الصادرة عن المجموعة، في خلق بيئة اقتصادية أكثر ملائمة، مضيفا أن «تلك القرارات والتوصيات، البالغ عددها 305، تركز على مبادئ المحاسبة والشفافية وسرعة الاستجابة والعدل والكفاءة والفعالية وسيادة القانون ومكافحة الفساد».
وبسؤاله عما إذا كان من الممكن تنفيذ التوصيات بزيادة الشفافية في قطاع الأعمال ومؤسسات الدولة بشكل صحيح، أبدى الأصبحي أمله في أن يحدث ذلك بالفعل شريطة أن تتوفر آلية مراقبة شعبية ومؤسسية «لتكون بمثابة شكل من أشكال الضغط».
غير أن الحفاظ على الاقتصاد اليمني قادرا على الوقوف على قدميه يبقى مهمة ضخمة وثقيلة. وكان الرئيس المؤقت عبد ربه منصور هادي قد لخص الاختبار الصعب الذي يواجه الحكومة اليمنية حينما قال: «75 في المائة من مشاكل اليمن تتعلق بالوضع الاقتصادي».

أرقام مثيرة للقلق

تعرض بيانات الاقتصاد المتاحة سيناريو مخيفا. تقول تقديرات البنك الدولي بأنه في عام 2012 بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في اليمن 54.5 في المائة مقارنة بـ42 في المائة قبل ثلاث سنوات، وهو رقم أعلى قليلا من المعدل السائد في الدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. ويعاني واحد من بين كل طفلين من سوء التغذية. ورغم التقدم الذي حققته البلاد في بعض المجالات، مثل الانخفاض المستمر في معدل وفيات الأطفال الرضع، من غير المرجح أن تتمكن اليمن من تحقيق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية للألفية.
تشير تقديرات متحفظة إلى أن معدل البطالة في اليمن وصل إلى 35 في المائة. ويصل معدل البطالة بين الشباب إلى أكثر من 55 في المائة. كما ساهم توجه المملكة العربية السعودية العام الماضي نحو تشديد قوانين العمل في تفاقم مشكلة البطالة في اليمن، حيث عاد نحو 300 إلى 400 ألف يمني، غالبيتهم يعملون بشكل غير قانوني في المملكة، إلى بلادهم.
وتبدو هذه الصورة أكثر إثارة للقلق عند تحليلها في سياق التركيبة السكانية في اليمن. وخلال مؤتمر عن اليمن جرى عقده مؤخرا في لندن، حذر بروفسور آلن جي. هيل، أستاذ السكان والصحة الدولية في جامعة ساوثهامبتون، من خطر النمو السكاني في اليمن. ويتوقع بروفسور هيل، وهو خبير ديموغرافي بارز سابق في جامعة هارفارد، أن عدد سكان اليمن سوف يتضاعف في أقل من 20 سنة في حال استمر معدل النمو الحالي.
وسيشكل هذا الارتفاع الكبير في عدد السكان ضغطا كبيرا على الخدمات الاقتصادية والتعليمية والصحية في البلاد.
خلال العقد الماضي، اعتمد اقتصاد اليمن على قطاع النفط والغاز بشدة، حيث كانت عائدات القطاع تشكل 60 في المائة من الإيرادات الحكومية خلال الفترة بين عامي 2010 و2012. وقد ساهمت عائدات النفط حكومة الرئيس علي عبد الله صالح في توفير الدعم للوقود، وهو ما أصبح من الصعب الحفاظ عليه من الناحية الاقتصادية في الوقت الحالي. وفي حين مثلت عائدات قطاع النفط الجزء الأكبر (أكثر من 70 في المائة) من الإيرادات الحكومية على مدار العشرة أعوام الماضية، لم يرق حجم إنتاج النفط أبدا إلى المعايير العالمية. ويواصل إنتاج النفط تراجعه المستمر في الوقت الذي لم يعد بمقدور الدولة الاعتماد على أسعار النفط المرتفعة في تعويض تناقص الإنتاج.
ويمتلك اليمن أيضا الغاز الطبيعي. وتصل احتياطيات الغاز الموجودة في محافظة مأرب، المجاورة للعاصمة صنعاء، إلى محطة إسالة الغاز الطبيعي في منطقة بلحاف على الساحل الجنوبي عبر خط أنابيب طوله 320 كيلومترا، ثم يجري شحن الغاز المسال إلى الأسواق الآسيوية والأميركية والأوروبية. غير أن إيرادات صادرات الغاز الطبيعي المسال لن تكون كافية لتسد العجز الناجم عن تراجع عائدات النفط. وبالإضافة إلى ذلك، يجري استهداف البنية التحتية للطاقة في شتى أنحاء البلاد باستمرار من قبل الجماعات المسلحة، وقد أدت هذه الأعمال التخريبية إلى تعطيل صادرات الغاز الطبيعي المسال في عام 2012.
