حاضر السينما المصرية.. خطوات مبشرة

من «هيبيتا.. المحاضرة الأخيرة»
من «هيبيتا.. المحاضرة الأخيرة»
TT

حاضر السينما المصرية.. خطوات مبشرة

من «هيبيتا.. المحاضرة الأخيرة»
من «هيبيتا.. المحاضرة الأخيرة»

في الأسابيع القريبة الأخيرة ازداد تناول وضع السينما المصرية الحالي في الصحف والمجلات المصرية والعربية عمومًا. وكما هو متوقع في كل المرات، وبصورة طبيعية، تنقسم الآراء على بعضها، وتتبدى في اتجاهات ثلاثة: اتجاه يعتبر أن الوضع الحالي بخير، واتجاه يعتبرها في وضع سيئ حاليًا، ثم آخر يأخذ في الاعتبار الموقف الوطني وحده فهي لا بد أن تكون بخير لمجرد أنها مصرية وذات التاريخ الأمضى بين سينمات المنطقتين العربية والأفريقية.
وبطبيعة الحال أيضًا كل يأتي بأسبابه وبعضها محق.
في زاويته اليومية «صوت وصورة» في العاشر من هذا الشهر كتب الزميل سمير فريد أنه ومنذ مطلع السنة الحالية «هناك مؤشرات على أنه أسعد سنوات السينما المصرية منذ مطلع القرن الميلادي الجديد الحادي والعشرين».
في عدد لاحق بتاريخ 18 يوليو (تموز) نقل جانبًا من حديث ورد بينه وبين مدير التصوير كمال عبد العزيز قال فيه الأخير إنه بالنسبة للإنتاج والتوزيع في مصر فليس هناك جديد «أفلام ناجحة تجاريًا وأخرى فاشلة أو متوسطة، ولكن لا يوجد فن كبير»، وأن الأفلام المصرية التي عرضت في مهرجانات برلين وكان وما سيعرض في سواها هذا العام «تمويل أجنبي، والممول الأجنبي يفرض وجهة نظره بالضرورة». هذا في الوقت الذي اتخذ فيه رئيس مجلس الوزراء المصري شريف إسماعيل عددًا من القرارات المهمة في إطار تشجيع صناعة السينما في مصر ومدّها بالمتطلبات اللازمة لإعادة الصناعة إلى ما كانت عليه في سابق عهدها خلال خمسينات وستينات القرن الماضي.
من بين هذه القرارات (وأهمها) رفع دعم الوزارة للسينما المصرية من 20 مليون جنيه إلى 50 مليون جنيه في العام، والبدء بمعالجة جادة لظاهرة القرصنة والبحث في أفضل سبيل توجيه هذا الدعم بحيث يؤدي إلى استثماره على نحو يعود بالفائدة الفعلية.
* إيرادات
عمليًا، شهدت صناعة السينما المصرية مراحل أفضل من مراحل أخرى. في أحيان كثيرة، على امتداد سنواتها من الأربعينات إلى اليوم، أكثر من ذروة وأكثر من قاع. والحاجة لحماية رسمية، كما تمثلت في اجتماع رئيس الوزراء مع عدد غير قليل من المهنيين والمسؤولين المحترفين، لا غُبار عليها. ليس صحيحًا أن زمن قيام الحكومات بتشجيع الصناعات الإبداعية، ومن بينها السينما، قد ولّى فهو سياسة حاضرة ومطبّقة في معظم الدول الأوروبية، وهناك أوجه دعم مختلفة وغير مباشرة في معظم دول العالم في القارات الخمس. وهذا الدعم موزّع في ناحيتين:
الأولى دعم عام للأفلام التي تصوّر داخل البلاد، وهذا موجه إلى الإنتاجات الأجنبية بالدرجة الأولى ويبدأ بتصغير حجم المشكلات والعقبات الروتينية، إلى درجة الردم، التي تحول دون قيام شركات الإنتاج بالتصوير والعمل في تلك البلاد (كما الحال في دبي وأبوظبي والمغرب مثلاً).
الثانية، دعم للأفلام المحلية المنتجة إما عبر تخصيص حصص من عائدات غير سينمائية (كما الحال في بريطانيا حيث يتم تحويل نصيب من عائدات اليانصيب الوطني لصالح دعم السينما لجانب ما توفره الحكومة ذاتها) أو عبر إسهام رسمي - حكومي مباشر (كما الحال في البلدان الإسكندنافية وفي دول آسيوية شمالية مثل أذربيجان على سبيل المثال فقط).
دراسة الحالات جميعًا واتخاذ ما يناسب منها أو التفكير بما يتجاوزها تبعًا لقدرات البلد وطبيعته مع ضرورة الخروج من صندوق المعايير التي عاندت وعرقلت المحاولات السابقة في هذا الإطار، يصبح أمرًا بالغ الضرورة لاستكمال هذه المبادرة الصحيحة التي انطلقت بها الحكومة المصرية أخيرا. يبقى تحديد ما هو الوضع الفعلي: هل السينما المصرية بخير (كما ذكر الناقد سمير فريد) أو هي في كارثة (كما ذكر أخيرا رئيس اتحاد النقابات الفنية المخرج عمر عبد العزيز)؟
إنه من السهل الحكم على وضع سينما ما بالنظر إلى إيرادات مرتفعة تحققها بضعة أفلام (آخرها على نحو واضح «هيبيتا: المحاضرة الأخيرة»). ففي نهاية المطاف الجمهور موجود وبحاجة للترفيه وهناك نسبة كبيرة من الشباب الذين يرتادون صالات السينما لهذه الغاية. لكن أسعار التذاكر في هذه الأيام أعلى منها في السابق مما يعني أن الفيلم الذي كان يحقق، قبل عشر سنوات، عشرة ملايين جنيه مصري بات بحاجة إلى ضعف عدد مشاهديه تقريبًا لتحقيق المبلغ ذاته اليوم.
وفي مسألة تقدّم السينما (المصرية في هذا الشأن لكن أي سينما أخرى) هناك جانبان: الأفلام الجماهيرية والأفلام غير الجماهيرية. كلاهما معروف الشأن والمواصفات. الأولى تذهب إلى الجمهور فتكسب أو تخسر، والثانية تتوجه إلى المهرجانات فتحيي اسم مصر سواء أكان التمويل مصريًا بحتًا أو آتيًا، بغالبه، من الخارج. وكلاهما مطلوب.



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).