ومن المتوقع أن يجري استخدام جزء من الغاز في إنتاج الكهرباء، وهو القطاع الذي يعتمد أيضا بشكل كبير على قطاع النفط في اليمن. ويمثل نقص الطاقة مشكلة دائمة في اليمن، حيث يستفيد أقل من 50 في المائة من السكان من الطاقة الكهربائية. ويبدو اللجوء إلى إنتاج الكهرباء من المولدات الكهربائية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح مكلفا للغاية لحل تلك المشكلة في المدى القصير.
ويرى بعض المحللين للشأن اليمني أن المشكلة الأكثر إلحاحا لا تتمثل في تراجع احتياطيات اليمن من النفط، بل في استنزاف موارد المياه. وتقول هيلين لاكنر، الخبيرة في الشؤون اليمنية والمتخصصة في قضايا التنمية الريفية وإدارة المياه، بأن 70 في المائة من سكان اليمن يعيشون في مناطق ريفية، 47 في المائة منهم فقط يحصلون على مياه صالحة للشرب. غير أن الوضع يزداد سوءا مع التغير المتزايد وغير المتوقع في أنماط الطقس، بما في ذلك موجات الجفاف الشديد والأمطار الغزيرة التي تشهدها بعض المناطق. ويلقى عشرات اليمنيين حتفهم كل عام بسبب الصراعات المرتبطة بالسيطرة على المناطق التي تتوفر بها المياه. وخلال سنوات قليلة، من الممكن أن تصبح صنعاء أول عواصم العالم التي تشهد اختفاء موارد المياه.
وتبقى مصالح النخبة والسيطرة على مختلف قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك قطاعا الاتصالات والتصنيع، ملمحا رئيسيا في الاقتصاد اليمني، والذي لا يبدو أنه تراجع حتى مع سقوط علي عبد الله صالح وتشكيل الحكومة الجديدة.
ولا ينبغي أن نندهش عندما نعلم أنه في ظل الفرص الاستثمارية القليلة وغياب الأمن والاستقرار السياسي، تواجه الدولة نقصا في المهنيين اليمنيين المؤهلين، وهو ما يطلق عليه هجرة العقول. ويقدر تقرير - صادر عن وزارة شؤون المغتربين اليمنية – أن هناك 30 ألفا من اليمنيين المؤهلين تأهيلا عاليا يقيمون في الخارج، غالبيتهم في منطقة الخليج.

قضية رأس المال

يقول خالد صقر، رئيس بعثة صندوق النقد لليمن، لـ«الشرق الأوسط»، بأن هناك «الكثير من القطاعات الواعدة التي يمكن أن تشكل قاطرة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل في اليمن، مثل السياحة ومصايد الأسماك والأنشطة البحرية الأخرى، والتي تتمتع جميعها بإمكانات اقتصادية عظيمة».
ويشير وائل زقوت، مدير مكتب البنك الدولي في صنعاء، إلى أن «اليمن تمتلك سواحل بطول 2.300 كيلومتر، والتي لم تستغلها بشكل كامل حتى الآن، كما أن لديها الكثير من المعالم السياحية المهمة». وبرغم الإمكانيات البحرية الهائلة التي تتمتع بها البلاد، يبدو ميناء عدن في حالة يرثى لها، كما يبدو قطاع الصيد الساحلي في حالة من الضعف الشديد بسبب عمليات الصيد غير القانونية التي تقوم بها الأساطيل الضخمة، وكذلك ارتفاع عدد الصيادين اليمنيين.
وتحظى اليمن بوجود الكثير من مواقع التراث العالمي والجبال الوعرة والمرتفعات ذات المناخ المعتدل والسواحل الخلابة والواحات والجزر، مثل أرخبيل سقطرى الذي يُعد واحدا من أفضل مقاصد الغوص وركوب الأمواج في العالم.
ويحذر زقوت أنه «رغم ذلك، لن تتجسد كل تلك الإمكانيات على أرض الواقع في المدى القصير بسبب الوضع الأمني». وتتكرر عمليات خطف الأجانب في اليمن، حيث ينشط فرع تنظيم القاعدة هناك، وأصبحت عمليات الاغتيالات المنظمة شيئا عاديا. كما غدا الشمال مسرحا للمواجهات العنيفة بين المتمردين الحوثيين والجيش اليمني وجماعات أخرى. وهناك حملات مستمرة لتنظيم عصيان مدني في المناطق الجنوبية، في حين تبدو العلاقات معقدة بين بعض القبائل والحكومة وأجهزة الأمن.
وبعيدا عن الوضع الأمني، يبدو من غير المرجح أن تتمكن بعض القطاعات ذات الإمكانيات في تحقيق تقدم من دون ضخ المزيد من الاستثمارات العامة والخاصة، لا سيما في قطاع البنية التحتية، الذي يمثل الاستثمار فيه ضرورة أساسية ووسيلة لتحقيق النمو وتوفير فرص العمل في المدى القصير. وبحسب زقوت فإن «هناك حاجة للاستثمار في قطاعات الطاقة، والطرق السريعة ومياه الشرب (الإمدادات العامة والصرف الصحي) والمدارس الجديدة». ويرى صقر أن «مشروعات البنية التحتية وخاصة تلك التي تستوعب عمالة كثيفة، ستسهم بشكل مباشر وعاجل في توفير فرص العمل». وأضاف: «مما يرثى له، أنه برغم الزيادة النسبية مقارنة بعام 2011، فإن مخصصات إنفاق رأس المال في الميزانية منخفضة للغاية». وأشار إلى أن إنفاق رأس المال في عام 2012 بلغ 10 في المائة فقط من إجمالي الإنفاق الحكومي، مقارنة بـ90 في المائة من الإنفاق الحالي على الإعانات العامة، ونفقات الديون الحالية ورواتب موظفي الحكومة. وأضاف: «هناك حاجة لإعادة توجيه النفقات العامة بعيدا عن المساعدات باتجاه برامج تدعيم النمو والبرامج الموجهة لصالح الفقراء».
ولدى سؤاله عما إذا كان الاستثمار في منشآت تحلية المياه يمثل حلا لتنويع الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على النفط وكوسيلة لمواجهة أزمة المياه، نوه صقر إلى الطبيعة المكلفة لهذه النوعية من المشروعات. وأن هذا الخيار تم ارتياده من قبل دول مجلس التعاون الخليجي، التي تمتلك بعكس اليمن ثروات ضخمة للاستثمار في مثل هذه المشروعات.
وعوضا عن ذلك، قال: إن صندوق النقد الدولي يعتقد: «ضرورة تشجيع السلطات اليمنية الحفاظ على المياه وتقليل معدلات استنزاف مصادر المياه الجوفية الشحيحة بالفعل». وبحسب زقوت: «يمكن لبرامج تحلية المياه أن تشكل خيارا في المناطق الساحلية، نتيجة لتوافر هذه التكنولوجيا بتكلفة منخفضة»، لكن المشكلة هي أن الكثير من السكان الذين يحتاجون هذه المياه يقنطون في المناطق المرتفعة»، ولذا فإن تكلفة الطاقة ونقل المياه من المناطق الساحلية إلى المرتفعات ستجعل منها عملية باهظة التكاليف. ويرى زقوت، ضرورة التركيز على الحد من ري نبات القات في المناطق الجبلية لتوفير مزيد من المياه للاستهلاك المحلي.
ورغم استيراد اليمن لـ95 في المائة من حاجتها القمح وكل احتياجاتها من الأرز بشكل كامل، فإن 90 في المائة من مياهها يذهب للزراعة. ويأتي بين المجالات التي يتم التفكير فيها حاليا لاستغلال ميزة روح المبادرة لدى اليمنيين مشروعات التمويل متناهي الصغر. وبحسب بازرعة، رئيس فريق عمل التنمية الشاملة في مؤتمر الحوار الوطني، تم اتخاذ عدد من القرارات بشأن تأهيل البنوك ومؤسسات التمويل الصغيرة لتقديم التمويل متناهي الصغر بضمان من الحكومة وقروض المساعدات وتقديم الدعم في المناطق الريفية على وجه الخصوص، إضافة إلى تخصيص 20 في المائة من مشروعات الدولة للشركات الصغيرة والمتوسطة.
ولعب المانحون الدوليون دورا مهما في تخفيف الأثر الاقتصادي السلبي لانتفاضة عام 2011، نتيجة لغياب الاستثمار العام والخاص، حيث تعهد أصدقاء اليمن بتقديم ثمانية مليارات دولار في الفترة بين عامي 2012 و2015، والتي تشكل جزءا أساسيا من الأموال المخصصة لتمويل مشروعات البنية التحتية. وقد جرى تقديم نحو 25 في المائة من هذه الأموال بالفعل، جاءت غالبيتها من المملكة العربية السعودية.
وكانت اليمن الدولة الأولى، من بين جميع الدول العربية التي تمر بعمليات تحول سياسي بعد ثورات 2011، التي تتلقى مساعدات مالية من صندوق النقد الدولي. وأوضح صقر أن القدرة على الإنجاز والمخاوف الإدارية الأخرى أسهمت في انخفاض مدفوعات المانحين في الماضي، لكنه أشار إلى أن السلطات تبذل جهودا لتطوير جودة الاستثمار العام والمساعدة في تحفيز تعهدات المانحين. يأتي بين هذه الجهود إنشاء إطار المحاسبة المشترك ومكتب تنفيذي لتسريع امتصاص تعهدات المانحين بالتنسيق مع البنك الدولي.
من ناحية أخرى كانت اليمن تصنف قبل التحول السياسي كإحدى دول القاع على مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية. ويرى زقوت أن هناك «حاجة ماسة لبذل الجهود في هذا الإطار الذي يمثل قضية بالغة الخطورة».
وتحدث بازرعة إلى «الشرق الأوسط» عن الحاجة إلى إجراء مراجعة شاملة لهذه المساعدات لدراسة التأثير الذي أحدثته خلال العقدين أو الثلاثة الماضية. علاوة على ذلك فنحن بحاجة إلى التفكير في آليات وأولويات لهذه المساعدة وتبنيها في خطط التنمية المستقبلية.
وقد سلط التقرير الشامل الذي نشرته منظمة تشاتام هاوس، مؤسسة بحثية في لندن، في سبتمبر (أيلول) الماضي «هروب رأس المال المباشر إلى الملاذات الضريبية تسبب في انخفاض حجم تدفقات المساعدات الدولية»، ووفقا للتقرير فإن كل دولار أنفق على المساعدات في اليمن في الفترة بين 1990 و2008 كان يقابله 2.70 دولار أخرى تغادر البلاد.

إعادة بناء دولة الشرعية
ويواجه مؤتمر الحوار الوطني الكثير من المنتقدين في اليمن الذين يعتقدون أن أقطاب النظام السابق ودوائر السلطة حققوا أهدافهم من خلاله. لكن الكثير من المراقبين يعدون مؤتمر الحوار الوطني قصة نجاح في العالم العربي بالصورة نظرا لقدرته على تجنيب اليمن مصيرا أسوأ وتوحيد كل قطاعات المجتمع اليمني لمناقشة مستقبل البلاد.
وقد أصدرت لجنة تحديد عدد الأقاليم التي شكلها الرئيس عبد ربه منصور هادي لدراسة المسألة الشائكة للتحول السياسي اليمني، تقريرها النهائي في العاشر من فبراير (شباط)، والتي اقترحت تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، اثنان في الجنوب وأربعة في الشمال. ويقدم هذا النموذج نظريا حلا لعدد مشكلات اليمن المزمنة، وتحديدا الشعور بالإهمال أو الاستغلال الذي تشعر به الكثير من الأقاليم وخاصة الجنوبية تجاه الحكومة المركزية في صنعاء.
ولكن كما هو الحال مع كل التوصيات التي صدرت عن مؤتمر الحوار الوطني، يكمن الحل في تنفيذ تلك التوصيات. إضافة إلى ذلك فقد تم تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وهذا لا ينبئ بخير بالنسبة لحكومة تجد نفسها مضطرة لإقناع المواطن اليمني أنها قادرة على الدفاع عن مصالح اليمنيين ككل لا البعض منهم وقدرتها على توفير الأمن.
وينظر إلى تعزيز مؤسسات الدولة في الوقت الراهن كأساس لأي مظهر من مظاهر النجاح الاقتصادي، لكن بناء القدرة لا يتوقع أن يقوم بهذا العمل بمفرده، فالدولة اليمنية تواجه أزمة شرعية عميقة، ولا تزال مبتلاة بشبكة التحالفات التي أنشأها الرئيس السابق علي عبد الله صالح لتعزيز قبضته على السلطة، ولمكافأة الحلفاء ومعاقبة الخصوم.
وأخيرا، فإن الأمل معقود على استكمال مسيرة التحول السياسي التي تسهم في إعادة تشكيل صورة الدولة اليمنية ومن ثم إنهاء مناخ التمرد والعنف، وهو ما قد يحقق الثقة اللازمة لجذب المستثمرين والسماح للقطاع الخاص بالتوسع. هذا قد يتطلب بعض الوقت، لكنه رفاهية لن يستطيع اليمنيون تحملها.
* شارك في إعداد التقرير
عرفات مدابش من صنعاء



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.